• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الفن من منظور إعلامي – إتصالي

د. تيسير مشارقة

الفن من منظور إعلامي – إتصالي
كان لإزدهار وسائل الإعلام دوراً كبيراً في دفع حركة الغرافيك إلى الأمام، وفتحت المجال واسعاً أمام إزدهار عملية التصوير الفني (التشكيلي) فانشغل فنانون معاصرون بالرسم من خلال أجهزة الكمبيوتر وتحولت الفرشاة وقلم الرصاص إلى أدوات إلكترونية واستطاع جهاز الكمبيوتر اختلاق آلاف الألوان وأطيافها وتدرجاتها.
 
- الفن التشكيلي بين الرفض والقبول:
يخضع العمل الفني التشكيلي، مثله مثل الأعمال الأدبية والسينمائية، للعلاقة التواصلية (الميديالوجية)[1] في التلقي، وتبقى معادلة (الفنان – العمل الفني – المتلقي) صعبة وغير قابلة للتحقق إذا لم يُدْرك طبيعة كل طرف وخصائصه.
وهناك صلة بين الفن والمعرفة، كون المعرفة تقدم مضامين وأفكار جديدة للفن، ولأنّ المعرفة تقدم الأساس النظري والمنهج للتحليل. فالمعرفة تقدم الأدوات النقدية التي تدرس العمل الفني واتجاهات التطوّر والأساليب وعملية التأثير أو الاستجابة. وقلّما يستند النقاد إلى منهج التفسير الإعلامي (الميديالوجي) في تفسيرهم ونظرتهم للأعمال الفنية وغالباً ما يلجأون إلى أدوات نقدية أخرى. ولما يختلط على المتلقي، متذوق الأعمال الفنية، تصنيف الفن أو فهمه أو تذوّقه، يحاول أن يستند إلى مخزونه البصري أو المعرفي في التأويل أو التفسير أو الفهم. ولكن قليل من النقاد من يلجأ إلى مداخل سهلة تحقق له الوصول إلى الغرض المطلوب: أي تذوّق المُنتَج الفني.
ويلجأ النقاد عادة إلى ثلاث طرق رئيسية لتحليل الأعمال التشكيلية والفنية عموماً:
·       الطريق الأوّل: أن يلتفت الناقد أوّل ما يلتفت إلى الفنان، صاحب العمل الفني، ولربما هذا المدخل من أقدم الأساليب المتبعة في الوصول إلى اللوحة أو العمل الفني. وهذا المدخل مهم جدّاً، فهو يقدّم لنا الكثير عن خلفيات أو ما ورائيات الفن. فهو يوصلنا إلى الدوافع والحوافز التي دفعت بالفنان لإنجاز عمله الفني ويؤدي بنا أيضاً إلى فهم طبيعة العلاقة بين الفنان وعمله، وهذا المنهج أقرب إلى علم النفس، كونه يتناول الإنسان نفسه بالنقد النفسي، مفتشاً في سيرته، وحياته، وانفعالاته وبيئته والمحطات الرئيسية في حياته. فيقتصر هذا الطريق على فهم المرسل (الفنان) كأهم طرف في المعادلة وهذا غير كاف.
·       الطريق الثاني: وهو الذي يعالج العمل الفني نفسه (اللوحة الفنية، المنحوتة، الأدوات المستخدمة في الانجاز). فهناك من يلجأ إلى تفكيك العمل الفني إلى أجزائه أو عناصره (خاماته) الأولى، ويضعها على مشرحة التحليل. وهذا الطريق أقرب إلى المنهج الأرسطي (من أرسطو) في الأدب الذي لجأ إلى فهم (قواعد) الشعر والبنية من خلال العمل نفسه. وجاء من بعد أرسطو البنيويون لينهجوا (تقريباً نفس الأسلوب فدرسوا العلاقات الثنائية في العمل نفسه، من انسجام وتناقض، فقط دون التفاتة إلى السياق ويفتقر هذا المنهج في الغالب إلى العمق، فهو يناقش العمل الفني (اللوحة مثلاً) بشكل شكلي، أي ما يوحي به مشهدها الظاهري أو الخارجي، فيما عزل العمل عن سياقه التاريخي (الزمكاني). فالسياق هام جدّاً في أي عمل فني ولا يمكن عزله عن محيطه الذي نما فيه.
·       الطريق الثالث: حاول نقاد آخرون الوصول إلى فهم أفضل للأعمال الفنية من خلال طريق (المتلقي) بالإلتفات الكبير إلى متلقي الفن. وهذا الطريق سلكه أفلاطون، واستفاد منه نقاد القرون الوسطى، فاهتم هؤلاء بالمتلقي، بالمشاهِد.
 
- والمتلقي ينقسم إلى عدة أنماط اشتهر منها ثلاثة أنماط:
المتلقي العنيد، وهو المشاهد المثقف الذي لا يمتثل تماماً لسطوة العمل الفني ويقوم بتحكيم عقله أكثر من وجدانه في فهم العمل المرئي. وينبغي على المبدع (الفنان) أن يهتم بهؤلاء الناس بأن يقدم لهم مفردات بصرية (لونية ورموز ثقافية) كافية لاقناعهم بأهمية المشهد البصري.
وهناك أيضاً المتلقي الحساس الذي يتذوّق الفن بملء جوارحه ويبقى أسير عواطفه والألوان الزاهية ذات الضوء العالي ولا يُحتكم تماماً لآرائهم في التقييم، فهم سطحيون في الرؤية، وينطلقون من أحاسيسهم ومشاعرهم السطحية في نقد العمل، فيقولون – مثلاً – انّ "اللوحة جميلة" أو "اللوحة بشعة". أما الجمهور اللامبالي، فهو غير المكترث للأعمال الفنية.
 

 - وهنا ينبغي الالتفات إلى مسألتين لجذب اهتمامه:

أوّلاً: يخلق الفن الواقعي، وضوح المشهد، في العمل الفني نوعاً من التواصل مع المشاهد وهذا لأنّه يعتمد على الصيغة الفنية العالية والأُلفة للمشهد الموجود وتماثله مع الواقع الخارجي.
ثانياً: أمّا بالنسبة للفن الحديث والاعمال الحديثة، فمن الصعوبة خلق تفاعل ما بينها وبين الجمهور غير المكترث، الذي يحتاج بالإضافة إلى الثقافة البصرية والفنية والجمالية التي تلعب وسائل الاتصال والاعلام المعاصرة على تنميتها، إلى مفردات أخرى قريبة من الواقع. فالفن الحديث تجربة تخصصية، يشارك فيها أدباء وفنانون ومفكرون، والشخص غير المبالي في الواقع يجهل الحالة التي تولّد من خلال تلقيه للعمل الفني. ونعتقد أنّ المسألة معقدة لسحب غير المبالي إلى أفق المبالاة، لأنّ في الأمر يتدخل الجانب التربوي والبعد الاجتماعي والإنساني. وهذا يتطلب من المرسل (الفنان) فهم طبيعة الجمهور وكيفية النفاذ إليه من خلال بذل مجهود أكبر.
وللفن وظيفة إعلامية/ اتصالية (ميديالوجية) هامة في الحياة، فعن طريق اللوحات الفنية، لا عن طريق فرمانات الملوك والأباطرة استطعنا أن نكتشف ما جرى في العصور الوسطى بشكل مباشر. اللوحات الفنية كشفت أسرار ذلك العصر من خلال ملابس البشر، بيوتهم، عاداتهم، نمط حياتهم، الأسلحة المستعملة، بلاطات الملوك، وخانات الفقراء والمسافرين.
والأعمال الفنية كالرواية والشعر، تتمتع بمكر فني جميل، فتقول الكثير نيابة عن الفنان، فما يعتبر ميتاً أو منتهياً أو غير مرئي، ترد إليه الحياة وما اعتبر خطراً ومحرماً احتال عليه الفنان من خلال اللوحة ورشقة الألوان وحركة الفرشاة أو ازميل النحات، واحتالت عليه أيضاً من خلال دفقة الترميز والأسطرة للمواضيع المطروقة، فأوصلت الرسائل التي يصعب أن تصل بطرق أخرى. الأعمال الفنية فعلت ذلك بطريقة فنية، أغلب الأحيان، بطريقة غير مباشرة، سجّلت الأحداث والهموم والمشاعر، فشكلت التاريخ اللوني الجمالي الموارب للحدث الرسمي أو بديلاً عنه، وأصبح المتلقي (المشاهد) قادراً على الاستنتاج والمقارنة والفهم.
وكان لإزدهار وسائل الإعلام دور كبير في دفع حركة الغرافيك إلى الأمام، وفتحت المجال واسعاً أمام ازدهار عملية التصوير الفني (التشكيلي) فانشغل فنانون معاصرون بالرسم من خلال أجهزة الكمبيوتر وتحوّلت الفرشاة وقلم الرصاص إلى أدوات إلكترونية واستطاع جهاز الكمبيوتر اختلاق آلاف الألوان وأطيافها وتدرجاتها...
وأصبح الفن المعاصر في ظل القيود المفروضة على تدفق الأخبار والمعلومات (من خلال الرقابة)، من أبرز أشكال التعبير نظراً لوجود الهامش اللوني والفضاء البصري الذي من خلاله يمكن أيضاً الوصول إلى المعلومات والأخبار دون مقص رقيب، وللفن بالإضافة إلى هذه الوظيفة، وظيفة ترفيهية، كالامتاع الذي تفتقر إليه أدوات التعبير الأخرى بشكل كبير.
اللوحة التشكيلية واللغة البصرية لا تتحدث ولا تقول ولا تصدر صوتاً بل تشي أكثر مما تتكلم، ولا قوانين تحكمها مثل وسائل الاتصال والاعلام السمعية والبصرية، بل تبوح بصمت، هناك (شبه لغة) تتحدث وتقول وتلتقط القلب والنفس من خلال العين.
ما هي الشروط لهذه التواصلية المطلوبة في معادلة الفنان – العمل الفني – المتلقي؟ أن يمتلك العمل الفني لمفاتيح محددة يستطيع من خلالها الفنان تجاوز أو اختراق دائرة الآخر (البعد الذاتي للمتلقي) أي أن يعبّر بذاته إلى الآخر، بحيث يصبح المشهد الفني مشتركاً بين المبدع والمتلقي من خلال تقنيات عدة.
أن يثير قضايا عامة مشتركة من خلال رؤية ذاتية، فالرموز والاسطورة وسائل بصرية تسحب المشاهد من عزلته إلى عوالم بصرية وطقسية لم يعتد عليها في حياته العادية.
والرموز والأساطير وسائل تواصلية تقدم للمتلقي شيفرات محددة وتدفع به إلى اكتشاف المجهول أو محاولة اكتشاف الذات.
وهناك من الفنانين الذين ينشغلون بالغرابة "والمفارقات" التي تصدم وعي المتلقي (المشاهد) كإستخدام الرشقة غير الضرورية أو البقع باعتبارها أدوات لالتقاط انتباه المشاهد (المتلقي للعمل الفني).
وطالما الفن أحد وسائل الاتصال بين الناس، ففهم الفن يحتاج أيضاً لأساس اتصالي ومن هنا تبرز معادلة أخرى هامة:
الناقد الفني – الفنان – المتلقي.
فالفنان الإنسان ينقل أفكاره إلى الآخرين عن طريق الألوان، والفنان لا يخرج عن كونه أداة تواصل بين الأفراد. فالعين والعقل أدوات أو وسائل تواصل واتصال. والاتصال هو حقيقة أساسية للوجود الإنساني، فلا حياة بلا اتصال ولا اتصال بدون حياة.
وإذا أردنا أيضاً أن ندرك الطبيعة الاتصالية للفن التشكيلي كفن من الفنون الرفيعة، فلابدّ لنا أن نسلك عملية التفسير الإعلامي – الاتصالي (الميديالوجي) للفن على أساس من العبارة الاتصالية الشهيرة للإعلامي هارولد لاسويل:
من؟ (الفنان).
يقول ماذا؟ (الرسالة الإبداعية والفنية).
لمن؟ (الجمهور المتلقي).
بأية وسيلة؟ (اللوحة، وسائل الاتصال الجماهيري...).
وبأي تأثير؟ (ما تأثير العمل الفني؟).
وينهار العمل الفني إذا اعترى هذه الأسئلة، وهن أو لبس. ومن هنا نتصور النموذج التالي لعملية التلقي الفني:
الفنان – العمل الفني – الوسيلة – المستقبل
الاستجابة
ويعتري هذه السلسلة في النموذج المذكور أعلاه ضعف إذا وهنت حلقة من حلقاتها.
والمنهج الإعلامي في تفسير العمليات الاتصالية بين الفنان والمتلقي من خلال اللوحة يعتمد بالأساس على مجموعة من الفروض والملاحظات واجراء التجارب والمقارنات والقياس. وللمنهج (الميديولوجي) أيضاً سياق، فهو يستند على الفلكلور والانثروبولوجيا والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس... إلخ. ويظل العمل الفني (اللوحة، الوسيط الفني Medium) أهم حلقة في العمليات الاتصالية، فهو مفتاح للحوار.. وحتى يكتمل العمل الفني الناجح ينبغي أن يكون له المقوّمات (العناصر) التالية:
الخيال الخصب، الفكرة الجديدة أو الحقيقة المرئية والعاطفة (أو التجربة الفنية) والأسلوب.
وينتقل العمل باستكماله لشروط كثيرة، ومنها شرط العدوى (Contagion) ودرجة العدوى هذه تتوقف على ثلاثة أمور:
الاصالة، أو الفردية أو الحدّة في العواطف والأفكار، اخلاص الفنان لفكرته أو الشدة في البوح والعواطف التي يراد التعبير عنها.
 

 - الفن وجدلية التلقي:

الاقتراب من العمل الفني كالاقتراب من الجمر. فاللوحة التشكيلية مثلاً، أشبه بالموقد المتّقد بالألوان. وتكتوي العينان بحرارة الألوان لتصل إلى دفء دفين، عميق هو عنوان اللوحة وموضوعها.
اللوحة الحميمية تدعو المتلقي للإقتراب من عوالمها وأسرارها "فقد تعوّدنا أن نترك مسافة فاصلة بيننا وبين جدار المعرض تتيح لنا التمعّن أكثر في جمال المعروضات، وكان البعض منا يبتعد مسافة إضافية أخرى ليلم بمشهدها العام وهو يميل برأسه يميناً وشمالاً. ولذلك عمدت أغلب قاعات العرض لترك فسحة مناسبة تتيح من خلالها للمتلقي أن يختار المسافة الملائمة التي يرغب منها في تأمل الأعمال الفنية، بل أنّ البعض كان يضيّق من عينيه وهو يتطلع إلى اللوحة من المسافة المعلومة ليخلق ابتعاداً وهمياً عنها من أجل تغييب التفاصيل الدقيقة والكشف عن الملامح العامة وتجانس الألوان للعمل الفني ككل كإحدى أساليب تذوّق العمل الفني التشكيلي" ويعمل بعض الفنانين على تصغير لوحاتهم في "مصغّرات" أو لوحات صغيرة في محاولة لتكثيف المضمون وضغطه إلى أقصى درجات التكثيف، لا لشيء إلا لاختزال الأفكار وتمرين على الاختصار والاقتصاد (في الأدوات والألوان) من جانب آخر. وقد يقوم أحد الفنانين بتصغير لوحات كبيرة بشكل ميكانيكي (على شكل بطاقة بريدية أو ما شابه ذلك)، ولكن اللوحة الصغيرة تبقى لها اشتراطاتها الفنية الخاصة بها، وعين المتلقي تحوّل العمل الفني الصغير إلى ممكناته التخييلية بغض النظر عن حجمه "فإن خيال المتلقي سيعيد اللوحة إلى حجمها الحقيقي وهو يتعامل معها كعمل فني ولن تكون لوحة كبيرة باشتراطات اللوحة الصغيرة، أو العكس.
 

 
[1]- مصطلح (ميديالوجي) استخدمه المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه في كتابه "محاضرات في علم الإعلام العام – الميديولوجيا" ترجمة فؤاد شاهين وجرجيت الحداد، دار الطليعة للنشر – بيروت 1996. أما منهج التفسير الإعلامي فقد استخدمه د. محمد عبدالمنعم خفاجي، د. عبدالعزيز شرف في كتابهما "التفسير الإعلامي للأدب العربي" الصادر عن دار الجيل – بيروت – 1991 الطبعة الأولى. والمنهج الميديالوجي فيه اجتهادات كثيرة، ويكمن اجتهادنا الخاص فيه اننا نحاول محاكمة أي انجاز ابداعي أو ظاهرة حياتية وفق هذا المنظور من خلال أسئلة وافتراضات عدّة، وبخصوص استخدام هذا المنهج في معالجة الفن طرحنا على أنفسنا الأسئلة التالية: هل الفن من وسائل الاتصال بين الناس؟ وما هي الطبيعة الاتصالية للفن؟ وكيف يجيب الفن على الأسئلة الاتصالية المعروفة لهارولد لاسويل – من؟ يقول ماذا؟ لمن؟ بأية وسيلة؟ وبأي تأثير؟ وكذلك حاولنا الإجابة على سؤال: ما هو الدور الاتصالي أو التواصلي للفن؟

ومما سبق، نفترض أنّ الميديولوجيا تعني علم الإعلام العام. أما الميديالوجيا فهي منهج التفسير الاتصالي أو الإعلامي. وهذا من اجتهادنا.

*المصدر: كتاب (مبادئ في الإتصال)

ارسال التعليق

Top