كان الامام علي عليه السلام يعيش قلق الدَّعوة إلى الله، وقلق الوعي الّذي يحتاجه الناس. ومن هنا، فقد كان(عليه السلام) يبتدئ النّاس بالحديث، وكان يجيبهم إذا سألوه، بل كان يستحثّهم ليسألوه، ونحن نعرف كيف كان يردِّد بين وقتٍ وآخر قوله: «سلوني قبل أن تفقدوني»، وكان يحدِّثهم: «علَّمني رسول الله ألف بابٍ من العلم، فتح لي كلّ بابٍ ألف باب»، كان لديه علم الإسلام كلّه، وكان يريد للمسلمين أن يرتفعوا إلى مستوى العلم، أن لا يكونوا مسلمين مع الجهل بالإسلام، لأنَّ مشكلة المسلمين الكبرى، هي أنهم يجهلون إسلامهم، وهو ما يفتح الباب أمام المنحرفين والمعادين للإسلام ليدخلوا إليهم كلّ الانحراف باسم الثّقافة الإسلاميّة.
همّ تعليم النّاس
إنَّ الإنسان الَّذي يعرف الثّقافة الإسلاميّة، يستطيع أن يفرّق في كلّ ما يُقدَّم إليه، بين الخطأ والصّواب، بين الحقِّ والباطل. أمّا الجاهلون، فإنهم قد يلتزمون الباطل على أساس أنّه حقّ، وقد يرفضون الحقّ على أساس أنّه باطل. لذلك كان كلّ همّه(عليه السلام) أن يعلِّم النّاس، وكان يعيش الحسرة وهو يشير إلى صدره «إنَّ ههنا لعلماً جمّاً لو وجدت له حملة».
ومن هنا، فإنَّ ذكراه ينبغي أن تدفع كلَّ مثقَّف بالإسلام، وكلّ عالم بالإسلام، إلى أن يستنفر كلَّ طاقاته العلميَّة والثقافيَّة في سبيل أن يوصلها إلى النّاس، لأنَّ العلم ليس امتيازاً لصاحبه، ولكنّه مسؤوليّة، ولا سيّما إذا انتشر الضَّلال والبدع بين النّاس، فقد ورد عن عليّ(عليه السلام) قوله: «ما أخذ الله على الجهَّال أن يتعلَّموا، حتى أخذ على العلماء أن يعلِّموا». ولقد ورد في الحديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا ظهرت البدع في أمّتي، فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله».
فعلى من يتسلَّم زمام المبادرة أن يلاحق النَّاس، وأن ينفتح عليهم، وأن يدرس نقاط جهلهم ونقاط ضعفهم، ليتمكَّن من أن يحوِّل نقاط الجهل إلى نقاط علم، ونقاط الضَّعف إلى نقاط قوَّة. وهكذا كان عليّ(عليه السلام) في حركة العلم، حتى كانت حياته كلّها علماً ودعوةً، إضافةً إلى أنها كانت جهاداً وحركةً وانفتاحاً على الواقع كلّه، وهذا ما يجب أن نتعلَّمه من عليٍّ(عليه السلام).
الموقف من الفتنة
في ذكراه(عليه السلام)، نحتاج إلى أن نتوقَّف وقفة مسؤوليَّة عند كلماته القصار، وأن نستوحيها، فهناك كلمة ذكرها «الشّريف الرّضيّ» في أوّل كلماته القصار: «كن في الفتنة كابن اللّبون؛ لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب». وابن اللّبون هو ابن النّاقة الذّكر الّذي دخل عامه الثّاني أو لم يدخل بعد، أي أنّه لم يملك ظهراً يمكن للآخرين أن يركبوا عليه، فعليٌّ(عليه السلام) يقول: كن حياديّاً في الفتنة، فلا تدع أحداً يركبك ويستغلّ قوّتك وموقعك، ويجعلك جسراً يحاول أن يعبر عليه للوصول إلى مقاصده. هنا قد يعتقد بعض النّاس أنّ عليّاً(عليه السلام) يدعو إلى الحياد في ساحة الصّراع، فإذا كانت هناك ساحة صراع وانقسم النّاس إلى فريقين، فإنّ عليك أن لا تسمح لأحد بأن يستغلّك ويركبك وصولاً إلى أهدافه، ولكنّ المسألة ليست كذلك.
فعليّ(عليه السلام) قال: «كن في الفتنة»، والفتنة تفسَّر بثلاثة أشياء؛ التّفسير الأوّل: إذا كان الشَّخص أو الجهة من أهل الباطل، ففي هذه الحال، لا يجوز لك أن تعطي قوَّتك لأيٍّ منهما، لأنّك تقوِّي باطله، والتّفسير الثاني، أنَّ المراد بالفتنة هو الموقع الّذي لا يعرف فيه المحقّ من المبطل، بحيث تبدو الأمور متشابهةً غير واضحة. وهنا عليك أن لا تعطي جهدك لهذا ولا لذاك، لأنّك لا تعرف من هو المحقّ ليكون وقوفك معه وقوفاً مع الحقّ، ومن هو المبطل ليكون ابتعادك عنه ابتعاداً عن الباطل.
لذلك، فإنَّ الإمام(عليه السلام) لا يمكن أن يقبل من الإنسان أن يكون حياديّاً بين الحقّ والباطل، لأنَّ سرّ عليٍّ في كلِّ حياته، أنّه كان مع الحقّ في كلِّ صراعاته، حتّى قال: «ما ترك لي الحقُّ من صاحب». وهكذا كانت كلُّ مواقفه مواقف الإنسان المنتمي، لا مواقف الإنسان اللامنتمي، كان خياره مع الحقِّ ضدّ الباطل، ومع الله ضدّ الشَّيطان، ومع الإسلام ضدَّ الكفر، وهكذا كانت وصيَّته للحسن وللحسين(عليهما السلام): «وكونا للظَّالم خصماً وللمظلوم عوناً»، فلا يمكن أن تكون حياديّاً بين الظّالم والمظلوم.
وقد قال عن شخصين اعتزلا المعركة في «صفّين» ولم يشاركا فيها: «خذلا الحقّ ولم ينصرا الباطل»، يعني صحيح أنّهما لم ينصرا الباطل، لكنَّهما خذلا الحقّ، وخذلان الحقّ يمثِّل نصرة سلبيّةً للباطل، لأنّك كلّما حيَّدت أهل الحقّ عن المعركة، قلَّ جنود الحقّ فيها، وبذلك ينتصر الباطل من خلال قلّة الّذين يقفون أمامه. ولذلك، فإنَّ الحياديّين في كلّ مجتمع، هم المجرمون في كلِّ موقعٍ يضعف فيه الحقّ أمام الباطل، لأنّ الحياديّين يمثّلون قوّةً سلبيّةً للباطل، وهؤلاء الَّذين يسمّون بالأكثريَّة الصَّامتة، والّذين يقول عنهم الحديث الشَّريف: «السَّاكت عن الحقّ شيطان أخرس»؛ أن تسكت وأنت تستطيع أن تنطق؛ أن تسكت وأنت تستطيع أن تواجه الموقف، إنّك بذلك شيطان أخرس، لأنَّ الشّيطنة هي أن تحجب قوّتك عن الحقّ. وقد ورد هذا النّهج في بعض أحاديث أهل البيت(عليهم السلام)، وهو حديث الإمام موسى الكاظم(عليه السلام)، قال لبعض أصحابه: «أبلغ خيراً وقل خيراً، ولا تكن إمِّعة»، قالوا: وما الإمِّعة؟ قال: «لا تقل أنا مع النّاس، وأنا كواحدٍ من النّاس هذا ليس هو الموقف الصَّحيح إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يا أيّها النَّاس، إنَّما هما نجدان {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}ـ نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشرِّ أحبَّ إليكم من نجد الخير»، فلا بدَّ من أن تكون مع نجد الخير ضدَّ نجد الشرّ.
إنسان الإسلام والحقّ
أيّها الأحبَّة، إنَّ عليّاً(عليه السلام) كان إنسان الإسلام بكلِّه، وكان عقله عقل الإسلام، وكان قلبه قلب الإسلام، وكانت حركته حركة الإسلام، وكان جهاده جهاد الإسلام، كان الإنسان الَّذي عاش بكلِّه لله، فلم يعش لنفسه لحظةً واحدةً.
وكان(عليه السلام) إنسان الحقِّ الّذي عاش انسجاماً مع الكلمة النبويَّة الشَّريفة: «عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ، يدور معه حيثما دار»[12]. لذلك، إن أردتم عليَّاً وأردتم أن تكونوا معه، فكونوا مع الحقّ، فحيثما يكن الحقّ يكن عليّ. أمَّا أن تكونوا مع الباطل؛ باطل العقيدة، وباطل الشّريعة، وباطل الاقتصاد والاجتماع، فإنَّكم لن تكونوا مع عليّ(عليه السلام)، حتى لو هتفتم باسمه ألف مرّة، لأنّ عليّاً(عليه السلام) لم يأت حتى يهتف النّاس باسمه بينما يهتفون ضدّ الإسلام في أعمالهم، لم يعش عليّ لذاته، لم يرد كسباً في حياته على حساب الحقّ، فكيف يمكن أن يكسب بعد موته على حساب الحقّ، كان يريد لنا أن نكون معه في ولايته لنكون معه في رسالته، وولاية عليّ رسالة، وليست خفقة قلب، وليست نبضة إحساس، وليست هتافاً، هي أن يكون هو نحن، وأن نكون نحن هو، ولو بنسبة الواحد إلى الألف:
فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم
إنَّ التشبَّه بالكرام فلاحُ
معنى التشيّع لعليّ
بهذا أيّها الأحبَّة، ينبغي أن نفهم عليّاً (عليه السلام)، وأن نفهم معنى التشيّع له بأنّه تشيّع للرِّسالة وتشيّع للخطّ وللمنهج. إنّ أفضل كلمةٍ تحدِّد معنى التشيّع ومعنى الشّيعة، ما قاله الإمام الباقر(عليه السلام)، كما ورد في كتاب «الكافي»: «فوالله ما شيعتنا إلا من اتّقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلاّ بالتّواضع، والتخشّع، والأمانة، وكثرة ذكر الله، والصَّوم، والصَّلاة، والبرّ بالوالدين، والتّعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفّ الألسن عن النّاس إلاّ من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء... حسب الرّجل أن يقول: أحبُّ عليّاً وأتولاه ثم لا يكون مع ذلك فعَّالاً؟! فلو قال: إنّي أحبّ رسول الله، فرسول الله خير من علي، ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنّته، ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً... وما معنا براءة من النّار... من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع». هذا هو التّشيّع، تشيّع للإسلام، وتشيّع لأئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، باعتبار أنَّهم دعاة الإسلام، عاشوا به وماتوا في سبيله، فإذا كنّا نعيش بالإسلام ونموت في سبيله، فنحن معهم في الدّنيا ومعهم في الآخرة، وذلك هو الخطّ المستقيم، فمن شاء سلكه ليلحق بهم، ومن شاء انحرف عنه ليبتعد بذلك عنهم.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق