قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) في أدعية الصحيفة السجادية: «وإذا انقَضَت أيّامُ حياتِنا، وتصرَّمَت مُدَدُ أعمارِنا، واستحضرَتنا دعوتُك التي لابدّ منها ومن إجابتِها، فصلِّ على محمّدٍ وآله، واجعلْ خِتامَ ما تُحصي علينا كتَبَةُ أعمالِنا توبةً مقبولةً لا تُوفِفُنا بعدها على ذنبٍ اجتَرحناه، ولا مَعصيةٍ اقترَفناها، ولا تكشِفْ عنّا سِتراً سَترْتَهُ على رؤوسِ الأشهَادِ يومَ تَبلُو أخبارَ عبادِك، إنّك رحيمٌ بمَن دَعاك ومُستَجيبٌ لِمَن نَادَاك».
لقد خلقنا الله تعالى في أكمل صورةٍ وهيئةٍ، وأروع الإبداع والتكوين، فله الحمد على ما صنع وأتقن من عجائب خلقه، ما نرى منهم وما نجهل ويغيب عن حواسنا، فلقد أعطانا الله تعالى كلَّ ما يلزمنا من حواس وإدراكات ومشاعر تحوِّلنا إلى موجوداتٍ حيّةٍ وفاعلة ومتحرّكة، وما أحسنها لو عملت هذه الجوارح وتحرّكت في خطِّ طاعة الله وبناء الوجود والحياة على الخير والفلاح. ولقد سخَّر لنا الله تعالى طيِّبات الرزق لنبقى أقوياء ونستطيع الاستمرار في الحياة، وكي نلبّي حاجاتنا وشهواتنا بالطريقة التي أحلَّها لعباده، وبما لا يخرجون في كلِّ ذلك من قضاء الحوائج إلى الانحراف والفساد والإفساد. كما سخَّر الله لنا ما في هذا الكون كي نزداد انفتاحاً على خلق الله وعظمته، ونؤدِّي حقوقه، يقول تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ) (النحل/ 12)، ويقول تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا في الأَرْضِ جَمِيعاً) (الجاثية/ 13)، فالإنسان يرتفع ويسمو من خلال حمد الله وشكره. والعبد الصالح المؤمن بربّه يعرف معنى التوبة وقيمتها، إذ يقبل على ربّه مخلصاً عابداً، تائباً من كلِّ الذنوب والآثام، معاهداً ربّه على الاستزادة من الحسنات والخيرات، ساعياً إلى نيل مراضيه. إنّه التائب بقلبه من كلِّ مشاعر الغفلة والاستغراق في عبث الدُّنيا، والمقلع عن السَّير في خطِّ الفكر المنحرف. ومَن يرحمه الله يهدِ قلبه إلى التوبة النصوح التي تجعل المرء في مواقع الرحمة الإلهيّة التي يستحقّها العبد من ربّه، وتلك هي النِّعمة الكبرى التي تمنح الحمد عنفوانه وروحه، لأنّها تنقل الإنسان من غضب الله إلى رضوانه، وتهديه إلى طريق الجنّة، وتبعده عن طريق النار، فهو الذي هدانا إليه ودلّنا عليه بفضله وتوفيقه.
ولو نظرنا إلى طريقته في الأُمم التي سبقتنا في تقاليد التوبة وفرائضها، لعرفنا قيمة النِّعمة الكبرى والفضل العظيم فيما أولانا من تسهيلها علينا، فقد وضع عنّا ما لا طاقة لنا به من التكاليف الشاقة، ولم يكلِّفنا إلّا بما يتحمَّله وسعنا. وهذا هو الذي يجعل الرحمة الإلهيّة للإنسان متّصلةً بالبرنامج الروحي والعملي الذي وضعه الله له، ويسَّره لحركته، كما كانت متّصلةً بالجانب الوجودي من حياته، وهو الذي يفتح له أبواب جنّته، ويغلق عنه باب ناره، من خلال التوبة في إرادة التغيير، ومن خلال المغفرة في إرادة الرضوان. وفي انفتاحنا على نِعمة الحمد والتوبة كلّ الحياة، وفيه بعث لأرواحنا وعقولنا من سباتها وغفلتها.
وفي ضوء ذلك، فإنّ التوبة لا تحمل معنى الهروب، بل تمثّل معنى الإرادة الفاعلة التي تجعلنا نواجه الموقف بقوّة، من خلال الطمأنينة الهادئة الآمنة بأنّ الله قد ألغى لنا كلّ ذنوبنا، وجعلنا ننفتح على يوم القيامة كمن لا ذنب له، فلا يوقفنا على ذنب اكتسبناه ليؤنّبنا أو ليبكتنا عليه، ولا معصية اقترفناها ليعذّبنا عليها هناك عندما يقوم الناس لربّ العالمين، ليبلو أخبارهم، وليفضح أسرارهم، ويكشف أستارهم. إنّنا نتوسل إليك، وأنت الذي سترت علينا ما فعلناه، فلم تطلع عليه أحداً من هؤلاء الذين جعلتهم شهداء على خلقك، أن تديم لنا هذه الرعاية الإلهيّة، لتستر علينا في الآخرة كما سترت علينا في الدُّنيا، لأنّنا انطلقنا من مواقع الخطيئة إلى مواقع التوبة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق