الأرض والشمس والقمر والكواكب والنجوم والمجرات لا تسبح في فضاء محايد، لا علاقة له بما يسبح فيه... لا تسبح في فراغ، ولكنها تسبح في أفلاك واضحة، ومحددة، لا تخرج عنها، ولكل كوكب أو نجم منها فلك يسبح فيه، يختلف عن فلك أي كوكب أو نجم آخر، من حيث قوى الجاذبية، ومن حيث قدرته على أن يكون فلكاً مناسباً أو مساراً مناسباً يسبح فيه الكوكب أو النجم المناسب. فلكل منها فلك مخصوص يسبح فيه، ومن يخرج عن فلكه أو عن مساره يتحطم ويتناثر، ويدخل في فوضى الفضاء حيث لا فلك ولا مسار، أي يدخل في عدم الانتظام فيتحطم ويتناثر...
أي أنّ الأفلاك هي مدارات أو مسارات تسبح فيها الأجرام السماوية في الفضاء، دون أن يصطدم بعضها ببعض، بتدبير من الله العزيز القدير، وليس لكوكب أن يخرج عن فلكه أو عن مداره أو عن مساره الذي رسم له إلا أن يتحطم أو ينسحق أو يتناثر في الفراغ. لأن النجوم والكواكب بخروجها عن الفلك الذي تسبح فيه صلتها بفلكها الذي يحفظها ويحفظ عليها مسارها الذي ينبغي أن تسبح فيه، كما تفقد صلتها بقوة الجاذبية التي كانت تشدها إلى فلكها الذي كانت تسبح فيه، وتفقد قبل ذلك جاذبيتها التي كانت تشد الفلك إليها، فتتحطم وتتناثر في الفضاء.
فالأرض لو خرجت عن مدارها البيضاوي المعتاد لسبب ما، كنقص في قوة جاذبية الشمس مثلاً فستدخل في فوضى عدم الانتظام، وقد تختل الحياة فوقها، فتفقد الأجسام استقرارها فوق الأرض، رغم وجود جاذبية الأرض، لأن جاذبية الأرض تحفظ الأجسام فوق الأرض، ولكنها لا تحفظ الأرض نفسها من عدم الانتظام، أي من عدم انتظامها في مسارها وبقائها في فلكها ومدارها، وقد تقل سرعتها فتبرد وقد تزداد إذا ما خرجت عن مدارها، وقد تقترب من الشمس أكثر مما هي عليه، لتذوب وتتبخر بفعل حرارة الشمس الشديدة، وقد تبتعد فتبرد. وكلّ ذلك يحدث بسبب خروجها عن فلكها الذي تدور فيه حول نفسها أو عن فلكها الذي تدور فيه حول الشمس.
لأنّ هذه الأفلاك هي التي تشد الكواكب والنجوم إليها فتحفظ عليها انتظامها واستمرارها في حركتها ودورانها. حيث تحدث الكتلة Mass (الشمس مثلاً)، تقعراً أو تجويفاً في النسيج الفضائي، حيث يسبح النجم في الفضاء في فلكه، الذي هو عبارة عن مساره الأجوف أو المتقعر أو الذي يتقعر تباعاً كلما تحرك النجم في مساره أو جرى كالشمس أو الأرض، وكلّ فلك منها أو مسار أو طريق يختلف عن غيره من حيث القوة والضعف، فالفلك الذي تسبح فيه الشمس يختلف عن الفلك الذي يسبح فيه القمر أو الذي تسبح فيه الأرض، وهكذا..
وهذه الأفلاك ليست مجرد تعيينات في الفضاء كيفما كانت، فارغة، أو لا معنى لها مثلها كمثل غيرها من الفضاء الآخر، أي أنها ليست فراغاً في فراغ ولكنها فضاءات مخصوصة، معينة ومحددة، لكل كوكب من الكواكب، أو نجم من النجوم فضاء مخصوص يختلف عن غيره من الفضاءات الأخرى، فلكل كوكب أو نجم فضاء مخصوص، وفلك مخصوص، ولكل فلك كوكب أو نجم مخصوص.
وليس للأرض أو للشمس أو للقمر والكوكب والنجوم أن تكوّن أو أن توجد نظاماً أو انتظاماً أو توازناً في الفضاء دون أفلاك تسبح فيها. بل إن لكل كوكب أو نجم فلك خاص به يسبح فيه، في مدار بيضاوي حول الشمس، ولا يخرج عنه. لأنّ خروجه في الفلك يعني انتهاء انتظامه، انتهاء دوره، وهو ما يعني تحطمه ودخوله في فوضى الوقوع أو الخروج عن مساره الذي يعمل فيه.
ولذلك تتحطم الكواكب التي انتهى عمرها ودورها وتتناثر على هيئة شهب ونيازك بأن تخرج عن مسارها، أي تخرج عن الفلك الذي كانت تسبح فيه والنجوم تولد وتعيش في فلكها أو في مسارها ثمّ ينتهي دورها أو تنتهي وظيفتها فتتحطم وتتناثر بعد أن تخرج عن فلكها الذي كانت تسبح فيه.
وقد تكون هذه الأفلاك أو الطرائق والمسارب هي الحُبُك[1] التي أقسم الله بها في سورة الذاريات:
(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) (الذاريات/ 7). أي ذات الطرائق والمسارات المحكمة الحبك أو الخلق.
حيث يفسر البعض الحبك بأنها طرائق النجوم ومساراتها، كالطرائق والتموجات التي تظهر على الرمل أو الماء إذا جاءته الريح، ويفسرها آخرون بأنها الشد والإحكام، من حبكت الثوب إذا أحكمت نسجه، أو من حبك الحبل والإزار إذا شده وأحكم ربطه، والمحبوك هو الشيء المحكم الخلق.
وسواء أكانت كلمة الحبك تعني الطرائق التي تسبح فيها النجوم والكواكب، كما يرى بعض المفسرين، أم كانت تعني إحكام نسج الفضاء، الذي تسبح فيه الكواكب والنجوم فهي في كلتا الحالتين تعني أنّ التعيينات أو الطرائق أو المسارات التي تسبح فيها النجوم والكواكب ليست مجرد فضاء أو مجرد تعيينات كيفما كانت. وإنما هي حُبُكْ أو هي أفلاك ومسارات مشدودة ومحكمة ومحبوكة، أو أنّ النسيج الفضائي الذي تتعين فيه هذه المسارات والطرائق والأفلاك هو نسيج فضائي محكم ومحبوك، وأنها (أي الأفلاك والمسارات) متعينة في هذا الفضاء المحبوك، كما هو حال السماء كلها ذات الحبك.
وبالتالي فإنّ الحبك كأفلاك ومسارات وطرائق، أو الحبك كنسيج تقع فيه هذه الأفلاك والمسارات والطرائق إنما يعنيان كلاهما: (الحبك كأفلاك أو الحبك كنسيج) أن الأفلاك التي تسبح فيها النجوم إنما هي الحبك ذاتها، أو هي النسيج الذي حبك على هذا النحو البديع المحبوك لتجعل فيه هذه الأفلاك كطرائق ومسارات للنجوم والكواكب وأنّ هذه الأفلاك، أو هذه الطرائق والمسارات إما أن تكون هي نفسها الحبك، أو أنها متعينة في فضاء محبوك، وكلا الأمرين يعني أنّ الأفلاك ليست – كما ذكرنا – مجرد تعيينات في الفضاء. بل هي أفلاك مخصوصة، ومحددة، لتسبح فيها الكواكب والنجوم، جعلها الله كطرق ومسارات للنجوم والكواكب، فلا تصطدم الواحدة بالأخرى لأن لكلٍّ فلك يسبح فيه ولكلٍّ مسار يسير فيه ولكلٍّ قوة جذب تحدد علاقته بغيره، مثلما تحدد علاقة غيره به:
حيث (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس/ 40).
وهو ما يعني أنّ للأفلاك دورها في حفظ الكواكب في مداراتها، رغم أنّه لم يتحدث أحد من الفيزيائيين عن هذه الأفلاك كطرق أو مسارات للنجوم والكواكب، ولم يظهر أحد منهم أهميتها أو دورها كطرق ومسارات محددة لا يخرج عنها من يسبح فيها، وإذا ما خرج عنها نجم أو كوكب فهو هالك لا محالة.
المصدر: كتاب التأملات في انتظام الأكوان وقوام الكائنات
[1]- حبك السماء: طرائقها. وفي التنزيل: والسماء ذات الحبك؛ يعني طرائق النجوم، واحدتها حَبِيكة والجمع كالجمع. وقال الفراء في قوله: والسماء ذات الحُبُك؛ قال: الحُبُك تكسُّر كل شيء كالرملة إذا مرت عليها الريح الساكنة، والماء القائم إذا مرت به الريح، والدرعُ من الحديد لها حُبُك أيضاً، قال: والشعرة الجعدة تكسُّرُها حُبُكٌ، قال: وواحد الحُبُك حِباك وحَبِيكة؛ وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: والسماء ذات الحُبُك؛ الخَلْق الحسن، قال أبو إسحق: وأهل اللغة يقولون ذات الطرائق الحسنة؛ وفي حديث عمرو بن مُرّة يمدح النبي (ص):
لأصْبَحْتَ خير الناس نفساً ووالداً *** رسول مليك الناس فوق الحبائِك
الحبائك: الطرق، واحدتها حبيكة، يعني بها السماوات لأن فيها طرق النجوم. والمحبُوك: ما أجيد عمله.
والمَحْبُوك: المُحْكَمُ الخلق، من حبكت الثوب إذا أحكمت نسجه. قال شمر: ودابة محبوكة إذا كانت مدمجة الخلق، قال: وكل شيء أحكمته وأحسنت عمله، فقد احتبكته/ لسان العرب.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق