د. إبراهيم الجعفري*
◄يكتسب الحديث التربوي حول الشباب أهميةً خاصة، لأنّه يستهدف بناء الشخصية، وهي في مرحلة التحول الأساسي، الذي يتميز بأنّه متعدد في عناصره المكونة لذلك التحوّل، كما أنّه ذو انعطافة حادّة على غير السياق التغيري الذي درج الشاب عليه في مرحلة ما قبل المراهقة والشباب، وحتى يختلف – عموماً – ومن حيث الحدّة عما يعتري شخصيته في المرحلة التي تلي الشباب.
فعلى المستوى العقلي مثلاً ينتقل من مؤمن بكل حقيقة إلى مستفسر عن أدلة اثباتها من مُجترٍّ ومكرّرٍ للاهتمامات العقائدية والفكرية التي تطرحها عليه الأسرة والآخرون إلى مولّدٍ ذاتي للأسئلة التلقائية التي تدور في خلده.
ومن الناحية النفسية يتحول من حالة الانفعال الذاتي (السلبي) إلى الانفعال البنّاء، من حالة الانكفاء على الذات إلى حالة المواجهة، من عدم الاهتمام بالآخرين إلى محاولة فهمهم والتعامل معهم، من غاطس في أفق حاضره إلى متطلع إلى مستقبله.
وعلى مستوى الأسرة، من الانصياع لإرادة الوالدين إلى الانضباط الذاتي، من التلقي من الوالدين إلى التفاعل معهم كأصدقاء، من الشعور الفردي اللامسؤول إلى الإحساس بالمسؤولية تجاه الأسرة، من الفطرة الاحادية المستوحاة من الأسرة في تقييم أفرادها إلى النظرة الموضوعية المنفتحة على المجتمع في التقييم.
ومن الناحية الاجتماعية يتحول – غالباً – من رفض التعامل الاجتماعي إلى قبوله، من مستوى التزمّت في العلاقة إلى مستوى التعايش، من مستوى التطرف في القبول المطلق أو الرفض المطلق للمعطيات الاجتماعية إلى الفرز – القيمي – والقبول الانتقائي، من عدم مراعاة الجانب الاجتماعي إلى احترام العرف، من الاهتمام السطحي الجذّاب إلى محاولة التعمّق ووعي الحقيقة، من اللامبالاة إلى الشعور بالمسؤولية.
إضافة إلى تحولات أُخرى، ليست أقل أهمية من هذه إن لم تضاهمها أو تفقهاً أحياناً مثل ما يعتريه من وضع غريزي جنسي ضاغط، نزعته الاستقلالية ورفضه للحالة التبعية، تطلعه إلى التخصص وتحديده لمساره المهني والعلمي، تفكيره وتخطيطه للعلاقة الزوجية.
هذه مجمل التغيرات التي يتعرض لها الشباب وبصورة غالبة وليست قطعية بكل مفرداتها.
إنّ مثل هذه الانعطافة حملت كثيراً من علماء النفس على تفسير المراهقة بانها حالة غير طبيعية، حيث "يشعر المراهق بالضياع.. إلى أن يصل إلى مرحلة النضج".
أما "فرويد" و"ستنالي هول" فهما يفسران مرحلة المراهقة: "هي مرحلة الجيشان الانفعالي، والتناقضات السلوكية، وهي عرضة بوجه خاص إلى النكوص والإرتداد إلى كثير من الأمراض النفسية".
هذه العوامل الذاتية بالتغير في شخصية الشاب تضفي الأهمية على مثل هذا الموضوع، إضافة إلى عوامل أخرى منها شرعية وأخرى عرفية تصب بالاتجاه نفسه.
فالشريعة المقدسة تتعامل مع الشاب على أنّه مكلف ومسؤول عن كل تصرف من تصرفاته، وانّه عرضة للحساب في كل عملٍ حرام، وأفردت مجموعةً كبيرةً من الأحكام الشرعية تتناول شخصية الشاب في أوجه متعددة – عبادته، تعامله مع أبويه، حقه ومسؤوليته في الزواج، طلبه للعلم، خوضه مجالات التكسب، علاقاته بالآخرين، انخراطه في الاتجاه السياسي... وبذلك دخلت الشريعة على شكل رقابة في حياة الشباب، سواء مورست هذه الرقابة من قبله ونبعت من داخله أم اتخذت بصفة موضوعية مورست عليه من خارجه.
أمّا الجانب العرفي فقد تحرك هو الآخر على صعيدين في عالم الشاب:
الصعيد الأوّل: الحس الاجتماعي لديه وما يمنحه ذلك من رصيد يتناغم مع رغبته النامية ويتفاعل مع قناعاته بالشكل الذي يجعله جزءاً من الواقع الاجتماعي الذي يحيط به ويشترك معه في المتطلبات والأهداف والمعايير.
الصعيد الثاني: وهو دخول المجتمع عنصر تقييد لحركة الشاب، يحمله على ضرورة مراعاة اللياقات الاجتماعية، خاصة وانّ الشريعة المقدسة راعت بعضها وحملت الشاب على أخذها بنظر الاعتبار "من وضع نفسه في موضع التهمة، فلا يلومن إلا نفسه" فإذا كان قبل هذه المرحلة يفكر بمردود كل عمل على أساس ما يُحدثه في داخله من الناحية النفسية أو مدى قناعته المجردة عن كل شيء، فإنّه بدا منذ الآن يفكر بالجائز والحرام من وحي الرقابة الشرعية "المسموح الشرعي" كما يفكر في حدود ما سمحت به الشريعة كذلك "بالمألوف العرفي" لأنّ الرقابة العرفية هي الأخرى أخذت تلاحق مسيرته وهو في مرحلة الشباب، لا كما كان عليه في مرحلة الطفولة وحتى الصبا.
حَريٌّ بنا الآن أن نحدد مفردات العنوان، وما هو المقصود بها؟
ما هي "التنمية" وما هي "الأصالة"؟ وما هو "التجديد"؟
1- التنمية:
لا نريد بالتنمية معنى التقادم الزمني المجرد أو الفرق الحيوي "البايولوجي" أو النمو العلمي والثقافي المجرد مهما كانت طبيعة تلك العلوم، أو الفارق الذي يحدث بنمو الشباب بين زمن وآخر جرّاء تحليّه الظاهري بصفات معينة واعتياده على ممارسات ما ومراعاته للياقات إضافية لم يكن قد تحلّى بها أو راعاها سابقاً، بحيث تكون العملية أشبه ما تكون بوضع اللبنات لاقامة جدار عال، دون أن يكون ثمة ترابط مشترك بين هذه الوحدات البنائية أو أي تفاعل فيما بينها، وإنّما نريد "بالتنمية" وهي عملية "التربية" أو عملية "التغيير" وهذه العملية "التنموية" تتطلب أن يتزود الشاب بالفكر ويحوّل ذلك الفكر إلى ممارسة وبذلك يحدث في نفسه اضطرادات بالنمو من خلال سلوكه الفردي والاجتماعي، فيكون بذلك تقادم الزمن أو تحصيله الثقافي أو بناؤه البدني والاجتماعي عوامل يمكن أن تصبّ في إثراء مسيرته التربوية. هذا هو باختصار ما نريده بمفهوم "التنمية".
2- الأصالة:
من الناس من يتخذ من (القِدَم) أصلاً له بالتعامل والتقييم، وبناء على ذلك يفهم الأصالة هو التمسك بالقديم لقدمه، فهو حين ينظر إلى القديم وقد انحدر عبر أجداده وآبائه ليصل إليه لا يقوى على تجاوزه ولا يتصور أن يرقى إلى قداسة ذلك الأصل مقدسٌ آخر "أصالة القدم".
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الشريحة من الناس في أكثر من آية شريفة.
(إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف/ 23)، (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (الزخرف/ 22).
فقد كان موقف هذه الشريحة الاجتماعية سلبياً دائماً من كل تغيير أو تحول، لأنّه – من وجهة نظرها – يمسّ المقدس "أصالة القدم" فحاربت كل جديد وتحفظت عليه وفاءً لذلك "المقدس".
والأصالة عند بعض الناس تنبع من فكرٍ منغلق يتوجّس من الفكر الآخر ولا يقوى على مواجهته، ولذلك يرفضه جملة وتفصيلاً، ومثل هذا النمط من الناس يفتقر إلى وعي الآخر، كي يقف من موقع الوعي على نقاط القوة والضعف ونقاط الاتفاق والاختلاف.
إنّ غياب هذا الوعي "وعي المشترك" يحول دون رؤية الحقيقة عند الآخرين مهما كانت لديهم من مكارم.
الجامع لمثل هذه المصاديق هو غياب المفهوم الإسلامي للأصالة، فلا "التقدم" بذاته أصل إسلامي ولا "الذاتي الفردي" أو "الذاتي الاجتماعي" أو "الذاتي العنصري" هي الأخرى أصول إسلامية ولا "الانغلاق اللاواعي" كذلك أصل إسلامي.
إذن ما هي الأصالة؟
إنّها تعني تحديد أصلِ كل شيء وارجاع الشيء إلى ذلك الأصل، وحين نتحدث عن "الأصالة الإسلامية" فاننا ننطلق من الآية الكرية:
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) (إبراهيم/ 24).
فقيل المراد بالكلمة الطيبة: هي شهادة أن لا إله إلّا الله.
وقيل: الإيمان.
وقيل: القرآن.
وقيل: مطلق التسبيح والتنزيه.
وقيل: الثناء على الله مطلقاً.
وقيل: كل كلمةٍ حسنة.
وقيل: جميع الطاعات.
وقيل: المؤمن.
"والذي يعطيه التدبر في الآيات أي المراد بالكلمة الطيبة التي شُبهت بشجرة طيبة من صفتها كذا وكذا، هو الاعتقاد الحق الثابت فإنّه تعالى يقول بعد وهو كالنتيجة المأخوذة من التمثيل: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) (إبراهيم/ 27). والقول هي الكلمة ولا كل كلمة بما هي لفظ، بل بما هي معتمدة على اعتقاد وعزم يستقيم عليه الإنسان ولا يزيغ عنه عملاً.
وقد تعرّض تعالى لما يقرب من هذا المعنى في مواضع من كلامه:
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأحقاف/ 13).
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت/ 30).
وقوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر/ 10).
وهذا القول (الكلمة الطيِّبة) هو الذي يرتب الله سبحانه وتعالى عليه تثبيته في الدنيا والآخرة أصله وهم الذين آمنوا ثمّ يقابله باحتلال الظالمين ويقابله بوجه آخر بشأن المشركين.
وبهذا يظهر أنّ المراد بالممثل هو كلمة التوحيد وشهادة أن لا إله إلّا الله حقّ شهادته...".
وكذلك كل كلمة حقة وكل عمل صالح مثله هذا المثل، له أصلٌ ثابت وفروعٌ رشيدة وثمرات طيبة مفيدة نافعة.
فالمثل المذكور في الآية يجري في الجميع كما يؤيده التعبير بكلمة طيبة بلفظ الفكرة، غير انّ المراد في الآية على ما يعطيه السياق هو أصل التوحيد الذي تتفرع عنه سائر الاعتقادات الحقة، وتنمو عليه الأخلاق الزاكية وتنشأ منه "الأعمال الصالحة".
الأصالة الإسلامية بناءً على هذا الفهم القرآن هو التوحيد كأصل تتفرع عنه سائر الاعتقادات، وهو ذات الأصل الذي يمد الأخلاق بالنمو كما ترتكز عليه الأعمال.
من هنا احتل التوحيد موقعاً خاصاً في العقيدة الإسلامية، كما أصبح منطلقاً متميزاً للأفكار والقيم والممارسات، فما لم تتخذ الفكرة من التوحيد منطلقاً لها، وما لم تتحرك القيم في إطار التوحيد، وما لم يكن السلوك انعكاساً للتوحيد فَقَد كل ذلك عنصر "الأصالة الإسلامية".
والأصالة الإسلامية بهذا المعنى أكّد عليها كل الأنبياء والمرسلين (ع). وهي لذلك ليست وقفاً على قومية دون أخرى، أو حبيسة أرض معينة أو رهينة مقطع زمني دون آخر. وقد يقابل كلمة "الأصالة" الزيف". فمثلما نقول: إنسان أصيل وسلوكُ أصيل وفكرٌ أصيل، نقول: إنسان زائف وسلوك زائف وفكرٌ زائف.
المقابلة الصحيحة إذن بين الأصالة والزيف، وليس بين الأصالة والتجديد كما سيتضح ذلك.
3- التجديد:
مثلما تفاوتت وجهات النظر حول "التنمية" و"الأصالة" كذلك تفاوتت حول "التجديد"، فمنهم من فهم "التجديد" أن تتحدث بلغة اليوم وتفكر بعقلية اليوم، فما دمت مرتبطاً بالماضي وملتصقاً به، فلست مجدّداً وما دمت تأبى تناول المصطلح المعاصر بما له من بريق وجاذبية، وما دمت تطرح الفكرة بأسلوب لا يعتمد الطرق الحديثة من الاستعارات التجديدية المعقدة، إذن أنت لست مجدداً. فإذا كانت للتجديد سمات، فإنّ من نفس سماته "غرابة المصطلح" و"تعقيد الفكرة" و"التواء الأسلوب".
ومنهم من اعتبر "التجديد" هو "المدنية" بكل ما تحمل في أشواطها المعاصرة من ارهاصات علمية واكتشافات وفنون وقدرات اقتصادية واختراعات وتطوير في طرق العيش، وبالتالي فإنّ من دواعي التجديد أن نتطلع إلى "المتفوق المدني" ونترسم خطاه ونقتفي آثاره ومثل هذه النظرة "نظرة الانبهار" تعمي الأبصار عن كل المساوئ التي منيت بها مجتمعات الغرب التي تفوقت مدنياً وعلمياً لكنها تراجعت من الناحية الأخلاقية والسلوكية. وتترافق مع هذه النظرة نظرة أخرى لكل التاريخ والتراث "نظرة دونية" تخجل من استلهام أيّة فكرة أو قيمة مهما عظمت لأنّها تفتقر إلى أفق التقدم الصناعي والعلمي والاقصادي الذي تستطيع أن تتحرك فيه.
ومنهم من اعتبر "التجديد" من استحقاقات سيطرة القوة وسيادة القوي سياسياً أو عسكرياً، فالقيمة تتبدل بتبدل ميزان القوى، ولما كان عالم اليوم تسوده قوى الغرب بما لها من امكانات مادية وعسكرية وادّعاءات سياسية عريضة، فإنّ التفاعل مع هذا الواقع هو التجديد بعينه. وإنّ الانشداد إلى الخلف والإصرار على إحيائه ضرب من اللاواقعية لأنّه لا يقوى على تجميد الحاضر مثلما لا يستطيع أن يحرّك الماضي؟
"التجديد" يعني التعامل مع المتغيّر على أساس ما يفرزه من نتائج ومسوغات موضوعية مطابقة للحقيقة الثابتة التي ينطلق منها الإنسان، أي انّ التجديد بمفهومه الصحيح هو تأكيد الأصالة وليس نقيضاً لها. ربما يقف التجديد مقابل التجميد لأنّ الأوّل يستهدف التعامل مع المتغير بموضوعيته، والثاني يكون عائقاً أمام حركته.
علاقة الأصالة بالتجديد:
عودة إلى جو الآية الكريمة:
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا...) (إبراهيم/ 24-25).
أصلها ثابت "انها الأصالة الإسلامية" التي لا تتبدل لأنها تعبّر عن الحقيقة، المطلقة وهي التوحيد وما يترتب على التوحيد من لواحق إيمانية. إنّ هذا الأصل مدّ فروعه في حياة الإنسان وأعطى لكل عصرٍ حصة من العطاء الزاخر، هناك عطاءً "أكُلها" وهناك امتداد زمني – تجديد – "كل حين"، وهناك ترابط عضوي بين الأصل والفرع بين الأصالة والتجديد (بِإِذْنِ رَبِّهَا) مثلما ينطلق الإنسان المؤمن من قاعدة التوحيد في الحياة ليرسم مساره ويحدد سلوكه ومثلما يتطلع إلى العطاء المتدفق على مستوى التجديد المرتقب كذلك يفترض فيه أن يحقق هذا الارتباط والوصول إلى كل ألوان العطاء الزاخر من خلال نفس الروح الإيمانية التي تبقى متفتحة على العقيدة التي انطلقت منها لتواصل شوطها مع كل جديد وتحدد موقفها على وفق نفس المعيار الإيماني بالرفض والقبول.
لقد حثّ الإسلام المؤمنين على الانفتاح المتجدد مع كل بادرة واستثمار كل مناسبة من أجل الوصول إلى الحقيقة "الأصالة". إنّ تأكيد القرآن الكريم طلب العلم (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة/ 11)، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر/ 9)، (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28)، تأكيد الوصول من خلال المستجد الذي يكشفه العلم في إطار الإيمان إلى تأكيد الأصل التوحيدي وما يترتب عليه. كذلك الروايات الشريفة "اطلب العلم ولو في الصين" "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة" انّه الانفتاح على الواقع ومن قبل كل المسلمين لا انغلاق ولا محدودية. على بعض دون بعض، بل النظر إلى الحكمة على انّها ضالة لابدّ من البحث عنها ومعرفتها فقد جاء في الحديث الشريف "الحكمة ضالة المؤمن.. فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق".
ركّز الإسلام على الشباب بالذات في طلب العلم، فقد جاء في الحديث الشريف "انما قلب الحدث كالأرض الخالية ما أُلقي فيها من شيء إلا قبلته" "العلم في الصغر كالنقش في الحجر".
لما كان العلم في بعض مجالاته انفتاحاً على المتجدد وما يحمل من حقائق، فإن اكرام العلم والعلماء وطلاب العلم معناه مواكبة الجديد والوقوف عليه. فلا تعارض ولا تنافي بين الأصيل والجديد، ولا مفر من التعامل على أساس "الأصالة والتجديد" معاً.
وعي الأصالة والتجديد:
نريد بالوعي تمييز مفهوم الأصالة عن كل ما يُحيطه من شبهة لا ترتبط بالأصالة بصلة من جانب وكذلك التجديد، ومن الجانب الآخر النظرة المتكاملة إلى كل من الأصالة والتجديد على انّهما متكاملان، فلا أصالة مع الانكفاء والانغلاق على الجديد ولا تجديد مع الانقطاع عن الأصالة، فإنّ ما أودعه الله تبارك وتعالى من حقائق في الكون، وما أمر من استخدام العقل لاكتشافه وسبر غوره، لهو الرافد الأساس في البناء الحضاري الإسلامي كما انّ الثبات والقرار على المرتكز المعنوي الذي يمثل الأصالة، هو الهوية والعمق الحضاري. فبمقدار ما ينطلق من وعي التجديد يكون أوسع أفقاً، وبهذين الوعيين، وعي الأصالة ووعي التجديد، يتم الحفاظ على صفة المبدئية الواقعية، وعندها لا معنى أن يعاني المؤمن من حالة الازدواج في التحرك أن يكون أصيلاً أم مجدداً مبدئياً أم واقعياً.
كما لا معنى لأن نتصور حركة المؤمنين على انهما ركبان، ركب "الأصالة" المنغلق وركب التجديد المنفتح، ركب الماضي والحاضر، ركب المتشدد والمتسامح، فكلها تصبح مقولات لا أساس لها من الصحة، ولا ينبغي التعويل عليها ما دامت لا تمت لحضارتنا بصلة.
قيمة الأصالة في حياة الشباب:
حين ينفتح الشاب على بيئة اجتماعية معينة بشكل عام أو بيئة غربية بشكل خاص، ومن أجل أن لا يتأثر ولو إلى حد ما بعادات وتقاليد وأفكار ذلك المجتمع بحيث يتزود في ضوء منهجه الفكري والمعرفي وكذلك أسلوبه الثقافي، وعليه فيقتضي أن يستقل بشكل كامل في جذوره الثقافية وقاعدته العقيدية. وإن هذه البيئة وإن كانت تشكل خطراً على الكبير كذلك، غير انّ الخطورة تبلغ أقصى مدى عند الشاب لأنّه لم يعايش "مجتمع الفكرة" و"مجتمع العقيدة" بل انّه مجرد يقرأ الفكرة ويؤمن بالعقيدة دون أن يصل حدّ التفاعل بمفرداتها مع الآخرين، ممن تربطهم واياه رابطة العقيدة، لذلك تراه يعيش أحياناً غربة التعامل مع مصاديقها، ولنضرب على ذلك مثلاً: الضيافة بالغرب أمر لا مسوغ له، خصوصاً حين يقترن بالبذل والعطاء دون مصلحة مادية معينة. وحين يدرج الشاب في مثل العرف "اللاضيافة" تجده يقف متحيراً في تفسير البذل والعطاء المادي حين يقتضي الأمر ذلك، بينما حين يعيش مفهوم الضيافة المرتبط بالعقيدة "الضيف ينزل برزقه ويرتحل بذنوب أهل البيت" وحين يتعاطى هذا المفهوم في عرفه الإسلامي مع الآخرين ويتعامل معه باستمرار تجده، يتطلع لتطبيقه ويستوحش في غياب قيم الضيافة في حياته.
حين ينطلق الشاب من موقع "وعي الأصالة" يستطيع أن يميز الأصيل عن الزائف، حتى إذا ادّعى المزيفون أنّهم يمثلون "الأصالة"، فكثيراً ما يقع الشباب تحت طائلة تأثير مثل هذه الدعاوى في محاولة لشدّهم إلى ممارسات وتجمعات لا تمت إلى الأصالة بصلة، وهي إما تكثر في وسط الشباب الذات، لأنّ الكثير منهم قد لا تتوافر له الحصة الكافية من الوعي والثقافة، لمعرفة هؤلاء وادّعاءاتهم على حقيقتها، اضافة إلى أنّ بعض الشباب يندفع بقوة في مطلع شبابه ليتغيّر لهذه الدعاوى أو تلك، ويضحي لهذه المجموعة أو لغيرها، خصوصاً إذا اكتست ثوبَ الدين والأصالة والتراث وما شاكل ذلك. فالشاب الواعي يدرك أيضاً أن الأصالة تقتضي التمحض بالإسلام والتشبع بمفاهيمه وأحكامه ولكن ذلك لا يعني بأنّه يحبس الإسلام في دائرةٍ ويعزله عن دوائر الحياة الأخرى بذريعة الأصالة.
قيمة التجديد في حياة الشاب:
إنّ التجديد يعني مواكبة "الأصالة" على هدي المعطيات المعاصرة وهذا يوفر للشاب حالة من النمو والكفاءة ما يؤهله بناء شخصيته بناءً إسلامياً قوياً، كما يؤهله للمساهمة ببناء أسرته وبلده في ضوء تلك المعطيات. إنّ البناء العقلي والنفسي يجعله يسابق الزمن وينفتح دون تردد على المستجدات، سواء كانت هذه المستجدات في مجال العلم أو الفن أو الرياضة أو أي مجال من المجالات، فإن نفسه تطاوعه أن يتوفر عليها، مثلما حثَّ الإسلام الآباء على دفع أولادهم في مثل هذه الميادين ما دامت انطلاقتهم من موقع "الأصالة"، فقد جاء في الحديث الشريف (لا تقصروا أولادكم على تربيتكم، فإنّهم خلقوا لزمان غير زمانكم).
المؤمن يسابق الزمن في كل شيء، وانّه يبحث عن كل مفردة جديدة من موقع تأصيلها وبذلك يمنح الجديد رصيد الأصالة مثلما يُكسى الأصيل ثوب الجدّة ومن أفضل ما يصل إليه المؤمن الشاب بالذات، انّه يجد أنّ كل جديد يؤكد أصالة مبدئه، وإن كل أصيل في عقيدته ومتبنياته يعاصر حياته ويتجدد مع مرور الزمن. ان ذلك يعمّق فيه روح الثقة ويمنحه زخماً كبيراً في البناء والحركة.
حين يتحرك المؤمن من موقع التجربة ينفتح على الآفاق الحياتية فيضفي على الإسلام بعده الواقعي وجدارته في بناء الحياة على هدي أحكامه، كما يتعمق إيمانه بقدرة الإسلام باستثمار كل الفرص التي من شأنها رفع كلمة الإسلام وإعادته إلى الواقع على المستويات المختلفة، كما انّه يستطيع أن يقف وبكل ثقة أمام الاتهامات التي تحاول أن توقف حركته بدعوى التخلف والتطرف واللاواقعية والتعصب، فهو يستطيع ومن موقع التجديد أن يطرح الإسلام بما ينسجم مع روح العصر، كما يرد على دعاوى الأعداء بحجج دامغة لا تقبل الشك، مثلما يستطيع أن يطرح بقوة قيم الإسلام وأحكامه التي تعالج مشاكل الناس، بعيداً عن المزايدات التي تنادي بها الدول الغربية الآن من أمثال حقوق الإنسان.
الأصيل والثابت والمتجدد:
انّ أمور العقيدة ومفاهيمها من الأمور الثابتة التي لا تخضع إلى النظرة المتجددة ولا تزيدها النظرة المتجددة إلا رسوخاً. كما انّ العبادة باعتبارها تمثل التعبير عن الجزء الثابت من الشخصية، فلا يتوقع لها أن تخضع إلى أي تغيير كالصلاة والصوم، وكذا سائر العبادات، اللّهمّ إلا في مقدمات بعض العبادات من أمثال الحج وتوفير مقدمات الراحة من حيث النقل والسكن والطعام، فتتوسع بتوافرها فرص الاستطاعة لكثير من المؤمنين ممن لم تتوافر لهم امكانية أداء الفريضة بغير هذه الوسائل.
إذاً عملية التنمية التي يحتاجها الشاب ليست طريقاً وسطاً بين الاصالة والتجديد، انّما هي الأصالة بعينها من منظور مبدئي، كما انّها التجديد ذاته من زاوية واقعية. فما يثبته الواقع من صلاح بالمعيار القيمي الإنساني – يجد له أساساً في الشريعة ولو بخطها العام.
وإذا كان الشاب يعمق من نظراته المبدئية لكل مفهوم عقائدي ولكل مفردة عبادية ويتسلح بالأفكار والنظريات الإسلامية في بناء شخصيته، فإن تطلعه لكل جديد في إطار ما تسمح به الشريعة الإسلامية يجعله يعيش الإسلام الواقعي الذي يمثل "عمق الأصالة" وروعة "التجديد".►
*كاتب إسلامي مقيم في لندن
ارسال التعليق