• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحُسنى في القول والمجادلة

عمار كاظم

الحُسنى في القول والمجادلة

يقرر الإسلام الاختلاف كحقيقة إنسانية طبيعية، ويتعامل معها على هذا الأساس. من هذا المنطلق برزت أهمية الدعوة للحوار، واستشراف وجهات نظر الطرف الآخر، قال تعالى: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) (هود/ 118-119). وانطلاقاً من أهمية الحوار، واعتباره إحدى ركائز التعايش، حرص الإسلام على قرار مبادئ للحوار من خلال القرآن الكريم والسنة.

نفهم من ذلك أنّ رأيي صحيح يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، فليس لأحد أن يدعي الحقيقة المطلقة، وليس له أن يخطئ الآخرين لمجرد اقتناعهم برأي مخالف، فالحقيقة نسبية، والبحث عن الحقيقة - حتى من وجهة نظر الآخر المختلف - طريق مباشر من طرق المعرفة، وهو في الوقت نفسه، أسمى أنواع الحوار. وفي ثقافتنا الإسلامية - كذلك - أنّ الحوار يتطلب، أوّلاً - وقبل كلّ شيء - الاعتراف بوجود الآخر المختلف، واحترام حقّه، ليس في تبني رأي أو موقف أو اجتهاد مختلف فحسب، بل احترام حقّه في الدفاع عن هذا الرأي أو الموقف أو الاجتهاد، ثم واجبه في تحمل مسؤولية ما هو مقتنع به. قال الله تعالى:﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ (الإسراء/ 53). فكم من حوار بين زوج وزوجته لم يراع فيه أصول الحوار وآدابه كانت نهايته الطلاق؟،! وكم من حوار نزغ الشيطان فيه بين المرء وصاحبه فكانت عاقبته الفراق؟.

ومن أهم ما يتوجه إليه المُحاور في حواره  التزام الحُسنى في القول والمجادلة، ففي قوله تعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن) (النحل/ 125). (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة/ 83). فللحوار آداب يفضل التمسك بها حيث يجب أن يكون الكلام هادفاً إلى الخير قال تعالى: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَات اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء/ 114). وعن رسول الله (ص) قال: "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت". وهذا أدب نبوي للذين يهمون بالكلام أن يتريثوا ويتفكروا بكلامهم الذي يريدون أن يتكلموا به، فإن كان خيراً فنعم القول هو وليقله، وإن كان شراً فلينته عنه فهو خير له. دلنا الحديث على أنّ المرء مأمور بقول الخير أو الصمت، ثم رغب الإسلام في قول الخير لأنّ فيه تذكيراً بالله، وإصلاحاً لدينهم ودنياهم، وإصلاحاً لذات بينهم.. وغير ذلك من وجوه النفع. ورتب على ذلك أجراً، كما قال رسول الله (ص): "الكلمة الطيبة صدقة". وربّ كلمة طيبة أبعدت قائلها من النار.

ومن أساسيات الحوار البُعد عن الخوض في الباطل، والمراد بالباطل كلّ معصية. كم من القلوب تشتتت بسبب الجدل الذي لا طائل تحته ولا فائدة من ورائه، ولا يقصد منه إلّا إفحام الخصم أو التشهير به، وإظهار الخلل في كلامه أو فعله أو قصده. أن يحاور كلّ إنسان بما يناسبه شرعاً وعرفاً، فيخاطب الوالدين بالتوقير والإجلال والرحمة وخفض الجانب لهما، قال تعالى:﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ (الإسراء/ 23). مع البُعد عن عبارات المدح للنفس أو للغير إلّا لمصلحة وتزكية النفس داخلة في باب الافتخار غالباً، فإن وجد ما يقتضي تزكية النفس إما للتعريف وإما لتوضيح الأمور المبهمة، وإما لدفع تهمة أو غيرها في الأمور المشروعة - فإنّ التزكية جائزة.

ولقد اعتنى الإسلام بآداب الكلام والحديث أي الحوار، فأمر بحفظ اللسان ولزوم الصمت ولين الكلام، ولخطورة اللسان فقد ركز الإسلام على آداب الكلام والمحادثة في الحوار، فالإسلام يريد أن يميز المسلم بعقيدته وعبادته وأخلاقه وآدابه ومظهره. كما ينبغي في مجلس الحوار التأكيد على الاحترام المتبادل من الأطراف، وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، والاعتراف بمنزلته ومقامه، فيخاطب بالعبارات اللائقة، والألقاب المستحقة، والأساليب المهذبة؛ فإنّ تبادل الاحترام يقود إلى قبول الحقّ، والبُعد عن الهوى، والانتصار للنفس. أما الانتقاص فهو أمر مَعيب ومُحرّم. ووضح الإسلام خطورة الكلمة، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ (الانفطار/ 10-12). فقد يتكلم المرء كلمة توبق دنياه وآخرته، وقد يقول كلمة يرفعه الله بها درجات ودرجات. ولما كانت الكلمة بهذه الأهمية لما لها من خطورة كان ما ينبغي على المسلم أن يعتني بلسانه غاية الاعتناء، فيجتنب القول الباطل، وقول الزور، وخلاصة ذلك أن يصون لسانه.

ارسال التعليق

Top