• ٢٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مع الحج في القرآن الكريم

أبو ميثم العريبي

مع الحج في القرآن الكريم
◄قال تعالى:(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (البقرة/ 196). بعد أن ربت المدرسة الإلهية الناس المؤمنين على تكليفَين مهمين. أي: درس الصيام ودرس الجهاد، جعلت درساً آخر ألا وهو: درس الحج ليكون استمراراً للمدرسة الإسلامية لتربية روح الالتزام في الأُمّة الإسلامية. ومن الأهداف الكبرى للحج: صناعة التقوى، وذلك لأن واجبات الحج تشترك إلى حد بعيد مع واجبات الصيام، في أنها تفرض الابتعاد عن مجموعة من الشهوات العاجلة بوعي واختيار مما يقوي الإرادة والعزيمة، ويشحن الروح إيماناً نورانياً. والحج يشبه الجهاد أيضاً لأن فيه أخطار السفر واحتمالات الموت وصعوبات الأعمال ومن هنا جاء في الحديث عن أمير المؤمنين (ع) "الحج جهاد كل ضعيف".   -        معنى الحج: الحج هو قصد الزيارة وقد حول القرآن الكريم كلمة "الحج" من معناها اللغوي العام "وهو الزيارة مطلقاً" إلى معنى اصطلاحي خاص، ليكون اسماً وعنواناً للعبادة المعينة وفق برنامج خاص في الشريعة الإسلامية. وأبونا آدم هو أول من اختطّ "البيت الحرام" ومارس لوازمه من مناسك وغيرها بتوجيه من الله لقصد العبادة، وبلوغ المغفرة، ونيل الفلاح لأن "حَجّ" بفتح الحاء وشد الجيم يكون بمعنى "أفلح" أو "بلغ المقام من البلد الحرام". روي أنّه سئل الإمام الباقر (ع) لم سُمي الحج؟ فقال (ع): "الحج الفلاح، يقال: حَجَ فُلان أي أفلح".   -        الحج في الشريعة الإسلامية: هو جزء من العبادات ذات البعد الاجتماعي وذات المغزى العظيم روحياً، وهو يشبه الاعتكاف في كونه نقلة إلى الله تعالى، غير أنّ الاعتكاف نقلة فردية يعتكف بموجبها هذا الفرد أو ذاك في بيت من بيوت الله، والحج نقلة جماعية إلى بيت الله الآمن، بيت الإسلام، يجتمع فيه الجميع دون اختلاف في اللغة أو اللون أو العنصر أو المذهب، ويحترم فيه الجميع ويعطى للجميع حرية الحوار والنقد الذي يهدم ما فيه صناعة التفرقة، ويبني أواصر الأخوة الإسلامية عوضاً عن الهدم اللازم، وبذلك يكون أفضل أداة للوحدة الحقيقية، الوحدة القائمة على أساس التعارف والتحاور والتعاون.   -        الحق والتقوى: من خلال الآيات المتقدمة، نرى أنّ الحديث عن الحج لا يتناول الجوانب الاجتماعية منه كما نجد ذلك في سورة الحج، بل يقتصر على الجوانب التربوية من الحج، لطبيعة السياق الذي يتحدث عن التقوى كميزة أساسية في الشخصية الإيمانية. ففي الآيات المذكورة نجد الحديث المباشر عن التقوى وبعض مظاهرها من فرض الرقابة الذاتية على الإنسان وابعاده عن الجريمة والنفاق حيث تكررت كلمة التقوى عدة مرات. فقبل كل شيء، يجب أن يكون الحج أو العمرة خالصاً لوجه الله، حيث أنّ العمل التكليفي الصحيح هو الذي يؤتى بقصد الاخلاص وخدمة الحقيقة فحسب، فلا يدخل فيه هدف آخر من تجارة أو سياحة أو رياء وهو العمل المزيف الذي يقصد منه سماع الناس أو رؤيتهم. ولذا نرى الإسلام أكد على الاخلاص في الأعمال كلها، وكره الرياء كراهة عميقة. قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البينة/ 5). وقال رسول الله (ص): "لا يقبل الله تعالى عملاً فيه مثقال ذرة من الرياء". ويقول أمير المؤمنين (ع): طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء". ولذا كان على الحاج أن يمتنع عن الزينة بكل مظاهرها، حتى أنّه لا يستطيع أن يحلق رأسه، وإذا منعه المرض عن متابعة رحلة الحج فعليه ألا يحلق رأسه إلا بعد أن يبعث بهديه (ذبيحته – أضحيته) إلى مكة، فإذا ذبحت استطاع أن يتحلل من احرامه ويحلق رأسه، وعندما يضطر المريض إلى حلق رأسه، فعليه أن يفتدي حلقه إياه بصيام أو صدقة أو ذبيحة. الواجب الآخر في الحج، تقديم الهدي (الذبيحة سواء كانت شاة أو بقرة أو ابلاً) ومن لم يجد واحداً منها، فعليه أن يصوم عشرة أيام، ثلاثة في الحج وسبعة إذا عاد إلى بيته، وأهل مكة وما حولها لا يجب عليهم الهدي. كل هذه الفرائض الواجبة إنما هي من أجل تنمية روح التقوى في القلب والخوف من الله.   -        مع الآيات الكريمة: والآن نتحدث عن الحج من خلال الآيات المتقدمة على حسب التسلسل: قال تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ). أوّلاً: لا يجوز ترك الحج أو العمرة بلا سبب بل يجب الاستمرار فيهما واتمامهما وهذا واجب أساسي في الحج. ثانياً: لابدّ – بل يجب – أن يكون الحج والعمرة خالصين لله. والحالة التي يترك فيها الحج هي حالة الحصر أو الصدّ (بمرض أو عدو أو ما أشبه). قال تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ). إبتداءً من الشاة وإنتهاءً بالإبل وأوسطه بقرة، فعليه أن يختار ما يشاء. (وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ). الخطاب موجّه للمحصورين الذين منعوا من اتمام الحج أو العمرة، لمرضهم مثلاً، فعليهم أن لا يحلوا من احرامهم، حتى يعلموا أنّ الهدي الذي بعثوه قد بلغ المكان الذي يجب فيه الذبح، ومكان الذبح منى، إن كان المرض هو المانع فعلى المعتمر بالعمرة المفردة أن يرسل الهدي إلى مكة لذبحه هناك، أما إذا كان المانع هو الخوف من العدو فعليه أن يذبح الهدي حيث أحصر ومنع. كما فعل رسول الله (ص) حيث ذبح هديه في "الحديبية" حين صده المشركون عن زيارة بيت الله الحرام. (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ). من مناسك الحج، حلق الرأس، ويجب أن لا يكون ذلك قبل ذبح الهدي في المكان المخصص، ويستثنى من ذلك المريض أو المضطر لأسباب تستوجب منه حلق رأسه قبل الموعد المقرر شرعاً، كما إذا أُصيب بصداع دائم لا يبرئه سوى حلق الرأس، أو كان حرجاً بالغاً عليه استمرار الشعر. في هذه الحالة، أي في حالة الحلق على أثر ضرورة حتمت عليه أن يفعل ذلك كالمرض، فإنّه حينئذٍ تلزمه القدية (الكفارة) كما قال تعالى: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ). أي من عليه كفارة يكون مخيراً بين: القدية: وهي صيام ثلاثة أيام. أو صدقة: وهي اطعام ستة فقراء. أو نسك: وهو التضحية وأقلها الشاة. فإذا انتهى الخوف من العدو أو من المرض، فعلى الإنسان الذي يأتي بحج التمتع وهو الذي يَفصِلُ بين عمرته وحَجِهِ فترة استراحة يبقى فيها بدون احرام، عليه أن يقدم الهدي. (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ). أي: إذا أردتم أداء حج التمتع حين الأمن من المرض والعدو، وهذا النوع من الحج هو المعروف بحج التمتع الذي يجب على غير أهل مكة من الذين يبعدون عن مكة أكثر من (86) كيلومتراً (16) فرسخاً، وفي هذه الحجّة يجب تقديم أعمال العمرة على أعمال الحج. وإنما سُمي بحج التمتع لأنّ الحاج بعد أن ينتهي من العمرة يحل له أن يتمتع بكل ما حرم عليه عند الاحرام، أي: حين كان محرماً للعمرة إلى أن يحرم للحجّ، عدا قطع شجر الحرم ونباته. فمن أتى بالعمرة، ثمّ حجّ بعدها في السنة نفسها فعليه الهدي، (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فعليه أن يضحي بما تيسر من الإبل أو البقر أو الضان فيختار ما يشاء. فإذا لم يجد ولم يتيسر ذلك سواء كان لانعدام الهدي أو لعدم القدرة على الشراء فهناك فدية: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ). ولا يشترط فيها الإقامة، والثلاثة أيام هي: اليوم السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة. (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) إلى وطنكم. (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) طبعاً واضح لقارئي القرآن الكريم، أن مجموع ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد عودته من الحج إلى بلده يساوي عشرة، لكن القرآن عاد فأكد بأنها عشرة كاملة. وهذا لنكتة بلاغية في هذه الآية إليك بيانها: ففيها فنٌ بياني رفيع دقيق المأخذ، يسميه علماء البلاغة "التكرير" وحدّه أن يدل اللفظ على المعنى مردداً، وهو في الآية بقوله تعالى: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)، بعد ثلاثة وسبعة تنوب مناب قوله ثلاثة وسبعة مرتين، ثمّ قال: (كاملة)، وذلك توكيد ثالث، والأمر إذا صدر من الآمر على المأمور بلفظ التكرير ولم يكن مؤقتاً بوقت معين كان في ذلك إهابة إلى المبادرة لامتثال الأمر والانصياع للحكم على الفور من غير تريث ولا إبطاء، ومن ثمّ وجب صوم الأيام السبعة عند الرجوع فوراً، فتفطّن لها فإنها من الأسرار. ويلفت النظر أنّ العدد "عشرة" هو من جانب أكمل الأعداد، لأنّ الأعداد تتصاعد من واحد لتصل إلى عشرة بشكل تكاملي، ثمّ بعد ذلك تتركّب من عشرة وأحد الأعداد الأخرى لتكون أحد عشر واثني عشر... ولعل حكمة الهدي أو الصوم هي استمرار صلة القلب بالله، فيما بين العمرة والحج، فلا يكون الاحلال بينهما مخرجاً للشعور عن جو الحج، وجو الرقابة، وجو التحرج، الذي يلازم القلوب في هذه الفريضة. (ذلك) أي هذا الحكم (لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ). باعتبار أن مناسك حج التمتع المذكورة تختص بالأفراد البعيدين عن مكّة ولا تشمل الساكنين قرب المسجد الحرام (المعروف بين الفقهاء أن حج التمتع يجب على من كان مسكنه يبعد عن المسجد الحرام مسافة تزيد على 48 ميلاً، أما سكَنة مكة ومن يبعدون عنها في شعاع المسافة المذكورة فعليهم حِجّ القِران أو الإفراط وشرح ذلك مذكور في كتب الفقه). ومن اللازم أن نذكر في النهاية أن حجّ التمتع – وهو الحج الذي يبدأ بالعمرة، ثمّ يحل الحاج من بعد انتهاء مناسك العمرة، ويحرم ثانية للحج لأداء مناسك الحجّ – قد شرّع في الإسلام، والآية – كما تقدم – نص صريح في هذا التشريع، ولا يوجد دليل على نسخها. والأحاديث المنقولة في كتب الشيعة وأهل السنّة في هذا المجال كثيرة، من ذلك ما رواه كبار المحدثين السنّة كالنسائي في سننه وأحمد في مسنده، وابن ماجة في سننه، والبيهقي في سننه، والترمذي في صحيحه، ومسلم في صحيحه أيضاً بشأن هذا الحكم، وأنّه لم ينسخ وأنّه باقٍ إلى يوم القيامة، غير أنّه نقل عن الخليفة الثاني عمر تحريمه لمتعة الحجّ ومتعة النساء، وواضح أنّ هذا التحريم لا يعبأ به أمام النص القرآني الصريح، وليس لأحد أن ينسخ الحكم المنصوص سوى رسول الله (ص)، ولذلك لم يعبأ كثير من علماء السنة بهذا المتع ولم يرتّبوا عليه أثراً. ثمّ تختم الآية الشريفة بالأمر بالتقوى، وبالتحذير من عقاب الله تعالى، فتقول: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). ولعل هذا التأكيد يعود إلى أنّ الحجّ عبادة إسلامية هامة، وهدفها البعيد هو: ألا يتهاون المسلم في واجبات دينه، وأن يلتزم بحدوده لا يتقدم فيها قيد شعرة، لأنّ الله شديد العقاب. ومن هنا، لو تساهل المسلمون في أداء مناسكها أو نسوا روحها، فسيؤدي ذلك إلى أضرار كبيرة في كيان الأمة الإسلامية. والحج هو تلك العبادة التي أسماها أمير المؤمنين (ع) "علم الإسلام" و"شعاره" وقال عنها وصْيته خلال الساعات الأخيرة من حياته: "الله الله في بيت ربّكم لا تخلوه ما بقيتم فإنّه إن ترك لم تناظروا". وأهمية الحجّ فهمها أعداء الإسلام أيضاً إذ صرّح أحدهم: "نحن لا نستطيع أن نحقق انتصاراً على المسلمين ما دام الحج منتعشاً بينهم". وأحد العلماء قال: "الويل للمسلمين إن لم يفهموا معنى الحجّ، والويل لأعدائهم إن استوعبوا معناه".►   المصدر: مجلة (نور الإسلام/ العددان 47-48)

ارسال التعليق

Top