• ٣ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

آداب الصداقة

الشيخ محمّد البهاري

آداب الصداقة

◄اعلم أيها الشاب، أنّه متى ما أردت الصداقة، فليكن قصدك خالياً من الأغراض الدنيوية.. بل اجعلها لله وفي الله. ولهذا لابدّ من أن نذكر الصفات التي لابدّ من توفّرها فيمن ينبغي صداقته، فقد قال النبيّ (ص): "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل".

الأوّل: أن يكون عاقلاً، وذلك بأن يعلم حدود الأمور على ما هي عليها – ولو بالتعلّم من الغير – فإنّه لا خير في مصاحبة الأحمق.. فمن البداهة بمكان، أوّ الأحمق يريد أن ينفعك – بزعمه – فيضرّك في دينك أو دنياك، نتيجة لجهله وقلّة التفاته.

الثاني: أن يكون حَسَن الخُلق.. فلا يكفي مطلق العقل رادعاً، إذ قد تستولي عليه قوة الشهوة والغضب، فيعمل خلاف مدركاته العقلية ولو من غير عمد، فيقع في المفاسد العظيمة.

الثالث: أن يكون من أهل التقوى والصلاح.. فإنّ الفاسق الذي لا يتقي غضب الله جلّ جلاله، كيف لا يخالفك عندما توصيه بالحق؟.. فهو يدور مدار هواه، ويتلوّن بألوان شتى بحسب اختلاف أغراضه، والذي يشهد على هذا المدى قوله تعالى: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (النجم/ 29).

الرابع: أن لا يكون من أهل البدع، إذ يُخاف من سريان البدعة إلى من يعاشره.. إضافة إلى شمول اللعنة المتوجهة إلى مُجالسي أهل البدع كما روي عن الصادق (ع): "لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم، فتصيروا عند الناس كواحد منهم". وهذا خطر عظيم.

الخامس: أن لا يكن حريصاً على الدنيا، فإن مجالسته كالسمّ القاتل الذي يسري بمقتضى طبيعة الأشياء.

ولعلّ قول مولانا الصادق (ع) يشير إلى جميع ما ذُكر:

"احذر أن تؤاخي من أراك لطمع أو خوف أو أكل أو شرب، واطلب مؤاخاة الأتقياء ولو في ظلمات الأرض، وإن أفنيت عمرك في طلبهم، فإنّ الله لم يخلق بعد النبيين على وجه الأرض أفضل منهم، وما أنعم الله على العبد بمثل ما أنعم الله به من التوفيق لصحبتهم"، قال الله تعالى: (الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف/ 67).

فلو رأيت صديقاً متّصفاً بهذه الصفات الحميدة، فعليك أن لا تجهل قدره، لئلّا تُبتلى بفقده.

وأما حقوق الصديق عليك فهي:

 

أوّلاً: الحقوق المالية: ولذلك مراتب:

فالمرتبة الأولى: وهي أدنى المراتب: أن تجعل أخاك بمثابة الخادم الذي لو احتاج إلى مال قدّمته له قبل السؤال، وإلّا كنت مقصّراً في حقه.

والمرتبة الثانية: وهي ان تجعله بمنزلة نفسك، فيكون شريكاً في مالك بالسوية.

والمرتبة الثالثة: وهي أن تؤثره بما لديك ولو كنت محتاجاً إلى ما تؤثره به عليه.. ومن المعلوم أن أعلى درجات الإيثار هو الإيثار بالنفس، كما فعله أمير المؤمنين (ع) ليلة المبيت.

وقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: "لعشرون درهماً أعطيها أخي في الله، أحبّ إليّ من مئة درهم أتصدّق بها على المساكين".

ثانياً: الحقوق البدنية: وهي أن تسعى في قضاء حوائجه بميل ورغبة، كما تسعى لقضاء حوائج نفسك بل أبلغ من ذلك، وذلك قبل السؤال، بلا منّة واستعلاء.

ثالثاً: الحقوق اللسانية: وهي على أقسام:

الأوّل: أن تسكت عن عيوبه – سواء في حضوره أو في غيبته – فتتجاهله في أوّل أمره، ثمّ ترفع عنه ذلك العيب برفق ولين، مستعملاً أسلوب التدرج في الموعظة، بحيث ينصرف عن ذلك العيب بنفسه، ولا يبقى لديه ميل نفسي إليه.

وعليك أن لا تكشف له سراً حتى لأخصّ اصدقائه، فإن ذلك من علامات لؤم الطبيعة وخبث الباطن، بل من الجهل والحماقة بمكان.. فقد روي عن عليّ (ع): "قلب الأحمق في فيه، ولسان العاقل في قلبه".

وعليك أن لا تقدح فيه وفي أولاده وأصدقائه، بل ينبغي عدم نقل قدح الآخرين في حقّه، فإن ذلك من موجبات الأذى والجفاء.. بينما يحسن نقلك لمدح الآخرين له.

وعليك أن تسكت عن كلّ مكروه في طبعه، إلّا إذا أذن الشارع في ذكره.. فعليك بإظهار ذلك المكروه، لأن ذلك إحسان إليه ولو تأذّى منه.

وهنا ينبغي أن يقال: إنّ مما يعين الإنسان على عدم إفشائه لمعائب الآخرين، هو الالتفات إلى عيوب نفسه وصعوبة إزالتها.. وعندئذ يقيس غيره على نفسه.

ولو فرض أن هناك صديقاً مُبرءاً من كلّ عيب، فتلك جوهرة في خزانة السلطان محفوظة لديه، لا تنالها أيدي عامة خلقه..

فلنطلب ذلك الصديق الذي تغلب محاسنه على مساوئه، لتكون تلك المحاسن باعثاً للشوق إلى التأسي بها.. أما الخوض في المساوئ فهو من عادة المنافقين.

وهذا الذي قلناه كله، إنما هو في حفظ اللسان، وأما حفظ القلب عن مساوئ الصديق فتلك وظيفة أخرى، يقتضيها الحمل على الأحسن، وذلك بالتحاشي عن سوء الظن به.. ولو لم يجد أي محملٍ حَسَنٍ لفعله، فعندئذٍ يحمله على السهو والنسيان..

أما حمل الفعل على الفساد، وما يلازمه من كشف أسرار العباد، فهو مقتضى الحركة الناشئة من الحقد والحسد الباطنيين لامتلاء باطنه منهما، فإذا سنحت الفرصة رشح الباطن إلى الظاهر.

الثاني: ترك المباجلة لأنّ الجدال طريق إلى إثارة نائرة الفتنة.. إضافة إلى مفاسد أخرى مترتبة عليه.

الثالث: إظهار حبّك له ما أمكنك ذلك، فإنّه من أسباب تثبيت الأُخوة.. كما يحسن بك أن تُفشي محامده في حضوره وفي غيبته، مع أنّ الروايات نهت عن المدح في حضور الممدوح، ولكن يحسن ذلك – في بعض الموارد – جلباً للمودة، فالروايات محفوفة بقرائن تقيّد إطلاقاتها والله العالم.

الرابع: الشكر على النعم الصادرة من ذلك الصديق.

الخامس: تعليمه ما جهله من علم، مع مراعاة آداب التعليم، ومن تلك الآداب أن لا ينتقص علماً يجهله.. فلا يحقّ للفقيه أن ينتقص الحكمة بدعوى أنها مشحونة بالشبّهات الباطلة.. كما لا يحقّ للحكيم أن ينتقص الفقه بدعوى أن فتاوى الحيض والنفاس لا ترتبط بالمعرفة الإلهية.. فلكل علم نفعه من دائرته الخاصة به، إلا إذا ورد نهيٌ من الشارع عن تعلم ذلك العلم.

وليحرص على أن يكون تعليمه له – فيما إذا رأى فيه طلباً لذلك العلم – في خفية عن أعين الجاهلين، لئلّا يلتفت الناس إلى جهله فتنتابه حالة من الخجل والاستحياء.. فالفارق بين الفضيحة والنصيحة، إنما هو في الإسرار والإعلان.

وإذا رأيت أنّه يخفي عليك عيبه، فلا تسعَ أنت لإظهاره.. وإذا رأيت فيه طبيعة غالبة بما لا يمكنه ترك تلك الطبيعة فالسكوت عنه أولى.. وإذا رأيت فيه تقصيراً في حقوقك عليه، فعليك بالتحمل والتجاهل.. وإذا رأيت أنّ التقصير قد بلغ حدّاً يوجب قطع علقة الأخوة، فعليك بالعتاب الجميل في الخفاء مستعملاً لغة الكناية، فغنها أبلغ من التصريح، فإنّ النبيّ الأكرم (ص) إذا رأى تقصيراً في أمته كان يقول: "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا".

والحاصل ان لتحمّل مهما أمكن أولى.. فإنّ الله تعالى أخفى رضاه في جفاء المخلوقين.

هذا كله إذا لم يكن العيب فيه، من قبيل الإصرار على المعاصي، وإلّا فقد قيل: "إنّه يجب قطعه، وذلك لأنّ الحبّ والبغض بينهما إنما كان لله تعالى، والمُسبَّب يزول بزوال سببه..

ولكن هناك من يذهب إلى عدم القطع أيضاً، لأن طبيعة العباد تستقيم تارة وتعوجّ أخرى، وهو في حال اعوجاجه أحوج ما يكون إليك، آخذاً بيده، مستنقذاً إياه من مهاوي الرذيلة والهلاك، وعندئذ تجوز أجر من أحيا نفساً.. فإن إحساسه بذلة الوقوف بين يدي الله تعالى – متأثراً بصحبتك – أمر عظيم.

واعلم أن آية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) (التحريم/ 6). تجري في مثل هذه الموارد لتحقّق درجة من درجات القرابة، فإنّ لُحمة الصداقة كلُحمة النسب لقول الصادق (ع):

"مودة يوم صلة، ومودة شهر قرابة، ومودة سنة رحم ماسة، من قطعها قطعه الله".

فمن مجموع ما ذكر عُلم: أن مؤاخاة الفاسق أمر مرجوح ابتداءً، ولكنه راجح استدامة، فهو من قبيل الطلاق بعد الزواج.. إذ أن ترك الزواج قد يكون راجحاً في أوّله، إلّا أنّه ينقلب إلى مرجوح بعد تحقّقه.

وكتطبيق على لزوم تحمل الصديق لو تنزّل إلى هذه الرتبة، ما نقل من أنّه ابتُلي أحدهم بمرض العشق فقال لأخيه: أنت في حلٍّ من عقد الأخوة لما أنا فيه.

فما كان منه إلّا أن ترك الطعام والشراب ملتجئاً إلى الله تعالى، متضرعاً إليه في خلاص صاحبه من هذه البلية.. فاستُجيب له بعد أربعينيات عديدة.

السادس: الدعاء والزيارة والقيام بما أمكن من القربات نيابة عنه، سواء كان ذلك في حياته أو بعد مماته.. فإن أثر ذلك عائد إليه، كما ورد عن النبي (ص) – فيمن دعا لأخيه – "أنّ المَلَك يقول له: ولك مثلُ ذلك".

السابع: الوفاء بعد الوفاة، وذلك بالقيام بحوائج أهله وعياله وإخوانه.. فقد كان رسول الله (ص) يكرم عجوزاً كانت تأتيه أيام خديجة.

وليعلم أن من آثار الوفاء أيضاً: أنّه لو ارتفع شأنه في نفسه، وعظُمت منزلته بين الخلق، فإنّه لا يترك سبيل التواضع مع صديقه في كلّ أحواله..

الثامن: أن لا يوقعه في الكلفة مهما أمكنه ذلك.. بل يكون القصد من محبته هو التبرّك بدعائه، والاستئناس من لقائه، والاستعانة به على دينه، والتقرّب إليه تعالى بتحمّل أعبائه وقضاء حوائجه، وأمثال ذلك من الأمور المستحسنة شرعاً.

ومن هنا قيل: إنّه إذا وقعت الكلفة بطلت الإلفة.. فتلخص من مجموع هذه الكلمات أنّ الرجل كلُّ الرجل: من غلب حياؤه شهوته، ورأفته حسده، وعفوه انتقامه..►

 

المصدر: كتاب تذكرة المتّقين

ارسال التعليق

Top