• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

«الدعاء» وسيلة الوصال

مركز نون للتأليف والترجمة

«الدعاء» وسيلة الوصال

◄على القارئ مع نهاية هذا الدرس أن:

1-    يبيّن أنّ الدعاء من أهمّ مصاديق العبادة التي تقرّب الإنسان من الله تعالى.

2-    يتعرّف إلى آداب الدعاء.

3-    يذكر أهم الموانع التي تحول دون استجابة الدعاء.

 

قيمة الدعاء:

الدعاء هو إقبال العبد على الله، والإقبال على الله هو روح العبادة، والعبادة هي الغاية من خلق الإنسان. هذه النقاط الثلاث تجسّد لنا قيمة الدعاء وتوضح لنا حقيقته. فالقرآن صرّح بشكل واضح أنّ العبادة هي الغاية من خلق الإنسان حيث قال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56)، وقيمة العبادة أنّها تشدّ الإنسان إلى الله وتربطه به تعالى.

ولذلك فإنّ قصد التقرُّب إلى الله في العبادة أمرٌ جوهري في تحقيقها، ومن دونه لا تكون العبادة عبادة. فالعبادة في حقيقتها حركةٌ إلى الله، وإقبالٌ على الله، وقصدٌ لوجه الله، وابتغاءٌ لمرضاته. والدعاء هو في الحقيقة إقبالٌ على الله، ومن أبرز مصاديق الانشداد والارتباط به عزّ وجلّ، ولا يوجد في العبادات عبادة تقرُّب الإنسان إلى الله أكثر من الدعاء. عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "عليكم بالدعاء، فإنّكم لا تتقربون بمثله".

وكلما كانت حاجة الإنسان إلى الله أعظم وفقره إليه تعالى أشدّ واضطراره إليه أكثر يكون إقبال في الدعاء على الله أكثر. والنسبة بين إحساس الإنسان بفقره إلى الله واضطراره إليه تعالى، وبين إقبال الإنسان عليه سبحانه في الدعاء نسبة طردية. فإنّ الحاجة والاضطرار يلجئان الإنسان إلى الله، وبقدر ما يشعر بهذه الحاجة يكون إقباله على الله، كما أنّ العكس كذلك أيضاً.

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق/ 6-7). إنّ الإنسان ليطغى ويعرض عن الله بقدر ما يتراءى له أنّه قد استغنى، ويقبل على الله بقدر ما يعي من فقره وحاجته إلى الله. وتعبير القرآن الدقيق (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)، فلا غنى للإنسان عن الله، بل الإنسان فقرٌ كلّه إلى الله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر/ 15)، ولكن يتراءى له أنّه قد استغنى، وغرور الإنسان هو الذي يخيّل إليه ذلك. فإذا تراءى له أنّه قد استغنى عن الله، أعرض ونأى بجانبه وطغى. فإذا مسّه الضر وأحسّ بالاضطرار إلى الله عاد وأقبل إليه. الدعاء في الحقيقة هو إقبالٌ على الله. ومن يدع الله تعالى ويتضرّع إليه فلابدّ أن يقبل عليه تعالى، وهذا الإقبال هو حقيقة الدعاء وجوهر قيمته. فالدعاء إذاً جوهر العبادة وروحها، فإنّ الغاية من خلق الإنسان العبادة، والغاية من العبادة الانشداد إلى الله. والدعاء يحقق هذا الانشداد والارتباط من أوسع الأبواب وبأقوى الوسائل. فعن النبيّ الأكرم (ص) أنّه قال: "الدعاء مخ العبادة، ولا يهلك مع الدعاء أحد". ولأنّ حقيقة الدعاء هي الإقبال على الله كان الدعاء أحب الأشياء عند الله وأكرمها عنده. عن رسول الله (ص): "ما من شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء".

وسُئل الإمام الباقر (ع) أي العبادة أفضل؟ فقال: "ما من شيء أفضل عند الله عزّ وجلّ من أن يُسأل ويُطلب مما عنده وما أحد أبغض إلى الله عزّ وجلّ ممّن يستكبر عن عبادته ولا يسألُ ما عنده".

 

آداب الدعاء وشروطه:

لكلّ عبادة آدابٌ وشروطٌ لابدّ من مراعاتها لتحقيق الثمرة المرجوّة منها وكذلك الدعاء. فما لم يتأدب الإنسان بآداب الدعاء فلا ينتظر إجابة دعائه ولا السكينة الروحية والراحة النفسية التي ينالها الداعي عادةً. فعن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "احفظ أدب الدعاء وانظر مَن تدعو، كيف تدعو، ولماذا تدعو، وحقّق عظمة الله وكبرياءه، وعاين بقلبك علمه بما في ضميرك واطّلاعه على سرك وما تكون فيه من الحقّ والباطل، واعرف طرق نجاتك وهلاكك كيلا تدعو الله تعالى بشيء فيه هلاكك وأنت تظن أنّ فيه نجاتك، قال الله تعالى: (وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا) (الإسراء/ 11)، وتفكّر ماذا تسأل ولماذا تسأل... فإن لم تأتِ بشرط الدعاء فلا تنتظر الإجابة، فإنّه يعلم السر وأخفى، فلعلك تدعوه بشيءٍ قد علم من سرك خلاف ذلك".

أما آداب الدعاء وشروطه فهي:

1-    البدء بالبسملة وبالصلاة على محمّد وآله والختم بها:

وهي من الآداب الضرورية، فعن الرسول الأكرم (ص) قال: "لا يردّ دعاء أوّله بسم الله الرحمن الرحيم". وعن الإمام الصادق (ع): "لا يزال الدعاء محجوباً حتى يصلّي على محمد وآل محمد". وعنه (ع) أيضاً قال: "مَن كانت له إلى الله حاجة فليبدأ بالصلاة على محمد وآله، ثمّ يسأل حاجته، ثمّ يختم بالصلاة على محمد وآل محمد، فإنّ الله أكرم من أن يقبل الطرفين ويدع الوسط".

2-    معرفة الله:

من أهمّ شروط استجابة الدعاء معرفة الله تعالى، والإيمان بسلطانه وقدرته المطلقة على تحقيق ما يطلبه منه. فعن رسول الله (ص) أنّه قال: "لو عرفتم الله حقّ معرفته، لزالت الجبال بدعائكم".

وروي أنّ الإمام الصادق (ع) قرأ "(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (النمل/ 62)، فسُئل: ما لنا ندعو ولا يستجاب لنا؟ فقال (ع): لأنّكم تدعون مَن لا تعرفون، وتسألون ما لا تفهمون".

3-    حسن الظنّ بالله:

وهو من شعب الإيمان بالله تعالى، فالله تعالى يعطي عباده بقدر حسن ظنّهم به ويقينهم بسعة رحمته وكرمه. ففي الحديث القدسي: "أنا عند ظنّ عبدي المؤمن بي، إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً". وعن الإمام الصادق (ع) قال: "لا يزال العبد بخير ورجاء ورحمة من الله عزّ وجلّ، ما لم يستعجل فيقنط، ويترك الدعاء، وقيل له: كيف يستعجل؟ قال: يقول: قد دعوت منذ كذا وكذا وما أرى الإجابة".

4-    إقبال القلب على الله:

وهو من أهمّ شروط الاستجابة، فإنّ حقيقة الدعاء في إقبال القلب على الله، فإذا اشتغل قلب الإنسان بغير الله تعالى من شواغل الدنيا لم يحقّق الإنسان حقيقة الدعاء. فعن الإمام الصادق (ع) أنّه قال (ع): "إنّ الله عزّ وجلّ لا يستجيب دعاءً بظهر قلبٍ ساه، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثمّ استيقن الإجابة".

5-    الإخلاص:

على الداعي أن يخلص لله تعالى ولا يشرك في دعائه شيئاً، لأنّ الله تعالى لا يقبل إلّا ما كان له خالصاً، فعن الإمام السجاد (ع): "مَن لم يرجُ الناس في شيء وردّ أمره إلى الله عزّ وجلّ في جميع أموره استجاب الله عزّ وجلّ له في كلّ شيء".

6-    المداومة على الدعاء في الشدّة والرخاء:

فعن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "ينبغي للمؤمن أن يكون دعاؤه في الرخاء نحواً من دعائه في الشدة، ليس إذا أعطي فتر، فلا تملّ الدعاء فإنّه من الله عزّ وجلّ بمكان". وعنه (ع) أيضاً قال: "مَن سَرّه أن يُستجاب له في الشدّة فليُكثر الدعاء في الرخاء".

7-    اقتران الدعاء بالعمل:

فمن شروط الدعاء الأساسية اقتران الدعاء بالعمل، لا ينفع دعاء من غير عمل، كما وأنّه لا يغني العمل عن الدعاء أيضاً. من وصايا النبيّ الأكرم (ص) لأبي ذر: "يا أبا ذر، مثل الذي يدعو بغير عملٍ كمثل الذي يرمي بغير وتر". وروي أنّ رجلاً قال للإمام الصادق (ع): "لأقعدنّ في بيتي ولأصلينّ ولأصومنّ ولأعبدنّ ربي، فأمّا رزقي فسيأتيني. فقال (ع): هذا أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم".

8-    اجتناب الذنوب:

فإنّ جوهر العبادة كما علمنا هو الإقبال على الله، فكيف يتأتّى لإنسان يمارس معصية الله تعالى ويعرض عن أمره وحكمه أن يقبل عليه؟! فعن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "إنّ العبادة يسأل الله تعالى الحاجة، فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجلٍ قريب، أو إلى وقتٍ بطيء، فيذنب العبد ذنباً، فيقول الله تعالى للملك، لا تقضِ حاجته، واحرمه إياها، فإنّه تعرّض لسخطي، واستوجب الحرمان منّي".

9-    بثّ الحاجة بين يدي الله:

فالله عزّ وجلّ وإن كان يعلم حوائجنا، ولكنّه يحبّ أن نبثّها إليه كما في الحديث عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "إنّ الله تبارك وتعالى يعلم ما يريد العبد إذا دعاه، ولكن يحبّ أن يبثّ إليه الحوائج، فإذا دعوت فسمّ حاجاتك، وما من شيءٍ أحبّ إلى الله من أن يُسأل".

10- الإلحاح في الدعاء:

الإلحاح في الدعاء يكشف عن عمق ثقة العبد ورجائه في الله تعالى وعمق تعلّقه به. فكلما كانت ثقة الإنسان بالله أكثر كان إلحاحه في الدعاء أكثر والعكس صحيح. فعن رسول الله (ص) قال: "إنّ الله يحبّ الملحّين في الدعاء". وعن الإمام الباقر (ع) قال: "إنّ الله كره إلحاح الناس بعضهم على بعضٍ في المسألة، وأحبّ ذلك لنفسه".

11- الدعاء للآخرين:

فعن رسول الله (ص) أنّه قال: "مَن دعا لمؤمنٍ بظهر الغيب قال الملك: فَلَكَ مثل ذلك". وعن الإمام الصادق (ع) قال: "دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب يدرّ الرزق، ويدفع المكروه".

12- التوجّه إلى معاني الدعاء:

فلا يدعو وهو غافلٌ عمّا يتلفّظ به ويطلبه، فعن الإمام الصادق (ع) قال: "إنّ الله لا يستجيب دعاءً بظهر قلبٍ ساه، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثمّ استيقن بالإجابة".

13- الدعاء بالمأثور:

أي بالأدعية التي وصلتنا من أهل بيت النبوّة صلوات الله عليهم، ففي كلامهم أفضل تعبير عن العبودية والتضرُّع والخضوع لربّ العالمين، حيث إنّ الأدعية والمناجاة التي وصلتنا عن الأئمة المعصومين هي أعظم أدلة إلى معرفة الله جلّ وعلا، وأسمى مفاتيح العبودية وأرفع رابطة بين الحقّ والخلق. كما أنّها تشتمل في طياتها على المعارف الإلهية، وتمثّل أيضاً وسيلةً ابتكرها أهل بيت الوحي للأنس بالله جلّت عظمته فضلاً عن أنّها تمثل نموذجاً لحال أصحاب القلوب وأرباب السلوك.

 

موانع استجابة الدعاء:

وينبغي للمؤمن أن يحترز عن القيام بما من شأنه حجب دعائه وعدم استجابته مخافة أن يصل إلى الحدّ الذي لا يوفّق بعده للدعاء أصلاً فيكون شقيّاً، كما نقرأه في دعاء كميل: "فأسألك بعزّتك أن لا يحجب عنك دعائي سوء عملي وفعالي"، و"اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء"، وقد أكّد أهل العصمة (عليهم السلام) على عدّة موانع تقف حائلاً دون إجابة الدعاء وهي:

1-    الشرك:

فعندما يتوجّه الإنسان بالطلب إلى الله تعالى ولكنه في نفس الوقت يرى مؤثريّةً لغيره عزّ وجلّ في تدبير أموره وتسيير شؤونه، فإنّ ذلك يعدّ من مراتب الشرك الخفيّ، والتي يمكن أن تكون سبباً لعدم استجابة الدعاء.

فعن الإمام الصادق (ع) قال: "أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود (ع): ما اعتصم بي عبدٌ من عبادي دون أحدٍ من خلقي عرفت ذلك من نيّته ثمّ تكيده السماوات والأرض ومن فيهنّ إلّا جعلت له المخرج من بينهنّ، وما اعتصم عبد من عبادي بأحدٍ من خلقي عرفت ذلك من نيته إلّا قطعت أسباب السماوات والأرض من يديه، وأسخت الأرض من تحته، ولم أبالِ بأيّ وادٍ هلك". والسبب في ذلك أنّه عندما يسأل الإنسان ربّه أمراً ما وقلبه متعلقٌ بالأسباب ومعتمدٌ عليها فهذا ينافي الإخلاص له تعالى وهو القائل: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (غافر/ 14)، (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ) (يونس/ 106).

2-    الذنوب والمعاصي:

حيث تشكّل حاجباً ومانعاً بين العبد ومولاه، لذا على الإنسان أن لا يتأخّر عن التوبة والاستغفار فيما لو وقع في هفوةٍ لا سمح الله، لأنّ الذنوب تحول دون قضاء الحوائج واستجابة الدعاء، فعن الإمام الباقر (ع): "إنّ العبد يسأل الحاجة من حوائج الدنيا فيكون من شأن الله قضاءها إلى أجلٍ قريب أو إلى وقتٍ بطيء، فيذنب العبد ذنباً فيقول الله تبارك وتعالى للملك لا تنجز حاجته واحرمه إيّاها، فإنّه تعرّض لسخطي، واستوجب الحرمان مني".

3-    سؤال ما فيه الضرر:

قد يظن الإنسان في أمرٍ ما خيراً له، فيسأل الله ويلحّ في طلبه ولكن الله اللطيف الحكيم لعلمه بعاقبة الأمور وخفاياها وبواطنها يمنع هذا الأمر عن عبده رفقاً به ورحمة، أو يؤخّره عنه لأنّ صلاحه لا يكون في العاجل وإنّما في وقت لاحق، أو قد يبدله بما هو أفضل منه. فيظنّ الجاهل حينها أنّ الله تعالى أخلف وعده في استجابة الدعاء، ولكنّ الواقع أنّ الله تعالى إنّما امتنع عن إيصال الضرر إليه والذي طلبه نتيجة جهله. يقول الله عزّ وجلّ: (وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا) (الإسراء/ 11).

4-    عدم الصدق في الطلب:

فقد يطلب الإنسان من الله تعالى ويسأله وهو غير صادقٍ في طلبه، والاستجابة إنما تطابق الدعوة، فما يسأله السائل ويعقد عليه ضميره ونيّته هو ما سيناله وليس ما يسأله بلسانه ويظهره بلفظه دون أن يقصده حقاً. فحقيقة الدعاء هو ما يحمله القلب دون ما يأتي به اللسان الذي يدور كيفما أدير صدقاً أو كذباً. ولهذا يقول النبيّ (ص): "ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة". وعن الإمام الصادق (ع): "إنّ الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساهٍ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك، ثمّ استيقن بالإجابة".►

 

المصدر: كتاب دروس في التربية الأخلاقية

ارسال التعليق

Top