• ٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

خطوات لمكافحة تقدم عُمر الورق

رشا عبداللطيف

خطوات لمكافحة تقدم عُمر الورق
◄يهدد تآكل الأوراق، نتيجة عوامل الزمن، الثقافة والعلم في جميع أرجاء العالم. فحتى مع انتشار التقدم التكنولوجي وطرق تخزين المعلومات والمواد العلمية بشكل رقمي، لا يزال الورق هو العامل المشترك الأعظم في نشر الثقافة. كما أنّ الأوراق والمخطوطات والخرائط القديمة التاريخية لا يمكن الاستغناء عنها كقيمة ثقافية بالنسبة للأجيال القادمة، حتى مع حفظ محتواها العلمي أو المعرفي بطرق أخرى. وقد قام العاملون في متحف أحمد بابا الشهير في مدينة تمبكتو، عاصمة مالي، بحماية نحو 25 ألف مخطوطة من التراث الثقافي لغرب أفريقيا من السلب والنهب القائم في مالي في ظل ظروف الحرب الأخيرة، لكن الخطر الأعظم على هذه المخطوطات، وهو اندثارها نتيجة عوامل الزمن، يظل قائماً. ففي دولة مثل ألمانيا وحدها، يهدد الفناء نحو 80 مليون كتاب ووثيقة ومذكرة وخريطة يرجع تاريخها لقرون عديدة ماضية. وبعد وقوع كارثتين في عامي 2004 و2009، نتيجة انهيار وحريق في مكتبتين كبيرتين في ألمانيا، مما أدى إلى اختفاء العديد من المخطوطات في لمح البصر، يرغب العلماء الألمان حالياً في إنتاج مادة تساعد على حفظ الورق من عوامل فنائه للمساعدة على الحفاظ على البقية الباقية من كنوزهم المخطوطة. وفي حال نجاحهم في إنتاج مثل هذه المادة، فإنّها ستعود بالنفع على طرق حفظ المخطوطات القديمة في العالم أجمع. وعلى الرغم من الصعوبة المتوقعة لتلك العملية، فإنّ المردود الثقافي من ورائها لا يكاد يُقدر بثمن. لكن عملية الاستعادة الكاملة للأوراق لا تزال تتطلب الكثير من الوقت والمال الذي قد يُقدر بالمليارات. ولهذا تخضع أوّلاً عملية انتقاء الأوراق التي تتم معالجتها للعديد من المعايير، مثل وجوب التحقق من أنها أصلية، ونافعة، ومبتكرة، وتقع في دائرة اهتمام الباحثين حتى في عصرنا هذا. وأوراق عالم الأحياء الألماني وأحد مؤسسي الطب الاجتماعي رودولف فيرشو Rudolf Virchow، على سبيل المثال، تمثل نموذجاً لذلك. فعلى الرغم من مرور أكثر من 100 عام على وفاته، لا يزال العلماء يهتمون بدراسة بعض طرقه في التشريح حتى الآن رغم تقادمها، لكونها تمثل أسس علم التشريح، لكن حالتها المزرية نتيجة التخزين الخاطئ وتآكل الأوراق يجعل من ذلك أمراً صعباً. وإذا ما قُدِر لفيرشو إلقاء نظرة أخرى على الأرض الآن، فسيفرح أشد الفرح، لأنّ العلماء سيطلقون اسمه على مركز للأبحاث، ومدرسة، وعيادة. لكنه سيفرح أكثر، لأنهم قد تمكنوا للأبد من استعادة آلاف الأوراق التي تضم طرقه ووسائله الخاصة في التشريح، والتي قضى في وضع أسسها نحو أربعين عاماً، وربما لام نفسه على أنّه لم يستخدم نوعاً آخر من الورق أكثر تحملاً. والأوراق محفوظة الآن بمتحف تاريخ الطب التابع لكلية طب شاريتيه Charite في برلين. على قدر ما كان استخدام فيرشو لتلك الأوراق أمراً عادياً تماماً في الفترة ما بين عام 1865 وحتى عام 1902، فإنّ هذه الأوراق الآن تعد كابوساً بالنسبة للعلماء والباحثين، فهي تتفتت وتطير في الهواء بمجرد لمسها. وتتمثل عوامل الخطورة المؤثرة عليها للأسف في كل شيء، بدءاً من الضوء ونسبة الرطوبة الموجودة طبيعياً في الجو والأحماض المنبعثة من العرق الآدمي، مروراً بالعفن الذي يصيب الورق، وحتى التراب الذي يُعد سماً ناقعاً بالنسبة للكتب القديمة. لكن أحداً لم يفكر في التخلص من هذه الكتب بعد حفظ المعلومات الموجودة فيها رقمياً، أو حتى منعها من العرض على الجمهور. فبالنسبة للكثيرين من العلماء، لا تزال هذه الكتب منبعاً غنياً بالمعلومات التي يمكن أن تمنحها لنا عن طريق نوعية صفحاتها القديمة نفسها، أو حتى نوعية الخيط الذي تم تجميع الكتاب به، واللتين يمكنهما أن تشيا بالكثير عن اهتمامات الناس وطبيعتهم في تلك العصور القديمة. ولهذا يجب أن يتسنى للباحثين الوصول إلى الأصول وتمحيصها، لا الحصول على نسخة رقمية جوفاء عنها. وقد أخذت أو رسولا هارتفيج Ursula Hartwieg على عاتقها مسؤولية وضع حد لهذا الأمر. والسيدة هارتفيج هي مديرة المركز التعاوني للحفاظ على المخطوطات الثقافية (KEK)، والذي تأسس في عام 2011 بناء على مبادرة حكومية من وزارة الثقافة الألمانية، وتستهدف بالأساس الحفاظ على التراث الثقافي الألماني، لكنها تتشارك في أبحاثها مع دول أخرى عديدة وتعلن نتائها على المستوى الدولي، ليستفيد منها الآخرون أيضاً، حفاظاً على صورة ودور ألمانيا العالمي باعتبارها الأُمّة التي اخترعت الطباعة. ويأمل العلماء في إطار هذا المشروع الاتجاه للتعامل مع مخطوطات ووثائق أكثر قدماً بعد الانتهاء من أبحاثهم على المخطوطات المحفوظة لديهم. وسيشكل التعامل مع نوعيات أقدم من الحبر والورق تحدياً هائلاً أمام هؤلاء العلماء، ويتطلب تطوير وسائل أكثر تعقيداً للحفاظ عليه، لكن الخبرة العملية والعائد المعنوي والثقافي لهذا النجاح سيشكل دفعة هائلة أيضاً. قسم العاملون على المشروع الوثائق إلى مراحل مختلفة، بناء على الحبر المستخدم في كتابتها ونوعيته. وكانت نوعية الأوراق المستخدمة في الفترة بين عامي 1850 و1950 أكبر مشكلة لديهم. ففي تلك الفترة، بدأ التوسع بطبع ونشر الكتب بصورة كبيرة، واستخدمت دور النشر بقايا الخشب لمواجهة الطلب المتزايد على الورق. ومشكلة هذا النوع من الورق أنّ الشظايا الخشبية المتبقية من عملية التصنيع تتسبب في زيادة حساسيته للمس وضوء الشمس فتتآكل أطرافها، كما أنّها تتحول للون البني بعد مرور فترة طويلة من الزمن عليها. وفي سبيل الحفاظ على الأوراق، يقوم العلماء أوّل ما يقومون بعملية تجفيف ونزع للأحماض من الورق، وذلك بوضع الكتب المهددة على رفوف كبيرة ثمّ إدخالها في ما يشبه فرناً كبيراً للخبيز متغير الأبعاد. الفارق الوحيد يكمن في أنّ هذه الأفران لا تعمل بالحرارة، وإنما بتفريغ الهواء الذي يعمل على سحب الرطوبة من الأوراق. وطريقة تفريغ الهواء هذه لها مميزاتها، إذ لا تُعرض الأوراق أو حتى لون الحبر المستخدم للتلف، وإنما يقتصر تأثيرها على انتزاع الأحماض الضارة من الورق ومنع تأثيرها عليه. ثمّ تُنقل الكتب بعد ذلك في صناديق كرتونية خاصة خالية من الأحماض الضارة، لحفظها في درجة حرارة لا تتعدى 18 درجة مئوية ودرجة رطوبة لا يجب أن تزيد عن 50 في المائة. ورغم أنّ هذه الخطوات تكفلت بالفعل بحفظ العديد من الكتب، لم يتوقف العلماء عند هذا الحد، وظلوا يبحثون في كيفية اتباع هذه الخطوات بأخرى تكفل المزيد من الحماية للكتب، وخصوصاً الكتب المتضررة من العفن أو الحرائق أو ما شابه ذلك من ظروف بيئية، كما هو الحال في محاولة ترميم الوثائق التي ترجع للقرن السابع عشر والتي تضررت بشدة من الحريق الذي نشب في مخزن الأمانات بقلعة لاندسهوتر. فعند القيام بإطفاء الحريق بالماء، انتشر نوع من الفطريات بين صفحات الكتب، وقد تم التعامل مع الفطر بغازات خاصة، وبذلك تم تحييد تأثيره وانتشاره على الورق. ولما كان الحفاظ على الشكل القديم للكتاب أحد أهداف هذا المشروع الضخم، يضطر العلماء أحياناً حتى الآن إلى تقسيم الورقة الواحدة إلى جزئين، وإدخال ورقة مقواة بسمك الشعرة بينهما، ثمّ تثبيت الورق بحيث يبدو أملس لا يظهر عليه أي تغيير. أما التمزقات والأجزاء المقطوعة، فيعالجها المرممون بواسطة مادة خاصة لاصقة لا تحتوي على الماء.►   المصدر: مجلة العربي العلمي/ العدد الثامن عشر سنة 2013

ارسال التعليق

Top