◄إنّ المسألة الأساسية في الحياة المعاصرة والتي تجد لها مكاناً بارزاً في كلّ تصرفات الشباب والشابات هي العلاقة الودّية والألفة التي يفرضها الاختلاط بين الجنسين بسبب الأعمال المشتركة والمدارس المختلطة وكلّ الأفكار والتكنولوجيا المتقدّمة التي فرضت هذا الاختلاط، يقول أحد الباحثين التربويّين (دي بوللي في كتابه مبادئ في تربية الفتاة الصادرة سنة 1930): "أنا أعرف كثيراً من الطلاب قد انقلبت حياتهم الأخلاقية رأساً على عقب ووضعهم الدراسي تأخّر كثيراً بسبب هذه العلاقات السهلة مع الجنس الآخر، ويجهل الأهل غالباً ما يشغل ويرهق قلوب أبنائهم وبناتهم، لذلك يجب أن تكون الأذن صاغية والعين واعية لكلّ ما يدور حولهم ولأنّ التدخُّل في الوقت المناسب يعطي أهميته وفاعليته، ولأنّه من المستحيل مع كلّ هذا التطور الذي يعيشه العالم اليوم أن نمنع هذا الاختلاط ولكن أن ننظّمه لنحمي الطرفين".
وهنا لابدّ أن نزرع في نفوس أولادنا القيم الأخلاقية التي أوصى بها ديننا الحنيف، ففي خضمّ هذه العلاقات يجب أن نعلّم أولادنا كيف يميّزون ما بين الفسق وما يجرّه من مخاطر وما بين القيم التي ترتفع بالنفس الإنسانية إلى أعلى المراتب، وهذه لا تتحقّق إلا عبر مرشدين اجتماعيين ومربين على مستوى من المعرفة والتفهُّم، لأنّنا وللأسف الشديد نلاحظ أنّ أبناء وبنات بعض الذين يجب أن يكون لهم الدور الفاعل في تطبيق وتعليم هذه المبادئ الاجتماعية السامية ليسوا على ما يرام بل يتصرّفون بشطط دون وازع أو رادع. لذلك وكما قلنا سابقاً ليس المطلوب أن نقمع هذه التصرُّفات ولكن أن نهذبها ونحسن توجيهها لنضع صاحبها على الطريق القويم. ومن هنا يجب أن تكون كلّ اللقاءات سواء كانت للصداقة أو بقصد التعارف أو لأي سبب كان ضمن العائلات وغير بعيدة عن نظر الأهل لأنّ المثل يقول: "ما وُجدت امرأة ورجل وحدهما إلّا وكان الشيطان ثالثهما" وهكذا يلعب الأهل والمربّون الدور الأهم في إحياء القيم الروحية عند أولادهم لأنّهم عندما يطبّقونها على أرض الواقع سوف يعيشون بأمان وسلام.
إنّ أفضل الطرق لمساعدة الشابات كي يسرن على درب الصّفاء والحقيقة ولنحميهم من الجنوح والانحدار نحو الرذائل هو أن نفهمهنّ الدور الحقيقي للمرأة بكلّ ما تحمله هذه المخلوقة من خير وجمال وقدرة على العطاء، وفي قول للنبيّ محمّد (ص) المرأة ريحانة. فعندما نحرّك كلّ هذه القيم بنفسها تصبح كالشمس الساطعة التي لا يضيء معها المصباح مهما كان قوياً وأقولها بصدق وصراحة لا يمكن لمجتمع أن يكون بالمستوى المطلوب حضارياً بكلّ ما في الكلمة من معنى إلّا مع المرأة الصالحة بما تحمله من أهلية ونبل، ومحبّة للآخرين، فهي ما خُلقت إلّا لتعطي وتحبّ ومَن يُنكر ذلك يبتعد كثيراً عن جادّة الصواب، ولنلق نظرةً على المستشفيات والمدارس وحضانات الأطفال ولا ننسى الدور الأهم داخل العائلة، ففي هذه الأماكن تعطي المرأة ما لا يمكن أن يعوّضه أحد، لأنّها تكون قد نذرت نفسها للدور الذي يجب أن تلعبه من محبّة للآخرين ومساعدتهم، والتضحية براحتها لتسعد المتعبين وهكذا تعيش مع الآخرين ولأجلهم بالإضافة إلى دورها كأُمّ ومهما توسّعنا في شرح هذه القيم لا نستطيع أن نفي المرأة حقّها الطبيعي في مسيرة هذه الحياة.
وفي ختام هذه الدراسة أريد أن أذكر بعض الأمور الهامّة والأساسية الواجب اعتمادها لنجاح العمل التربوي والوصول إلى الهدف المنشود في زرع القيم في النفوس وحسن تطبيقها.
إنّ الهدف الأوّل للتربية هو أن نوجد في نفس الولد أنّه رجل الغد، ومهما كانت تجربته قليلة وأنّه يريد أن يعيش طفولته ومراهقته فلابدّ أن نوجّهه بأن يحوّل غرائزه وميوله الفطرية إلى التعقُّل، والفرح والانشراح.. إلى كيفية القيام بالواجب وأن يستجيب دائماً لصوت ضميره المنبعث من الأعماق والذي هو صدى لصوت الإله داخل كلّ إنسان. وهذه الأمور تترسّخ أكثر فأكثر كلما تعرّف الولد وتفهّم بعمق القيم الدينية.. كيف يعيش مع الآخرين، كيف يبتعد عن الموبقات التي حرّمتها كلّ الأديان السماوية، وأن يفهم أنّ الدين محبّة وإيمان دون تطرّف ولا استهتار، وهكذا نخلق في أعماقه الضوء الذي سينير دربه في مسيرة حياته مهما طالت أو قصرت.
يقول بعض التربويّين، إنّ الكائن البشري يحتاج إلى طرق محدّة وليس باستطاعة الأهل أن يقوموا بهذه المهمّة لوحدهم، إنّها شراكةٌ بين طرفين وتفترض التعاون بين الأهل والولد، ليس بإمكان الأهل تربية ولدهم وكأنّه عنصر غير موجود بل نواكبه وهو يكبر ويكبر ونضع كلّ جهدنا لتصحيح أخطائه وإرشاده إذا حصل منه ما يجب تصحيحه، وهنا أريد أن أُأكد على بعض الأمور التي تحصل بين الأهل والولد يجب الوقوف عندها ومناقشتها.. فعندما يحصل خطأ ترتفع الأصوات ويُطلق البعض عبارات التأنيب والتهديد وقد تصل أحياناً إلى الضرب، في هذه الحال يُقفل باب الحوار وفي هذا الجوّ المشحون ينغلق الولد على نفسه ويعاند ويكثر من السكوت، ويعمل جاهداً على الظهور أمام أهله بمظهر الملاك بينما يُكثر من الأخطاء عندما يبتعد عنهم، وهكذا يقع الأهل في المحظور ويعانون الأمرين كلما كبر الولد وتوسّعت علاقاته.
إذا كان بعض الأهل لا توجد عندهم المقدرة على فهم نفسية الولد والتعامل معه بالتفهُّم والحسنى فهذه مشكلة وممّا يزيدها تفاقماً وتعقيداً أن يكون جوّ البيت غارقاً بالمشاكل فالولد يستيقظ وينام على أصوات المشاجرة بين والديه أو بينهما وبين إخوته وأخواته الأكبر منه أو الأصغر كلّ هذا يوصل إلى طريق مسدود ويكون الحلّ بتهدئة جوّ البيت والتخلي عن العصبية المفرطة والتفاهم مع الولد بهدوء وإذا تعذّر ذلك الاستعانة ببعض المربين الذين من الممكن أن يفهموا نفسية الولد ومساعدته بطرق متطوّرة.
لقد قرأت في أحد الكتب نداء محبّة من امرأة إلى زوجها وأبنائها الأربعة وآمل أن تقراه كلّ أُمّ وتحاول أن تكون على هذا المثال: "أنا أُمّ لأربعة أطفال، أتحمّل مسؤولية هذه الأنفس التي تفتّش كيف توجّه حياتها عبر مسيرة حياتي، وأنا في نفس الوقت المساعدة والموجّهة لزوج أحبّه، مهمّة سامية أحبّ أن أكملها دون تخاذل أو ضعف، آه أحبّائي يا أبنائي الأربعة، احفظوا في أعماقكم ذكريات حيّة أنني أعمل المستحيل لحفظكم من كلّ مكروه، وخذوا من أمّكم المثل الأسمى الذي تعمل لتحقيقه. آه يا أحبائي الخمسة أنتم وأبوكم، أحبّكم كثيراً أكثر مما أحبّ نفسي، هل استطيع أن أكون الضوء الذي تستنيرون به والذي يعطيكم القوّة والقدرة على الصّمود في وجه العواصف، إنّ ابتسامة الفرح لا تفارقني عندما أراكم سعداء وكأنّ الله أعطاني إيّاكم ليسعدني وقد أعطاني سبحانه وتعالى القدرة دائماً على السيطرة على أعصابي مهما كانت الصعوبات والتحديات، فكلّ يوم أقوم بواجبي تجاهكم حتى النهاية بدون تأفّف ولا ضعف، أليس هذا ما تنتظرونه منّي، فأنا دائماً أسأل الله أن يعطيني القوّة والعقل المنفتح لأقوم بواجبي تجاهكم".
لذلك نتمنّى أن يضع كلّ الأهل هذا التفاني والوفاء نصب أعينهم وأن يتخلّوا عن أي نوع من أنواع الأنانية وأن يعالجوا كلّ الأمور بأعصاب هادئة حتى تنجح المهمّة التي أوكلها الله إليهم، ولابدّ لنجاح التربية من هذا الثمن وعاجلاً أم آجلاً سيثمّن الأولاد هذا الدور العظيم الذي قام به الأهل حتى تمكّنوا من مواجهة تحديات الحياة وصعوباتها.►
المصدر: كتاب أبناؤنا من الطفولة المبكرة إلى سن الرشد
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق