• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

فضل ومقام القرآن الكريم

مركز نون للتأليف والترجمة

فضل ومقام القرآن الكريم

من الخير أن يقف الإنسان دون ولوجٍ هذا الباب، وأن يتصاغر أمام هذه العظمة، وقد يكون الاعتراف بالعجز خيراً من المضي في البيان.

ماذا يقول الواصف في عظمة القرآن، وعلوّ كعبه؟ وماذا يقول في بيان فضله، وسموّ مقامه؟ وكيف يستطيع الممكن أن يدرك مدى كلام الواجب؟ وماذا يكتب لكاتب في هذا الباب؟ وبمَ يتفوّه الخطيب؟ وهل يصف المحدود إلّا محدوداً؟

 

القرآن في القرآن:

وحسبُ القرآن عظمة، وكفاه منزلةً وفخراً أنّه كلام الله العظيم، ومعجزة نبيه الكريم، وأنّ آياته هي المتكفّلة بهداية البشر في جميع شؤونهم وأطوارهم في أجيالهم وأدوارهم، وهي الضمينة لهم بنيل الغاية القصوى والسعادة الكبرى في العاجل والآجل: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء/ 9).

(الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم/ 1).

(هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 138).

 

القرآن في كلام العترة:

وقد ورد في الأثر عن النبيّ (ص): "فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه".

نعم من الخير أن يقف الإنسان دون ولوج هذا الباب، وأن يَكِلَ بيان فضل القرآن إلى نظراء القرآن أهل البيت (عليهم السلام)، فإنّهم أعرف الناس بمنزلته، وأدلّهم على سموّ قدره، وهم قرناؤه في الفضل، وشركاؤه في الهداية، أمّا جدّهم الأعظم فهو الصادع بالقرآن، والهادي إلى أحكامه، والناشر لتعاليمه. وقد قال (ص): "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض". فالعترة هم الأدلّاء على القرآن، والعالمون بفضله.

فمن الواجب نقتصر على أقوالهم، ونستضيء بإرشاداتهم. ولهم في فضل القرآن أحاديث كثيرة جمعها شيخنا المجلسي في (البحار) المجلّد التاسع والثمانين منه. نذكر منها:

قال الحارث الهمداني: "دخلت المسجد فإذا أناس يخوضون في أحاديث فدخلت على عليّ (ع) فقلت: ألا ترى أنّ أُناساً يخوضون في الأحاديث في المسجد؟ فقال (ع): قد فعلوها؟ قلت: نعم، قال (ع): أما إنّي قد سمعت رسول الله (ص) يقول: ستكون فتن، قلت: وما المخرج منها؟ قال (ع): كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي مَن تركه من جبّار قصمه الله، ومَن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلَق عن كثرة الردّ، ولا تنقضي عجائبه. وهو الذي لم ينته الجنّ إذ سمعته أن قالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا) (الجن/ 1)، هو الذي مَن قال به صدق، ومَن حكم به عدل، ومَن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُديَ إلى صراط مستقيم".

 

قبسات من الحديث:

وفي الحديث مغازٍ جليلة يحسن أن نتعرّض لبيان أهمّها. يقول (ص): "فيه نبأ ما كان قبلكم. وخبر ما بعدكم" والذي يحتمل في هذه الجملة وجوه:

الأوّل: أن تكون إشارة إلى أخبار النشأة الأخرى من عالمَي البرزخ والحساب والجزاء على الأعمال. ولعلّ هذا الاحتمال هو الأقرب، ويدلّ على ذلك قول أمير المؤمنين (ع) في خطبته: "فيه نبأ من كان قبلكم والحكم فيما بينكم وخبر معادكم".

الثاني: أن تكون إشارة إلى المغيّبات التي أنبأ عنها القرآن، ممّا يقع في الأجيال المقبلة.

الثالث: أن يكون معناها أنّ حوادث الأُمم السابقة تجري بعينها في هذه الأُمّة، فهي بمعنى قوله تعالى: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) (الإنشقاق/ 19).

أمّا قوله (ص): "مَن تركه من جبّار قصمه الله" فلعلّ فيه ضماناً بحفظ القرآن من تلاعب الجبّارين، بحيث يؤدّي ذلك إلى ترك تلاوته وترك العمل به، وإلى جمعه من أيدي الناس كما صنع بالكتب الإلهية السابقة. فتكون إشارة إلى حفظ القرآن من التحريف. وهذا أيضاً هو معنى قوله في الحديث: "لا تزيغ به الأهواء" بمعنى لا تغيّره عمّا هو عليه، لأنّ معاني القرآن قد زاغت بها الأهواء فغيّرتها. وأشار الحديث إلى أنّ أبناء الأُمّة لو رجعوا إلى القرآن في خصوماتهم، وما يلتبس عليهم في عقائدهم وأعمالهم لأوضح لهم السبيل، ولوجدوه الحكم العدل، والفاصل بين الحقّ والباطل.

فلو أقامت الأُمّة حدود القرآن، واتّبعت مواقع إشاراته وإرشاداته، لعرفت الحقّ وأهله، وعرفت حقّ العترة الطاهرة الذين جعلهم النبيّ (ص) قرناء الكتاب، وأنّهم الخلفاء على الأُمّة من بعده، ولو استضاءت الأُمّة بأنوار معارف القرآن، لأمنت العذاب الواصب، ولما تردّت في العمى، ولا غشيتهم ليالي الضلال، ولا ضُيّع سهم من فرائض الله، ولا زلّت قدم عن الصراط السويّ، ولكنها أبت إلّا الانقلاب على الأعقاب، واتّباع الأهواء، والانضواء إلى راية الباطل حتى آل الأمر إلى أن يكفّر بعض المسلمين بعضاً، ويتقرّب إلى الله بقتله، وهتك حرمته، وإباحة ماله، وأيّ دليل على إهمال الأُمّة للقرآن أكبر من هذا التشتّت العظيم؟!!

 

صفة القرآن:

وقال أمير المؤمنين (ع) في صفة القرآن:

"ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تُطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقّده، وبحراً لا يُدرك قعره، ومنهاجاً لا يضلّ نهجه، وشعاعاً لا يظلم ضوءه، وفرقاناً لا يُخمد برهانه، وتبياناً لا تُهدم أركانه، وشفاءً لا تُخشى أسقامه، وعزّاً لا تُهزم أنصاره، وحقّاً لا تُخذل أعوانه، فهو معدن الإيمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافيّ الإسلام وبنيانه، وأودية الحقّ وغيطانه، وبحر لا يُنزفه المنتزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون، ومنازل لا يضلّ نهجها المسافرون، وأعلام لا يعمى عنها السائرون، وآكام لا يجوز عنها القاصدون، جعله الله ريّاً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاجّ لطرق الصلحاء، ودواءً ليس بعده داء، ونوراً ليس معه ظلمة، وحبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وعزّاً لمن تولّاه، وسلماً لمن دخله، وهدى لمن ائتمّ به، وعذراً لمن انتحله، وبرهاناً لمن تكلّم به، وشاهداً لمن خاصم به، وفلجاً لمن حاجّ به، وحاملاً لمن حمله، ومطيّة لمن أعمله، وآيةً لمن توسّم، وجُنّة لمن استلأم، وعلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى وحكماً لمن قضى".

وقد استعرضت هذه الخطبة الشريفة كثيراً من الأمور المهمّة التي يجب الوقوف عليها، والتدبّر في معانيها. فقوله:

1-  "لا يخبو توقّده" خبت النار: خمد لهبها. يريد بقوله هذا وبكثير من جمل هذه الخطبة أنّ القرآن لا تنتهي معانيه، وأنّه غضّ جديد إلى يوم القيامة. فقد تنزل الآية في مورد أو في شخص أو في قوم، ولكنّها لا تختصّ بذلك المورد أو ذلك الشخص أو أولئك القوم، فهي عامّة المعنى.

عن أبي عبد الله (ع): "إنّ القرآن حيّ لم يمت، وإنّه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما تجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا".

2-  "ومنهاجاً لا يضلّ نهجه": إنّ القرآن طريق لا يضلّ سالكه، فقد أنزله الله تعالى هداية لخلقه، فهو حافظ لمن اتّبعه عن الضلال.

3-  "وتبياناً لا تهدم أركانه": المحتمل في المراد من هذه الجملة أحد وجهين:

الأوّل: أنّ أركان القرآن في معارفه وتعاليمه، وجميع ما فيه من الحقائق. محكمة لا تقبل التضعضع والانهدام.

الثاني: أنّ القرآن بألفاظه لا يتسرّب إليه الخلل والنقصان، فيكون فيها إيماء إلى حفظ القرآن من التحريف.

4-  "ورياض العدل وغدرانه": الرياض جمع روضة، وهي الأرض الخضرة بحسن النبات. العدل بمعنى الاستقامة، والغدران جمع غدير وهو الماء الذي تغدره أي تنتجه السيول. معنى هذه الجملة: أنّ العدل بجميع نواحيه من الاستقامة في العقيدة والعمل والأخلاق قد اجتمع في الكتاب العزيز، فهو مجمع العدالة وملتقى متفرّقاتها.

5-  "وأثافي الإسلام": الأثافيّ كأمانيّ جمع أثفيّة – بالضمّ والكسر – وهي الحجارة التي توضع عليها القدر. ومعنى ذلك: أنّ استقامة الإسلام وثباته بالقرآن كما أنّ استقامة القدر على وضعها الخاص تكون بسبب الأثافيّ.

6-  "وأودية الحقّ وغيطانه": يريد بذلك: أنّ القرآن منبت الحقّ، وفي الجملة تشبيه القرآن بالأرض الواسعة المطمئنّة، وتشبيه الحقّ بالنبات النابت فيها. وفي ذلك دلالة على أنّ المتمسّك بغير القرآن لا يمكن أن يصيب الحقّ، لأنّ القرآن هو منبت الحقّ، ولا حقّ في غيره.

7-  "وبحر لا ينزفه المنتزفون": نزف ماء البئر: نزح كلّه. ومعنى هذه الجملة والجمل التي بعدها: أنّ المتصدّين لفهم معاني القرآن لا يصلون إلى منتهاه، لأنّه غير متناهي المعاني، بل وفيها دلالة على أنّ معاني القرآن لا تنقص أصلاً، كما لا تنضب العيون الجارية بالسقاية منها.

8-  "وآكام لا يجوز عنها القاصدون": والآكام جمع أكم، كقصب، وهو جمع أكمة، كقصبة، وهي التلّ. والمراد أنّ القاصدين لا يصلون إلى أعالي الكتاب ليتجاوزوها. وفي هذا القول إشارة إلى أنّ للقرآن بواطن لا تصل إليها أفهام أولي الأفهام.

وقد يكون المراد أنّ القاصدين إذا وصلوا إلى أعاليه وقفوا عندهم ولم يطلبوا غيرها، لأنّهم يجدون مقاصدهم عندها على الوجه الأتمّ.

 

المصدر: كتاب دروس قرآنية/ سلسلة المعارف الإسلامية

ارسال التعليق

Top