نتناصح فيما بيننا في الكثير من الأحيان عند الإقدام على عمل، فنقول لمن نريد أن ننصحه: توكل على الله. وهي نصيحةٌ ذهبية، وإن كان الكثير يغفل عن حقيقتها، ومضمونها، وآثارها الإيجابية في الحياة؛ لا سيما إذا عرفنا أنّ الله تبارك وتعالى أمر عباده المؤمنين بالتوكل عليه كما في قوله تعالى: (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (المائدة/ 23)، وأثنى على عباده المؤمنين بأنّهم يتوكلون عليه، ووعد مَن يتوكل عليه بأن يكفيه ما أهمُه وأحزنه واحتاج إليه. قال الله تبارك وتعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق/ 2-3). وقرأ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية على أبي ذرّ (رضي الله عنه) وقال: «لو أنّ الناس أخذوا بها لكفتهم»، ويعني ذلك لو أنّ الناس حقّقوا في أنفُسهم التقوى والتوكل على الله تعالى لاكتفوا بذلك في مصالح دينهم ودُنياهم.
قد يعتمد المرء على ربّه في تحقيق ما يريد، ويقوم بالأسباب التي من شأنها أن تحقّق له ما يريد، لكن ما يزال في قلبه اضطراب أو انشغال. فقد يثق بالأسباب أكثر من ثقته بربّه، أو بدرجة متساوية معها. فإذا وصل الإنسان إلى اعتماد قلبه على الله عزّوجلّ وحده في جلب ما يريد من مصلحة، أو لرفع ما يكره من ضر، وثبت هذا الاعتماد وصدق، فعندئذ يصل المرء إلى حقيقة التقوى.
إنّ مَن يثق بالله تعالى ثقة تامة فالله تعالى يرزقه ويمده بما يحتاج إليه. ولطالما كانت قضية الرزق هي الشغل الشاغل للناس - فقرائهم وأغنيائهم - لا يرتاح من عناء التفكير فيه إلّا مِن أسلم نفسه وقلبه لله تعالى، ووثق بالله ثقةً لا تهزها الأحداث ولا تضعفها النكابات. وذلك لأنّ مَن أيقن أنّ الله تعالى هو وحده الذي يعطي، ويمنع، ويخلق، ويرزق، ويضر، وينفع؛ فإنّ الله تبارك وتعالى لا يخيب ظنّه، ولا يضيع دعاءه فيرزقه ما يحتاج إليه من الخير، ويمنع عنه ما يؤذيه من ضر، ويكفيه دنياه وآخرته لأنّه جواد كريم.
وقد يتمنى المرء أمراً ويسعى في تحصيله بكلّ ما أوتي من قوّة وجهد، ثمّ لا يوفق في تحقيقه ونيله. فأمّا المؤمن فيوقن بأنّ ما أراده لم يشأه الله تعالى له أن يناله، وإنّ له أجراً على سعيه في الخير؛ فيحصل له الرضا بالثواب المدخر على جهد لم يحصل ثمرته في الدنيا. فكان الرضا بالقدر ثمرة أُخرى من ثمار التوكل.. والمتوكل على الله تعالى قد أوى إلى ركن شديد، واعتمد على مَن لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؛ فكان أقوى حالاً من غيره.
والمتوكل على الله تعالى رابح دائماً يربح مدداً وإفضالاً وإنعاماً من الله تعالى، ورضىً وثواباً ونعيماً في الآخرة، مقابل جهد بسيط ميسور. بينما الغافل عن هذا نجده محروماً من كلّ خيراتِ وثمارِ التوكل. ولما كان التوكل على الله ربح لا خسارة فيه، وفوز لا تعب معه؛ كان شعار الصالحين الإكثار من الدُّعاء المأثور: «اللّهُمّ اجعلني ممّن توكل عليك فكفيته».
فمن رزقه الله صدق اليقين، والتوكل، وعَلِم من الله أن يخرق له العوائد، ولا يحوجه إلى الأسباب المعتادة في طلب الرزق ونحوه؛ جاز له ترك الأسباب ولم يُنكر ذلك عليه. ومعظم بلاء الناس في التوكل يأتي من قلة تحقيقهم، ووقوفهم عند الأسباب الظاهرة بقلوبهم واطمئنانهم إليها؛ فيتعبون في تحقيقها ولا يأتيهم آخر الأمر إلّا ما قدَّر الله تعالى لهم. ولو حقّقوا التوكل على الله تعالى لساقَ إليهم الرزق مع أدنى الأسباب كالطير ترزقُ بمجرد الغدوّ والرواح.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق