• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أخطار تهدد الإبداع الفني

جان دوفينيو/ ترجمة: هُدى بركات

أخطار تهدد الإبداع الفني
إنّ أحد الاخطار التي تهدد دائماً سوسيولوجيا الفن هو تعريف جامد للحياة الاجتماعية. بمعنى أن ألفاظا كـ"بيئة" و"مؤسسة" و"بنية تحتية" يجب إبعادها إلى متحف الأثريات قياساً إلى أنها تؤدي إلى الاعتقاد بأنّ التجربة الجماعية ممكن أن تكون جامدة، ثابتة وممكن تشبيهها بمادة الفيزيائيين القدماء. إذا فهمنا بشكل أفضل كيف يمكن أن توجد علاقة دائمة، متحركة تبعا للأطر الاجتماعية، بين مجموع القوى المنخرطة في سياق الحياة الجماعية والإبداعية سوف نستوعب بشكل أفضل الواقع الوجودي للعمل الفني. أليس من الأوهام النظر إلى التعبير الفني كنشاط متخصص غريب عن واقع المشاكل الحية؟ يبدو لنا على العكس، أن كل ابداع على أي صعيد وُجد ومهما كانت الأيديولوجيات التي تبرر وجوده هو في علاقة فورية مع تلك الحرية الجماعية الدائمة الفوران التي تبث الحياة في الواقع الإنساني وتقلب البُنى حتى أكثرها شللاً وجموداً وتلقي بالمجموعات الإنسانية (التي تشكل بالنسبة لها التمثلات الجماعية والتصنيفات محرك تكامل وثبات) وفي التغيير وبكلمة شاملة التاريخ. بالطبع هذه العلاقة ليست ظاهرة دائماً والجدير بالذكر انّ الثورات السياسية ليست دائماً فترات إبداعية جمالية بل على العكس. إلا أن تغيرات أخرى أكثر جذرية تقوم على مستويات عميقة من الحياة الجماعية تكون الدرامات السياسية فيها هي التمثل شبه الكامل لها. وهذه التغيرات البطيئة هي التي تجعل التحولات القاطعة ممكنة والتي خلالها يجري الإنسان التجارب على الخيالي. كل شيء يجري وكأنّ الجوهر الاجتماعي، "ألماني" يفعل بشكل مزدوج ودياليكتيكياً من خلال التأمل الفني، بالوقت ذاته كتحديد فاعل وكدعوة، انتظار، حاجة للاشباع، يكون إشباعها دائماً مرجأ كتعبير لما أسماه غورفيتش الحرية البروميتونية يبحث الفن عن تفتح وانتشار للتجربة الواقعية الحية. كإحباط يملي حنيناً لا يقمع للامتلاء المستهلك على شكل مشاركة. بهذا المعنى نستطيع القول بأنّ الفن يمد في الدينامية الاجتماعية بوسائل أخرى. نستطيع أن نستخلص ثلاث نتائج من أجل تحليل للإنسان المجابه بالابداع الفني والمتجذر في الوجود الاجتماعي، انّ الخيال الفني يملي مشاركة مرجأة، انّه يحدس بمسافة كبيرة من التجربة الواقعية على التجربة الممكنة؛ بالنهاية انّه رهان على قدرة النوع البشري على ابتكار علاقات جديدة والإحساس بانفعالات لا تزال مجهولة. وكمشاركة مرجأة يتنافس الخيال الفني مع جوهر الجماعات الاجتماعية ولكنه يقترح تواصلاً كاملاً، حيث تنفتح الضمائر على بعضها وحيث الاستهلاك المتبادل للجوهر الاجتماعي يكون حاداً يغنيه بلا توقف – تبادل حاد ومستمر. هذه التجمعات التي توحي بها اشارات ورموز الفن لا تقارن بأي تجمع واقعي ولهذا فهي لا تخص مطلقاً نظام الواقع الإيجابي. هذه المشاركة هي أيضاً استباق للتجربة الواقعية للبشر. فأحياناً يؤخذ الخيالي كسلوك يؤدي إلى فراغ وأحياناً وظيفة تفرز الصور، وأحياناً لعبة. الخيالي وسلوك وجودي يحاول من خلال الرموز والاشارات، ان يمتلك أوسع تجربة ممكن أن يحسها الإنسان، وبالتالي فيما هو أبعد من الانفعالات الحاضرة انها تتطرق إلى انفعالات مستقبلية. في خلاصة بنية الجهاز العضوي يقابل كورت غولدستان الجسم المتضرر أو المريض الذي يكف عن البحث في بقائه، بالجسم الصحيح الذي يحاول مجابهة انفعالات جديدة. إنّ الصحة هي بلا شك في البحث عن صدمات مجهولة في اتخاذ موضع خطر وذلك في تعريض النفس لزعزعات غير متوقعة. قد يكون ذلك هو الشكل الأكثر بساطة للشجاعة الإنسانية. انّه يظهر كما يقول غولدستان عندما "يبحث الإنسان عما هو أبعد من بقائه" ويضيف: "هذه الكفاءة تتوافق مع ذات الإنسان وتظهر أعلى درجة للكائن العضوي عامة" أي الحرية. ان نقل هذه الإيحاءات إلى مستوى السوسيولوجيا لا يناقض خلاصاتنا. لأنّ الإبداع الخيالي هو حدس للوجود الواقعي فهو لذلك يشكل فرضية عما هو ممكن منطلقة مما يمكن أن تكون حياة وتجربة الجماعات والأفراد. إن رسم غريكو يستبق الرؤية الممكنة لإنسان عصره. لم يرا أحد من هؤلاء الرجال – اللهب الضائعين في عالم حيث السماء ذاتها معجونة من طينة المادة نفسها. عالم بلا فراغ ينتظر بلا شك الرسم الحديث لكي يصبح مفهوماً. إنّ الرواية الفرنسية أو الروسية توحي بعدد لا يحصى من الأوضاع التي لم يسبق ذياعها فارضة سلوكات وانفعالات لم تكن حتى ذلك الوقت قد حُسَّت. انّه نيتشه الذي فتّش في نيس في المكتبات وتصفح رواية لدستوفسكي هو الذي يتحسس الصدمة الآتية والتي ستشبع وجوداتنا اليوم. ان موسيقى الجاز التي أوحت بها أفريقيا ونُقلت إلى أميركا هي التي ستعدل حساسيات ثلاثة أجيال متتابعة وأكثر كفاءة لاكتشاف تنوع الانفعالات الممكنة في عالم ذي تنوعات لا متناهية وان Mezz Mezzrow وMalcolm Lowry يستبقان الأهواء التي سيظهرها البينتك عام 1966. إننا نرى أن عمل فنان ما هو رهان على المظاهر المستقبلية للوجود – لو كان جوهرنا معطى لنا حقيقة، هنا، على مرمى يدنا لما كنا وهذا بلا شك قصدنا إلى أبعد مما يقسرنا. ولكننا غير كافين لأنفسنا فنحتكم إلى ما هو غير موجود بعد. وأحياناً يعيد الشكل الذي نعطيه لهذا الانتظار من يتوجه إليهم هذا الانتظار. وأحياناً نبقى بلا وارث. وماذا يهم؟ انّ هذا لا نستطيع أبداً إدراكه مسبقاً. إننا ما كنّاه بقدر ما نحن ما نتخيله.   المصدر: كتاب (سوسيولوجيا الفن)

ارسال التعليق

Top