• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

النفس المؤمنة

عبدالحسين القزويني

النفس المؤمنة
  ◄مما لا شكّ فيه، أنّ أيّة عقيدة، تترك آثارها في النفس، وتفعل فعلها فيها، بحيث تجعلها منقادة لها، وتترك بصماتٍ بينةً ملحوظةً في سلوك الأفراد والمجتمعات.

فالمسلم المؤمن يستنجس الخمرة، ويتقزز منها، ويتجنّبها من منطلق عقيدته الإسلامية التي حرّمت عليه الخمرة، بينما لا يرى المسيحي بأساً في تناولها، ولا تأباها نفسه.

والناس كلّهم، يأكلون لحوم الأبقار، وربّما يتلذّذ البعض ذلك، في حين أنّ الذي يعتنق الفكرة الهندوسية، لا يأكلها إطلاقاً، ولا يستعمل حتى السكين التي استُعملت في تقطيع لحم البقر.

وهكذا تتبع النفوس العقائد، وتنفعل بها، وتنطلق من منطلقاتها. وبناءً على هذا، فإنّ المسلم المؤمن تقوم حياته على أُسس عقائدية، إسلامية.. يتخلق بأخلاقها، ويتأدب بآدابها، ويحاول أن يكوِّن انسجاماً بينه، وبين ما تمليه عليه عقيدته الإسلامية، ويُنشِىءَ ارتباطاً وثيقاً بينه وبين تعاليم دينه.

فمن الأفكار التي أكّدت عليها العقيدة الإسلامية، هو الإيمان بالله واليوم الآخر، ففي القرآن الكريم أكثر من ألف آية حول المبدأ! وأكثر من ألف آية حول المعاد! هذا عدا النصوص الإسلامية الأُخرى، مما يجعل المؤمن، تختلف نظرته إلى الحياة عن غيره لأنّه سوف ينظر بعيداً... ينظر إلى الحياة الآخرة... ويحسب لها حساباته النفسية، والسلوكية، بخلاف مَن لا يؤمن بالله واليوم الآخر، فإنّه يرى هذه الدنيا، هي البداية وهي النهاية، وتقوم حساباته على هذا الأساس، فتطغى عليه نوازع الشر، ويذوب في المادة، وفي الدنيا، لا يهتم إلّا بالجانب الذاتي في سلوكه مع الآخرين، وتموت في نفسه القيم والمبادئ، وتضيع لديه الموازين والمعايير الأخلاقية، لا يتحرك إلّا إذا كان في تحركه مردود مادي، ليحقق المكتسبات الشخصية، لا يهمه أحد سوى نفسه. فهو لا يؤمن أساساً بالعمل الصالح، والأخلاق الدينية الفاضلة.

ولكن المؤمن، تحيا نفسه في دائرة أوسع بكثير من دائرة الدنيا المحدودة...

يسبر أغواراً بعيدة، في عوالم ما بعد الموت، والآخرة... إنّه يرى في عقيدته مجموعة متكاملة من المناهج، والبرامج، والنظم التي تنظم له الحياة الدنيا، وكذلك الآخرة، وتحكم سلوكياته وتحركاته...

يقول القرآن الكريم:

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف/ 157).

إنّ هذه الآية القرآنية الشريفة، وغيرها من الآيات الكريمة، ترسم للمؤمن نهجاً حياتياً، وتجعله على هذا النهج، يكيف نفسه وفقه، ويتبع خطوطه ومنحنياته، فهو يرى كلّ حلالٍ طيباً، تستطيبه نفسه، وكلّ حرام خبيثاً تأباه نفسه، ويرى في العبودية لغير الله، غلاً وقيداً يحاول أن ينفكّ عنه جهد إمكانه، ويعتقد أنّ الدين الإلهي الذي يعتنقه، هو النور الذي يستكشف به دروب الحياة الحالكة، ويهتدي به في ظلمات الدنيا...

إنّه يحيا لله، ويعمل لله وللناس.. ويخطط للآخرة أكثر مما يخطط للدنيا، وتنعكس كلّ معتقداته الدينية على نفسه، وتلقي بظلالها على كلّ تحركاته في هذه الحياة...

إنّ الصفات التي يعتبرها الإسلام سيئة، كالأنانية، وحب الذات، والتعالي والتكبر، وحب الرفعة، وغير ذلك... لا تتوفر في المؤمن، لأنّه – ومن منطلق الفكر الديني الذي يحمله – يتنازل عن ذاته، ليتوجه إلى الآخرين.. ويظهر ذلك بجلاء، في أخلاقه، وصفاته، وأطواره قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، في صفة المؤمن:

"بُشرُهُ في وجهِهِ، وحُزنُه في قلبِهِ، أوسَعُ شيءٍ صدراً، وأذَلُّ شيءٍ نفساً، يكرَهُ الرفعةَ ويَشنَأُ السُمعةَ، طويلٌ غمُّهُ، بعيدٌ همُّهُ، كثيرٌ صمتُهُ، مشغولٌ وقتُهُ، شكورٌ صَبورٌ مغمور بفكرتِهِ، ضنينٌ بخُلّتِهِ[1] سَهلُ الخليقةِ، ليِّن العريكةِ، نفسُهُ أصلبُ من الصَلدِ وهو أذَلُّ من العَبدِ".

يؤكد الإمام (ع)، في هذه المقطوعة، على كون المؤمن، يتصرف بوحي من عقيدته ودينه، لا بما تمليه عليه مصالحه وأهواؤه، فيجاهد نفسه، ويغالب هواها، ويجعلها مسخّرةً منقادة لأعراف وأخلاق دينه.

يحاول جاهداً، أن يحتفظ بحزنه لنفسه، فلا يؤذي به الآخرين، ويرسم في وجهه بشراً وبشاشةً للناس..

ويمرِّنُ نفسه على أن يكون له صدرٌ رحب، لاستقبال هموم الناس ومشكلاتهم...

ويتذلل للمؤمنين، ولا يحبّ أن يترفع على أحد منهم، مع قوةٍ في النفس، وبُعدٍ في الهمّة..

يفعل كلّ ذلك لله، لأنّه تعالى أمر بذلك، ولأنّه يثاب على ذلك عند الله، وليترك ذكراً حسناً في الناس، كلّ ذلك تمليه عليه عقيدته الإسلامية، ولولا الإيمان لما كان ثمة داع ليحمِّل نفسه فوق طاقتها.

اذكر - هنا - روايةً عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)، تناسب هذا المقام:

كان ابنه (إسماعيل) أكبر أولاده، وهو ممّن جمع الفضيلة والعقل والعبادة، وكان الصادق (ع)، يحبّه حباً شديداً، حتى حسبَ بعض الناس، أنّ الإمامة فيه بعد أبيه وصادف أنْ ألَمّ به مرضٌ شغل بال الصادق عليه، واشتدت به العلّة، حتى أشرف على الموت فعظم حزنه عليه، وفي أثناء ذلك حضر بعض أصحابه عنده، واجتمعوا في داره، ليطعموا على مائدته فبلغه خبر موت إسماعيل، فلم يظهر عليه شيء، وقال لأصحابه: المائدة، وجعل فيها أفخر الأطعمة، وأطيب الألوان، ودعاهم إلى الأكل، وحثّهم عليه، لا يرون للحزن أثراً عليه فلما أتمّوا طعامهم، علموا بموت إسماعيل، وكانوا يحسبون أنّه سيجزع، ويبكي، ويتأثر ويتألم لموت ولده العزيز، ولكنهم لم يشاهدوا عليه أثَرَ ذلك، فسألوه عن ذلك، فقال: "وما لي لا أكون كما ترون، وقد جاء خبر أصدق الصادقين: إني ميِّتٌ وإياكم!".

أية قوّة، وصلابةٍ، هذه، في نفس هذا الإمام العظيم؟ بحيث يملك عواطفه ومشاعره، ويغالب حزنه على وفاة ولده العزيز، ويستقبل أضيافه ببشر وبشاشة، ويخفي عنهم ما يكابده من حزن عميق على فراقه!!

إنّها تعاليم هذا الدين العظيم، وتجربة الصادق (ع)، تكشف عن مدى جدّيته في الانقياد لهذه التعاليم، والأخلاق العالية.

إنّها النفس المؤمنة التي تكون أصلب من الصلد!!

 

التقوى:

إنّ النفس البشرية مستَقَرٌّ للفجور والتقوى، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، غلبت عليه صبغة التقوى في نفسه، وساقته إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الصفات، ومن أعرض عن الدين والإيمان، غمره الفجور، وغرق في الضلال..

(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس/ 7-8).

وقد مكّن الله عزّ وجلّ، الإنسان من التصرف في نفسه، ومنحه القدرة الكافية لتحديد وتغيير مسار النفس، وتَرَكه مُخَيّراً لا مُسَيّراً، يختار بنفسه لنفسه الطبيعة التي يفضلها، إن كانت فجوراً أو تقوى. وبذلك يصرح إمام المتقين، أمير المؤمنين (ع) حيث يقول: "إنما هي نفسي، أروضها بالتقوى، لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر، وتثبُتَ على جوانب المزلق".

أي يحمّلها ويمرّنها على التقوى، وإن كان ذلك عسيراً بعض الشيء، ولكنه يملك من القدرة أن يُوَطِّن فيها التقوى، ويجنِّبها الفجور والانحلال.

ينبّه الإمام (ع)، أنّ النفس المؤمنة، تلك التي تفرضُ على ذاتها قيوداً خاصةً في هذه الدنيا، لتحقق المكاسب الأخروية، لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر.. لتَسعد بالنعيم والراحة عند الله. إنّ الله تعالى، أرشد بني البشر، إلى أن اختيار الفجور سيؤدي - لا محالة - إلى التهلكة والدمار، وعبّر سبحانه وتعالى عن فجور النفس، بالطغيان في بعض الأحيان.

(فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/ 37-39).

وإنّ اختيار التقى سينتهي بالإنسان إلى السعادة والخير لا محالة.

(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/ 40-41).

إنّ النفس يومٌ، وغدٌ، ففي يومها على الإنسان أن يسير بها إلى الهدى والنور وينتهي بها إلى الله..

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (التغابن/ 11).

وفي غدها، عليه أن يستعدّ ويتزوّد لها، وينظر لمستقبلها.. وهو ما يأمر به القرآن الكريم، وتحثّ عليه شريعة الإسلام.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر/ 18-19).

وبهذا الشكل تحصل النفس على الاستقرار والاطمئنان، لأنّها تعيش في كنفِ الله وتحيا مع الإيمان والهدى..

إنّ الحياة تكون أجمل وأحلى، لو عاشها الإنسان بهدوء البال، واطمئنان الخاطر، ويزداد عطاء الإنسان، ويتضاعف عمله، إن كانت نفسه آمنةً مستقرة ولا يتم ذلك إلّا بالاستناد إلى الله تعالى، والالتزام بمنهجه السامي، والاعتماد عليه في كلّ الأمور، وفي كلّ الأحوال.

(أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرّعد/ 28).

إنّ نفس المؤمن متصلة بالسماء، تسترشد بها، وتستمدّ منها الهدوء والسكينة والقوة والعزيمة، والإصرار على مواصلة العمل الصالح، وإسعاد النفس في الدارين.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا...) (الفتح/ 4). ►

المصدر: كتاب رحلة إلى أعماق النفس


[1]- خلّتُهُ: حاجته، أي لا يذكرها لأحد، ويضنُّ بها على الناس، ويذكرها لله وحدَه.

ارسال التعليق

Top