• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العزّة كمفهوم قرآني

أسرة البلاغ

العزّة كمفهوم قرآني
من المفاهيم القرآنية التي اهتم بها الإسلام في القرآن، مفهوم (العزّة) فلقد جعلها الله تعالى لنفسه (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) (فاطر/ 10). وقد تحدّث عن هؤلاء الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين الذي سمّاهم الله سبحانه بـ(المنافقين): (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (النساء/ 138-139). وهكذا نرى أنّ الله سبحانه وتعالى يتحدّث عن العزّة لذاته المقدّسة، كما يتحدث عن العزّة لرسوله وللمؤمنين مما يوحي بأنّ هذا المفهوم أصيلٌ في معنى القيمة في أية ذات حتى الذات الإلهية التي تختزن العزّ كلّه من حيث أنها تختزن القوة كلّها، لأنّ قضية أن تكون عزيزاً هي قضية أن لا ينفذ الضعف إليك، ذلك لأنّ الذل ينفذ إلى الإنسان من خلال الضعف الذي يستغلّه القوي ليسقط ذاته أو يحطِّم موقعه. أمّا عندما يكون الوجود كلّه قوّة، لا ضعف فيه ولو بأصغر نسبة، فإنّ من الطبيعي أن تكون العزّة له. فلقد تحدّث الله عن نفسه بقوله تعالى: (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (البقرة/ 165)، لأنّ كل قوي يستمد قوته منه، ومن خلال ذلك فإن كل عزيز يستمدَّ عزّته منه، من خلال هذه القوة الموهوبة له.   العزّة قوّة: ولهذا رأينا أنّ الله يتحدّث بالتفصيل في هذه المسألة العامّة، في قوله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران/ 26)، فالعزّة منه والذّلة منه لأنّ القوة منه والضعف منه، ولأنّه الخالق لذلك كله، وعلى ضوء هذا أراد الله لرسوله أن يأخذ بالعزّة فلا يضعف أمام أي مخلوق، وأمام أي موقع، ليبقى عزيزاً قوياً أمام الإغراء فلا يذلّ نفسه من أجل إغراء يجتذبه فهو أكبر من الشهوة ومن اللّذة، وبذلك يكون أقوى من الإغراء، وهذا ما تمثّلناه في كلمة الرسول (ص) عندما جاءه عمّه "أبو طالب" يعرض عليه ما عرضته قريش من الملك إن شاء ملكاً، ومن المال إن شاء مالاً، ومن الجاه إن شاء جاهاً، فقال له الكلمة الخالدة "يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك"، وهكذا رأيناه يصمد أمام التخويف فقد اندفع إليه كل أولئك العتاة من أهل (الطائف) هذا يشتمه وهذا يرميه بحجر، وذاك يدفعه حتى أخرجوه من الطائف واستند إلى شجرة هناك وقال كلمته الخالدة التي يخاطب الله فيها: "إن لم يكن بكَ عليَّ غضبٌ فلا اُبالي".   عزّة المؤمنين: ومن هنا، كان رسول الله (ص) القوي أمام التخويف، الذي لا يجد في نفسه أيّ ضعف لأنّ نفسه اختزنت القوة من الله سبحانه وتعالى، فلم يبق فيها شيء من الضعف، وانعكس ذلك عندما (أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة/ 40). وهكذا أراد الله للمؤمنين أن يكونوا الأعزاء (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون/ 8). لأنّ الله أراد للمؤمنين أن يكونوا أقوياء: أمام الإغراء فلا يسقطون أمام لذة تعرض عليهم، أو شهوة تجتذبهم، أو مال يمكن أن يسقط ارادتهم، لا يسقطون أمام التخويف أيضاً، وهذا ما حدّثنا الله عنه في قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) (آل عمران/ 173)، وسيهجمون عليكم، وسيقتلونكم وسيسقطونكم وسيصادرون كلّ شيء فيكم (فزادهم إيماناً) لأنّهم عندما خوّفهم الناس بقوة الناس انفتحت عليهم قوة الله كمثل الشمس وبدأوا يقارنون بين قوة الناس المتناثرة في إنسان يملك بعض القوة ومعها الكثير من الضعف، ويتطلّعون إلى الله القوي الذي له القوة جميعاً، ويشعرون بأنّ هؤلاء الأقوياء استمدوا القوة من الله وهو القادر على أن يسلبهم قوتهم لأنّه الذي أعطاهم الحياة وهو القادر على أن يسلبهم الحياة، كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) (فاطر/ 15-17).   الخوف الشيطانيّ: يقول تبارك وتعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ...) (آل عمران/ 173-175)، فالخوف شيطاني والذين يخوِّفون الناس هم أولياء الشيطان الذين لا يملكون بفعل وسوسة الشيطان أية قاعدة للقوة في أنفسهم، ولذلك يخافون ويخوِّفون، أمّا الإنسان الذي يرتبط بالله ويخاف من الله وحده، ولا يخاف من أحد، فهو إنسان يمتلأ قلبه وعقله وروحه بالله فلا يمكن أن يدخل في قلبه أيّ خوف من غير الله، (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران/ 175)، لذلك فأن تكون مؤمناً يعني أن تخاف الله ولا تخاف غيره.   الإيمان عزّة: ولقد قلنا في حديث سابق أنّ هناك فرقاً بين أن (تخاف) وبين أن (تحذر) فالخوف يسقطك والحذر يفتح عينيك على ما في الدرب وعلى ما حولك ومن حولك. لذلك أن تكون مؤمناً يساوي أن تكون عزيزاً، وقد قال الإمام جعفر الصادق (ع) وهو يفسّر هذه الآية: "إنّ الله فوّض إلى المؤمن أمره كلّه، ولم يفوِّض إليه أن يكون ذليلاً"، فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً، وقال: "إنّ المؤمن أعزُّ من الجبل، الجبل يستقلُّ منه بالمعاول، والمؤمن لا يستقلّ من دينهِ"، فليس لك أن تذل نفسك لفرد أو لجماعة أو لدولة أو لمحور أو لأي شيء، فربما يضغطون على جسدك، ولكن تبقى لك حرية عقلك، بأن تفكر بحرية، وحرية قلبك بأن ينبض بحرية، حرية قرارك بأن ينطلق بحرية، وحرية موقفك، فالإنسان ليس جسداً يمكن أن يضغط عليه الآخرون ليسقطوه، ولكنه عقلٌ وإرادة وقلب وموقف وقرار، فحاذروا أن يكون عقلكم ضعيفاً أمام عقول الآخرين، وأن يكون قلبكم ساقطاً أمام قلوب الآخرين، وأن تكون مواقفكم وقراراتكم ومواقعكم محكومة للآخرين، فإنك عندما تكون المؤمن فأنت العزيز. وقد أكمل الإمام الصادق (ع) كلمته بالقول: "إنّ المؤمن أعزّ من الجبل" انظر إلى الجبل في قوته وصلابته وامتداده في أعماق الأرض وفي شموخه في الفضاء، كيف هو الصلب القوي الذي تأتي الرياح ولا تهزّ منه شيئاً، ومع ذلك فـ"المؤمن أعزّ من الجبل، الجبل يُستقلّ منه – أي يقتطع منه بالمعاول فتنزل منه حجارة هنا وحجارة هناك – بالمعاول والمؤمن لا يستقلّ من دينه" يبقى دينه في عقله وقلبه وحركته وعلاقاته وموقفه وموقعه، ولن يستطيع الآخرون أن يسقططوا منه شيئاً بل يبقى مع الله عندما يشعر بالضعف: "اللهّمّ إنِّي أسألك إيماناً لا أجل له دون لقائك، أحيني ما أحييتني عليه، وتوفّني إذا توفّيتني عليه، وابعثني إذا بعثتني عليه". إنّ دين المؤمن يبقى حيّاً في عقله متجذِّراً في كيانه، متحركاً في حياته. وإن دينه ينطلق ليحدّد له قرارته وقناعاته الثقافية، ومواقفه السياسية والاجتماعية، وعلاقته الإنسانية.   درس العزّة: فكونوا الأعزاء في عقولكم، حتى يكون عقلكم عقلاً عزيزاً لا يسقط، وكونوا الأعزاء في قلوبكم، حتى تكون قلوبكم عزيزة لا تستعبد، وكونوا الأعزاء في واقعكم حتى يكون واقعكم حياً صلباً لا مجال فيه للضعف، فإذا جاءكم الضعف فحاولوا أن تستعيذوا بالله حتى تستمدوا القوة منه في كل مواقفكم وفي كل مواقعكم، فهو الذي يعطيكم العزّة والغنى والرفعة ولن يفعل ذلك غيره، كما قال الإمام زين العابدين (ع): "فكم قد رأيت يا إلهي من أُناس طلبوا العزّ من غيرك فذلّوا، وراموا الثروة من سواك فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتّضعوا". وهكذا جاء في الحديث: "من أراد عزّاً بلا عشيرة، وغنى بلا مال، وهيبة بلا سلطان، فلينتقل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته".     المصدر: الندوة/ الكتاب الثاني (سلسلة ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق مع العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله)

ارسال التعليق

Top