لا شيء يبقى على حاله، وها هي سنوات العمر قد مرت بحلوها ومرها وجاءت مرحلة الشيخوخة لتترك بصماتها على كلّ شيء، لقد شمل التغيير كلّ أعضاء الجسد، بل ربما كلّ أنسجته وخلاياه الدقيقة كما أصاب النفس والعقل ولم لا وقد تغير الناس والزمن وكلّ الحياة من حولنا، إنّ ذلك يبدو كما لو كان سنة الكون، فدوام الحال من المحال.
ويحاول الطب رصد هذه التغييرات التي تصاحب الشيخوخة وتحديد علاقة ما يصيب أجهزة الجسم من تغيير في تركيبها الدقيق مع تقدم السن بأداء الجسد والعقل للوظائف الحيوية المعتادة، والأسلوب العلمي لدراسة هذه التغييرات يتم عن طريق المقارنة بين كبار السن والشباب أو بمتابعة بعض الأشخاص على مدى سنوات حياتهم ودراسة ما يعتريهم من تغيير، وأهمية ذلك هو المساعدة على التنبؤ بما سوف يحدث من تغييرات ومحاولة علاجها أو تعويضها أو التكيف معها مبكراً قبل أن تداهمنا فجأة دون إعداد مسبق.
والمظهر العام لكبار السن يدل على ما فعلته الشيخوخة بالإنسان فالخطوات البطيئة المتثاقلة هي دليل على ما أصاب أعضاء الحركة من العظام والعضلات والمفاصل مع تقدم السن من الضمور وفقدان المرونة أمام القوام المنحني الذي يتميّز به كبار السن فهو نتيجة ما حدث من تغييرات في عظام ومفاصل العمود الفقري والتشويه الذي ينتج عن هشاشة الفقرات وتيبس الغضاريف التي تفصل بينها وقد ثبت أنّ الطول يقل في الشيخوخة عنه في الشباب فينقص ارتفاع الشخص بضعة سنتيمترات نتيجة لانحناء القوام ولضمور عظام وغضاريف العمود الفقري، أما وزن الجسم فإنّه ينقص في الشيخوخة وإن كان الجسم يبدو مترهلاً ذلك أنّ كتلة الجسد تتكون من الدهون والأنسجة الأخرى التي تكوّن العظام والعضلات والأعضاء، وفيما تزيد كمية الدهون مع تقدم السن فإنّ الأنسجة الأخرى تصاب بالضمور ويقل الوزن الكلي للجسم.
ولعلّ الشعر الأبيض هو إحدى الإشارات المميزة للشيخوخة، ويعتبر ظهوره علامة على وداع مرحلة الشباب ودخول عالم الكبار، ورغم أنّ ذلك هو المعنى الذي يمثل الانطباع العام عن مظهر الشعر الأبيض في الرأس والشوارب واللحية وبقية الجسم، فإنّ تغير لون الشعر لا يدل في كلّ الحالات على الشيخوخة حيث أنّ توقيت ظهوره قد يكون مبكراً للغاية (في بعض الحالات الوراثية يظهر الشعر الأبيض في سنوات العمر الأولى)، لكن المعتاد هو أنّ 50% من الناس يتحول الشعر لديهم إلى اللون الأبيض قبل سن الخمسين، ويبدأ ظهور الشعر الأبيض في جانبي الرأس ثم بقية شعر الرأس وبعد ذلك الشوارب واللحية وبقية الجسم، والتفسير العلمي للون الأبيض في الشعر هو غياب الحبيبات الصبغية التي تعطي للشعر مظهره الأسود ولكنها مع السن تختفي المادة السوداء أو الملونة بها.
أنّ التغييرات التي تصيب شعر الرأس والجسم مع تقدم السن لا تقتصر على تغير لونه بل يضعف الشعر ويتساقط ويفقد لمعانه ولعلّ الصلع من المشكلات التي تتسبب من ضعف الشعر وتساقطه في كلا الجنسين بدرجات متفاوتة ويبدأ في مرحلة منتصف العمر عادة ثم يتزايد مع تقدم السن كما أنّ شعر الجسد يتساقط أيضاً مع الشيخوخة، لكن شعر الحاجبين ينمو ويصبح غليظاً، كما أنّ بعض السيدات يظهر لهنّ شعر في الوجه يتسبب في مضايقتهنّ في مرحلة الشيخوخة.
أما المظهر المميز لكبار السن فهو الذي يبدو عند النظر إليهم حين تطالعنا للوهلة الأولى تجاعيد الجلد التي تعتبر من سمات الشيخوخة وليست هذه التجاعيد سوى النتيجة التي تبدو على السطح الخارجي للجسم بسبب الضمور الذي يحدث مع الشيخوخة، فيصبح الجلد جافاً قليل المرونة ويفتقد إلى النضارة، كما أنّ الطبقات الداخلية تحت البشرة حين يصيبها الضمور تسبب ترهل الجلد فيصير أشبه بمن يلبس ثوباً واسعاً أكبر من المقاس الملائم له، وتظهر أيضاً بقع داكنة على سطح الجلد في المسنين نتيجة لتسرب الدماء من الأوعية الدموية الدقيقة بتأثير الزمن على جدرانها إضافة إلى آثار الإصابة بالأمراض التي قد تبدو علاماتها على الجلد الذي يعتبر مرآة لحالة أعضاء الجسم الداخلية.
ولا يقتصر التغيير على وزن وطول الجسم والشعر الأبيض وتجاعيد الجلد فهذا هو ما يبدو فقط بالنسبة للمظهر الخارجي العام لكن التغيير الحقيقي يكون أعمق من ذلك ويشمل كلّ أجهزة الجسم تقريباً من حيث التركيب والوظيفة، ولعلّ أهم هذه التغييرات هي ما يحدث في الجهاز العصبي بفعل الشيخوخة، والجهاز العصبي الذي يتكون من المخ والنخاع الشوكي والأعصاب الطرفية هو الذي يهيمن على بقية أعضاء الجسم وفي الشيخوخة يأخذ المخ في الضمور فيقل وزنه وحجمه، فالمخ في المسنين يكون صغيراً وتبرز تلافيفه وتتسع التجاويف داخله وهذا يؤثر بالتأكيد على أدائه لوظيفته، كما أنّ تركيبه الدقيق كما يظهر تحت المجهر تبدو فيه بعض الخصائص التي تدل على آثار الشيخوخة في هذا العضو الحيوي مثل ظهور بؤر الشيخوخة والتليف في خلاياه، كما يصاحب ذلك نقص كمية الدم التي تتدفق لتغذي المخ وهي تعادل 15% من كمية الدم في الجسم رغم أنّ وزن المخ لا يتعدى 2% من وزن الجسم نظراً لطبيعة وظائفه ويؤثر تناقص إمداد المخ بالدم والغذاء في الشيخوخة بفعل ما يصيب الشرايين التي تنقل الدم من ضيق وتصلب في أداء الجهاز العصبي مع تقدم السن.
ومن الفحوص البسيطة على وظيفة الجهاز العصبي التي نقوم بإجرائها على كبار السن اختبار الانعكاسات العصبية وتعني أنّنا حين نلمس مكاناً معيناً في الجسم أو نطرق عليه بواسطة المطرقة الطبية البلاستيكية فإنّ رد فعل مناسب يحدث مباشرة، ولعلّ هذا الفحص من الأشياء الروتينية المألوفة للأطباء والمرضى على حد سواء، والمثال على ذلك عند الطرق على أسفل الركبة تنتفض الساق في استجابة سريعة وعند وخز القدم يتم سحب الساق تلقائياً كرد فعل فوري وذلك ينطبق على الناس من كلّ الأعمار وأي تغيير به يعني خللاً في وظيفة الأعصاب، وفي حالات الشيخوخة وخصوصاً بالنسبة للطاعنين في السن الذين تدهورت وظائف الجهاز العصبي لديهم يمكن أن تكون اختبارات الانعكاسات العصبية هذه دليلاً على مدى ما أصاب المخ والأعصاب من تغيير، ومن الظواهر المثيرة للاهتمام في هذه الحالات أنّ مجرد لمس راحة اليد بواسطة قلم أو بالأصبع فإنّ هذا الشخص المسن يطبق قبضته على هذا الشيء تلقائياً ولا يتركه إنّ ذلك مطابق تماماً لما يمكن أن تراه وتجربه بنفسك في حالة طفل وليد في شهور حياته الأولى حين يقبض على أي شيء يقع في راحة يده تلقائياً ويستمر في ذلك مهما جذبته منه، وأكثر من ذلك فإنّ ما نلاحظه في الأطفال في هذه السن المبكرة حين تضع له أي شيء داخل فمه فيأخذ في امتصاصه مثل الرضاعة قد تعجب إذا علمت أنّ نفس الشيء يحدث في حالة الطاعنين في السن فهو يقوم بما يشبه الرضاعة ويمتص أي شيء يلمس شفتيه، والسبب في ذلك هو تدهور وظائف الجهاز العصبي بصورة كبيرة مما يؤدي إلى ظهور مثل هذه الأشياء الخاصّة بالرضع في الأطفال، وكأنّ الزمن قد أخذ بالإنسان دورة كاملة ليعود إلى حيث بدأ! وعلاوة على ذلك فإنّ استمرار تقدم السن إلى أكثر من لك وتدهور وظائفه قد يؤدي بالمسن إلى البقاء في مكانه دون حركة حتى تتيبس المفاصل والعضلات وتتجمد تماماً ويأخذ الجسم وضعاً ثابتاً يشبه جلسة القرفصاء، وقد يبدو المسن في هذه الحالة وقد تكور على نفسه دون حراك ولا يستجيب لأي شيء حوله سوى بالصراخ عند أي محاولة لتغيير وضعه، وهذا الوضع هو أشبه ما يكون بوضع الجنين الإنساني داخل الرحم ولذا أطلق عليه الوضع الجنيني للمسنين، إنّ ذلك مزيد من العودة إلى البداية! ومن تغييرات الجسد والنفس مع تقدم العمر ذلك التباطؤ الذي يكون سمة كلّ شيء في تلك المرحلة، ليس فقط في الحركة والنشاط ولكن في التفكير والاستجابة، وكذلك في وظائف أعضاء الجسم المختلفة، فالقلب الذي ظل ينبض بانتظام وبمعدل ثابت تقريباً ليضع الدم إلى بقية الجسم على مدى السنين تبدأ ضرباته في الضعف فيقل عددها مقارنة بسابق عهدها كما تقل كمية الدم التي يدفعها لتغذي بقية الجسد، وقد يختل انتظام هذه الوظيفة في مرحلة الشيخوخة بفعل السن أو الأمراض، كما تتأثر الشرايين التي يصيبها التصلب فتفقد مرونتها ويزيد ضغط الدم بها وقد يصل الحال ببعضها إلى الانسداد الكامل، أما الجهاز التنفسي الذي يتكون من الممرات التنفسية والرئتين فإنّ قاعدة التباطؤ تنطبق على أدائه أيضاً حيث تقل كفاءة التنفس الذي يمد الجسم بالأكسجين نظراً لفقدان مرونة القفص الصدري والرئتين ونفس قاعدة التباطؤ تنطبق على جهاز الهضم حيث تقل حركة المعدة والأمعاء وتزيد الشكوى من الإمساك.
وإذا كان كلّ ما تقدم هو جزء من التغييرات التي تصيب الجسد مع الشيخوخة، فإنّ ما يعتري الحالة النفسية والعقلية من تغييرات في الشيخوخة قد تأتي في المقام الأوّل من حيث أهميتها، فحالة الوهن والضعف والاضطراب تصيب النفس والعقل كما تصيب الجسد، ورغم أنّ ذلك ليس قاعدة عامة في كلّ كبار السن إلّا أنّهم يشتركون في تدهور الذاكرة بدرجات متفاوتة، فالنسيان وعدم القدرة على تذكر الأسماء والأحداث من الأمور المعروفة عن كبار السن، أما الحالة المعنوية أو الوجدانية لكبار السن فإنّها في الغالب لا تكون على ما يرام فيتجه الكثير منهم إلى البقاء في عزلة دون محاولة الاختلاط بالناس وإذا تحدثوا كان كلّ كلامهم عن الشكوى مما آل إليه حالهم واليأس. من الحاضر والمستقبل، والحسرة على الماضي وكثيراً ما تدفعهم مشاعر الإحباط إلى حالة من الاكتئاب النفسي كما يبدو كثير من المسنين في حالة من الإجهاد الذهني الدائم وعدم القدرة على التفكير السليم وقد تنتاب بعضهم نوبات من القلق والغضب عندما يخفق في القيام ببعض الأعمال البسيطة، وبعضهم يكون دائم القنوط ويدأب على مقارنة وضعه الحالي وما به من عجز وإعاقة بحالته أيام الشباب وكذا مقارنة قدراته بحال مَن هم أصغر منه سناً ولا يقوى على منافستهم وهناك مَن يتمنى أن يعود الزمن إلى الوراء ويعيش أيام الشباب!
الكاتب: د. لطفي الشربيني
المصدر: كتاب خريف العمر/ أسرار مرحلة الشيخوخة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق