قال الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران/ 159).
إنّ بعض الناس يتّصفون بالغلاظة والشدّة والفظاظة والخشونة في تعاملهم، بما يُسبِّب نفور الناس منهم، والآية آعلاه توضِّح ذلك بشكل جليّ. فلو كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فظّاً غليظ القلب، لانفضَّ المسلمون من حوله، ولَمَا تمكّن من نشر دعوة الإسلام فيهم. وفي مقابل الفظاظة، نلاحظ أنّ بعض الناس يتصرّفون مع الآخرين بمسايرة تصل إلى حدّ المداهنة التي أكّدت بعض النصوص سلبيّتها، وسوء فاعلها، فعن الإمام عليّ (عليه السلام): «شرُّ إخوانك مَن داهنك في نفسك، وساترك عيبك». وما يشترك مع المداهنة في سوء التعامل السيِّىء، هو التملّق الذي عرّفه الإمام عليّ (عليه السلام) بقوله: «الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق»، وعنه (عليه السلام): «ليس من أخلاق المؤمن التملّق».
ومن جانب آخر، إنّ اتّصاف الإنسان بالفطنة أمر جيِّد ومستحسن، إنّما الكلام في حُسن الفطنة في كلِّ الأُمور، فهل من الأفضل للإنسان أن يكون ذا فطنة ودقّة ونباهة في جميع أنحاء علاقاته مع الآخرين؟ من الواضح أنّ التعامل مع الآخرين بحدّة ودقّة في جميع المجالات هو أمر مُتعب لكلا الطرفين، لذا وردت عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) النصيحة بإعطاء هامش للتغافل، والتسامح في العلاقة بالناس، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) في وصيّته: «واعلم، يا بنيّ، أنّ صلاح شأن الدُّنيا بحذافيرها في كلمتين: إصلاح شأن المعاش ملء مكيال ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل».
إذاً الفطنة وإن كانت قد تحصل من دون فظاظة، وأيضاً هي مقابل التملّق والمداهنة، إلّا أنّ الإسلام وضع العناوين الأربعة في خانة السلب المطلق أو النسبيّ، كما لاحظنا، ودعا إلى عنوان خامس هو المداراة أو التودّد.
إنّ المداراة المطلوبة في الإسلام، والمدعوّ إليها هي المسايرة التي لا تتجاوز الحقّ، وإلّا فإنّها تتحوّل إلى المداهنة المبغوضة، وهذا ما أرشد إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «رأسُ العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس في غير ترك حقّ»، فإن وقفت عند حدود الحقّ كانت رأس العقل، وعنوانه، كما في الحديث الوارد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «عنوان العقل مدارة الناس».
وتأتي ثقافة الإسلام لتربّي المسلم على أن يتعامل مع المسلمين جميعاً كأنّهم أهل بيته، فيسايرهم ويداريهم، كما يساير ويداري أقرباءه الرحميّين، وهذه القاعدة منطلَق للدعوة إلى التحبّب إلى الناس، فعن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «رأس العقل بعد الإيمان بالله عزّوجلّ التحبّب إلى الناس»، وعن الإمام عليّ (عليه السلام): «إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بطلاقة الوجه، وحُسن اللقاء».
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق