قد وضعت الفترة الأولى من قدوم النبي (ص) إلى المدينة، كلاً من المهاجرين والأنصار أمام مسؤولية خاصة من الأخوة والتعاون في الثانية عشر من شهر رمضان المبارك، وكانت هذه المؤاخاة أقوى في حقيقتها من أخوة الرحم، وكان الأنصار على مستوى هذه المسؤولية، فواسوا إخوانهم المهاجرين، وآثروهم على أنفسهم بخير الدنيا، وقد ترتب على هذه المؤاخاة حقوق بين المتآخين، شملت التعاون المادي والرعاية، والنصيحة والتزاور، والمحبة والإيثار.
فالمؤاخاة على الحب في الله من أقوى الدعائم في بناء الأمة الإسلامية، ولذلك حرص النبي (ص) على تعميق هذا المعنى في المجتمع المسلم الجديد، فقال رسول الله (ص): ( إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي). فبالحب في الله أصبحت المؤاخاة عقداً نافذاً لا لفظاً فارغاً، وعملاً يرتبط بالدماء والأموال، لا كلمة تنطق بها الألسنة، ومن ثم كانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثلة. لقد يسّر الله سبحانه لنا هذه الأخوة، لتكون لذنوبنا كفّارة، وعند ربّنا شفاعة، وفي جنة الخلد منزلة، ومن النار حجاباً... يسّرها لنا وبيّن لنا سبل الوصول إليها في دقة ووضوح في كتابه الكريم وعلى لسان نبيّه الطاهر الأمين، وأوجب علينا أن نسعى إلى هذه الأخوّة المباركة ونسلك إليها سبلها.. فإذا ما تعرفنا على هذه السبل، وعاهدنا الله على العيش في جنباتها، وعلى تفيؤ ظلالها، فلابدّ أن نقطف ثمارها.. وثمارها الجنّة، ومن فاز بالجنة فقد فاز فوزاً عظيماً. ومن المتعارف عليه أنّ الناس قد فطروا على محبة أشباههم الذين تقترب ميولهم من ميولهم، وطباعهم من طباعهم، فكلّ إنسان يأنس إلى شكله، كما أنّ كلّ طير يطير مع جنسه. ولقد تبيّن بالاختبار والتجربة أنّ الناس لا تقوم بينهم الصحبة، ولا تنمو الألفة إلا لوجود شبه في الطباع والعادات، فإن وُجدت صحبة ولم يوجد إلى جانبها تشابه، لم تلبث عُرى هذه المحبة أن تنفك ولم يلبث الصاحبان أن ينفصلا. والمؤمنون لهم صفات واحدة، وميول واحدة، وعقيدة واحدة، ولذا كانت الأخوة نتيجة طبيعية لإيمانهم، وسمة بارزة في دعوتهم.. وصدق الله تعالى إذ يقل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات/ 10). وحتى يصل العبد إلى هذه الأخوة لابدّ له من اتباع وسيلتين هامتين: الوسيلة الأولى: الإيمان، وتحكيم القرآن الكريم في كلّ أمر من الأمور، واتّخاذ سنة الرسول العظيم دستوراً للحياة.. فإذا ما رجع العبد إلى هدي الكتاب المبين والسنّة المطهرة في كلّ قضية من قضاياه، فسيجد قلبه بعد ذلك بمشيئة الله عامراً بالأخوة مطمئناً إليها.. فليكن كلّ واحد منا قرآناً يمشي على الأرض، صفحاته الأعمال، وكلماته نبضات الفؤاد، وعندها سنجد أنفسنا أجساماً كثيرة تعيش بروح واحدة، وتحيا بنفس واحدة. الوسيلة الثانية: هي إفشاء السلام.. وقد بينها رسولنا الكريم في حديثه الشريف: "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنّة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء، إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم".. وليس المقصود من إفشاء السلام هو النطق بلفظه فقط.. وإنما المقصود منه تحقيق ثلاثة معان جليلة: الأوّل: إذا أقبل الأخ على أخيه وقد علته البشاشة، وفاض وجهه بالغبطة، وصافحه بحرارة وقوة، وغمره بجو من الحنان والعطف.. وقال له بشوق وحرارة: السّلام عليك يا أخي ورحمة الله وبركاته، واتبع سلامه بقوله: يا أخي إني أحبك في الله، وإذا أجابه أخوه بقوله: أحبك الله فيما أحببتني فيه.. فإنّ هذا السلام يربط على قلبيهما برباط الود والألفة. والمعنى الثاني: فهو أنّ إلقاءه السلام عليه عند أوّل اللقاء قد طمأنه إلى أنّ بقاءه معه لن يكون فيه إلّا ما يرضيه ويسعده، وقد أفهمه أنّه لن يجلب له أذى ولن يسبب له ضرراً، فقد ألقى إليه السلام أوّل ما لقيه، فلا غشّ ولا كذب ولا فسوق ولا عدوان، ولا سخرية ولا ظناً سيئاً ولا أي شيء مما يؤذيه.. لأنّه قال له: "السلام عليكم". وأما المعنى الثالث: فهو أنّه لن يمنع عنه أذاه فحسب، وإنما سيجلب له خيراً كثيراً، وبركات كريمة من الله سبحانه، وذلك في قوله: (ورحمة الله وبركاته).. فقد تعهد له ألا يحدّثه إلا في خير، وألا يفعل أثناء وجوده معه إلّا ما يتسم بسمات الخير، فالإيمان وإفشاء السّلام أمران عظيمان، وطريقان موصلان إلى الأخوّة في الله.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق