• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ابتسامة أمي

محمّد عباس علي

ابتسامة أمي

نوع من الفرح الجديد أطل من حدقتي أمي، كساهما بلمعة متألقة... أبي أيضاً رأيته حليق الذقن يجلس راسماً على شفتيه ابتسامة مُرحبةً بضيوفه الكرام، بينما صورة جدي على الجدار جالساً في إطاره الداكن مفرود الصدر، مستقيم الطربوش أعلى الرأس، شاربه يبدو من خلف الزجاج مبروماً على جانبي وجهه، ونظراته مغلّفة بقوّة واعتداد... تركته رامياً بنظرتي حولي... أضواء النجفة تهطل من السقف صفراء مشرقة، تتألق على بياض الجدران، كانت الستائر بمثابة حرس شرف تقف زاهية حول الشرفة المفتوحة الشيش، بينما منال أختي هناك في الداخل تعدّ المشروبات التي ستقدمها للضيوف، همست أمي في أذني بصوت يشي بتوترها: "أختك تأخرت".

هرولت إلى الداخل أبحث عنها، كانت مرتبكة وزائغة العينين، تطل على المرآة مدققة. تلمحني بطرف عينها، تهمس وهي مازالت تفحص فستانها الجديد وزينتها: "ما رأيك؟".

تبتسم عيناي، أقول بمكر: رأيي أنا؟

تصطنع الغضب، أتركها إلى المرآة، وجهي يحمل بسمة هائلة، حافظت عليها لأواجه بها الضيوف.

عبر الممر الضيّق الواصل بين الغرف الداخلية والردهة الواسعة، حيث نجلس والضيوف سارت منال، مضت كأنما تعبر برزخاً إلى ميلاد جديد، مرفوعة الرأس كانت باسمة الوجه، يمتد شعرها كذيل حصان ناعماً حالك السواد خلف ظهرها. بينما أنوار النجفة تغلف بصفرتها بياض الحوائط، وطاقم الإنتريه الطوبي، والسجادة الحمراء المزركشة بالخطوط والتعاريج الزرقاء. تحمل منال الصينية وفوقها العصير في أكواب مزيّنة الزجاج بفروع الشجر الخضراء، ومعها فناجين القهوة المزركشه بماء الذهب ذات الوجه الثقيل اللاي يدل على تمارسها ومهارتها... تقدمت إلى أُمّ العريس وخداها يلتهبان إحمراراً.. لاقتها المرأة ببسمة حانية وحملت أقرب الأكواب إليها، تركتها لتنتقل إلى والده الذي قال لها: "مرحباً بعروس ابني".. أرخت جفينها ستاراً يخفي ما اعتراها، استدارت إلى العريس، تلاقت الأعين في نظرة ذات مغزى، جفلت واهتزت الصينية بين يديها، هب لمساعدتها، تلامست الأيدي، إزداد إرتعاد الصينية، فرّت إلى أُمّها، جلست تحت جناحها مرخية أهداباً ترقب من تحتها ما يجري.

رأيتُ عينا أمي تتألقان.. ترفع يدها أعلى فمها وتطلق زغرودة مدوية.. مشرقة الوجه كانت بعد قراءة الفاتحة وتحديد موعد العرس، شفتاها تنغمّان الزغرودة، ووجهها علر الرغ من التجاعيد يتفتح عن سعادة وهي تطيل وتمدّ في صورتها.. تشاركها أُمّ العريس بزغرودة أكبر.. أحدق في الشرفة التي تعمدت أُمي أن تتركها مفتوحة. من المؤكد أنّ الجيران الآن يتحرّقون شوقاً لانتهاء الزيارة لكي تأتي وفودهم للتهنئة. اتطلع إلى صورة جدّي على الجدار. يقولون إنّ الموتى يحسّون بالأحياء. تُرى ما شعورك الآن يا جدّي؟ بدأت عبارات المجاملة تنتقل كطيور مرحة بين الشفاه. فجأة وسط هذا سقط أبي. رأيته يميل إلى جانبه الأيسر، فاقداً القدرة على الحركة، ناظراً إلينا بعينين متسعتين تشعان ببريق دهشة. غطّت وجه أُمي صفرة، تصلّبت قسماتها وهي تهرول إليه... تنسى الفرح والضيوف وتحدّق في عينيه هامسة بصوت كأنما يصدر من غور عميق:

- مالك؟

وهو يبادلها النظر مذموم الفم.

كما أمرتني أُمي، وقفت أمام الباب استقبل المدعوين، أقودهم إلى الداخل حيث عرس منال، بينما أُمي هناك في كلّ مكان، تشرف على كلّ ما يجري حولها في تمرّس شديد، كانت قد رفضت إلقاء الموعد الذي تمّ الاتفاق عليه، أصرت أن يتم العرس قائلة إنّها لن تخلف وعداً قطعه المرحوم والدها. تذكرته قبل الحفل بأيام وهي تتحدث إليّ، كان وجهها غير الوجه الذي أعرفه وكلماتها غير التي تعوّدتها. حدّقت في عينيّ  وهي ممسكة بيديّ بين كفيها في قوّة وهي تقول:

-          لقد كبرت الآن، صرت رجل البيت هل تعي ما أقول؟

هززت رأسي... نعم. وقلبي يرفرف داخل صدري بقوّة... أردت أن أقول شيئاً.. لم أجد بين شفتي حروفاً تصف ما بيّ، تريدني كبيراً.. كيف، وماذا أفعل، همست ببطء:

-          ماذا أفعل لأكون كبيراً؟

قطع أفكاري قدوم العروسين والضجة التي ثارت حولهما، درت أصور تلك اللحظات بالكاميرا.

الشاب الذي حمل مديتين وأخذ يرقص بهما وسط الزفة.. تصفيق الآخرين زغاريد النساء، السعادة التي تغلّف نظرات منال وعريسها بينما أُمي هناك تتابع عيناها ما يجري، حتى إذا جلسا في الكوشة تنهدّت بعمق ملقيه بجسدها على مقعد قريب.

تركتها إليهما، الورود يانعة حولهما والأنوار خلفهما على هيئة قلبين، يضمان مقعديهما، وأمامها الموسيقى والغناء.

استدرت إلى أُمي أسألها أن تأتي.. أريد تصويرها معهما، كانت تبكي، ارتعدت الكاميرا في يديّ، لأوّل مرة منذ وفاة أبي تفرج عن دموعها. تترك لها العنان لتنطلق سهلة على ثنايا وجهها من دون أن تفكر في البزوغ كما كانت تفعل.

أدرت الكاميرا إليها، انتبهت لي، من بين الدموع بزغت بسمة صغيرة حييّة أضاءت وجهها كأنما هي نهار صحو بهي الطلعة، يطل حيّاً من خلف أستار الليل مؤذناً بؤوال الظلمة. شدّني المنظر، التقطت الصورة، بعدها حين طبعت الفيلم  تأملت بسمتها بشغف.

وإلي الآن أنتقل من صورة إلي أخري متعجلاًّ،لكنني دائما أقف أمام هذه الصورة بالذات، ألبس نظارتي ذات العدسات السميكة لأراها بوضوح، و عادة كلما تظرت إليها أسأل الله لها الرحمة، و أسألها جاداًّ... ماذا أفعل لأكوم كبيراً؟ و علي الرغم من الشجون.. أبتسم..

·      كاتب من مصر  

ارسال التعليق

Top