◄حب المكان: يربط معظمنا البيت بمنطقة جغرافية أو بجماعة أكثر من ربطه إياه بمنزل ما.
تتخلل تيمة حب المكان الروايات، الأشعار والسِير الذاتية. مثلاً، كان جون آدمز يكن حباً استمر طوال حياته لمدينة برينبري مسقط رأسه، ولشاطئ ما ستشوستس. يكتب دافيد ماكلاو، مؤرخ سيرته فيقول:
"كتب جون آدمز، وهو يتذكر طفولته في عمر متقدم، عن السعادة التي لا نظير لها للتجوال في الحقول المفتوحة وأراضي الغابات بالمدينة، لاكتشاف الجداول، والنزهات الطويلة على الشاطئ.. قال إنّ السنوات الخمس عشرة الأولى من حياته مرت وكأنها حدوته أطفال خيالية".
وبعد ذلك بسنوات، وهو في طريق العودة من لندن بعد أن ترك المنصب الديبلوماسي المرهق، استبق بتوق عودته إلى موطنه:
"لم يُعرَف عن آدمز أنّه دوّن أيّاً من أفكاره خلال رحلته بالسفينة إلى الوطن، لكنه كان قد قال قبل ذلك إن رغبة قوية تملكته ليُمسك مدينة برينبري بقوة ويحتضنها بين ذراعيه. رغبة في أن يعيش ويموت هناك، في أن تُدفن عظامه في أرضها، وفي أن يُزرع أحد أبنائه هناك ليمتهن القانون ويمارس الزراعة كوالده".
يزيد حب المكان متع الحياة اليومية، ويُسهِم أيضاً في متعة العمل. يأتي كل ما يرتبط بمكان عزيز بمتعته الخاصة. وهكذا كان جون آدمز وزوجته أبجيل، أثناء سنواتهما في فرنسا وإنجلترا، يبحثان عن الحقول والحدائق التي تذكرهما بموطنهما الجميل. أيضاً، تروي بيرل باك كيف أن والدتها زوجة رجل الدين المُبشّر، أبدعت حديقة أمريكية في الصين. لم تكن الشوفينية هي دافع تفضيل آدمز وزوجته ووالدة بيرل باك لمثل تلك الحدائق (رغم وجود شيء من هذا في جهودهم)، لكنه حب الموطن الدائم.
يتحدث الراوي في رواية ستنجر عن جدته بصفتها بنّاءة أعشاش. ثمّ يقول "أعجب ما إن كان باستطاعة الأمريكيين الآن أن يَخبروا، مرة أخرى، مشاعر العودة إلى موطن يعرفونه بحميمية، يحسونه بعمق، يحبونه من قلوبهم، ويستسلمون له استسلاماً مطلقاً؟ ليس حقيقياً تماماً أنّك لا تستطيع العودة إلى نفس الموطن مرة أخرى. لقد فعلتُ ذلك. رغم أنّ هذا غداً أقل احتمالاً".
تصبح درجة احتمال حدوث هذا أقل كثيراً حينما تصر المدرسة على التسامي على المكان. الفكرة – وهي ليست سيئة في حد ذاتها – هي إعداد التلاميذ لحياة اقتصادية في أي مكان في العالم المتقدم، وليس بوسعنا تقديم تعليم ضيق يُعدِ لحياة محلية لأن من المحتمل جدّاً لتلاميذنا أن يغادروا أماكنهم بحثاً عن وظائف في أنحاء العالم المتقدم. بيد أنّ النجاح الاقتصادي ليس كل شيء في الحياة؛ وليس ثمة سبب منطقي لأن يتناقص الإعداد للحياة المهنية مع تعليم من أجل حب المكان واحترامه والتمتع بالبهجة المرتبطة به. ليس علينا أن نصر على أن يحب التلاميذ المنطقة التي يكبرون فيها، لكن علينا التعرف على الإمكانية، ونساعدهم على تنمية ذائقة للمكان قد تأتي لهم ببهجة تدوم طوال العمر.
تعكس كثير من الأعمال الأدبية أماكن محددة وترتبط بها. يكتب براد ليندرهاوس في مراجعة له لشعر ربنصون جفرز: "لا يبدو وأن ثمة شاعراً أمريكياً أكثر ارتباطاً بمشهد ثابت يفوق ارتباط جفرز بشاطئ كليفورنيا... من المستحيل تخيل شعره بدون الأرض المرتبط بها". أيضاً، من الصعب فصل روبرت فروست أو إميلي ديكنسون عن نيو إنجلاند، أو جيمس ديكي عن غابات الجنوب الحدودية، كما أن معظم الشعراء والروائيين تُلهمهم، على الأقل جزئياً، أماكن بعينها.
ليس الأدب فقط هو الذي يعكس حب أماكن محددة، بل تعكسه أيضاً كتب الطهو وزراعة الحدائق. كثير من كتب الطهو الجميلة إقليمية وتحوي قصصاً، صوراً وأدباً شعبياً إلى جانب وصفات الوجبات. يجد الذين تمتعهم زراعة الحدائق بهجة في تصفح كتالوجات البذور، وأقول تصفح، لأنّه ثمّة متعة عقلية في النظر كتالوج بذور مصور، تختلف تماماً عن قراءته واستيعابه. وبالمثل، فإنّ النظر إلى كتاب طهو مصوّر يمثل متعة، أما ذلك الذي يتضمن قصصاً فتبهجنا قراءته رغم أنّنا قد لا نستخدم الوصفات التي يحتويها.
غالباً ما يكون لحب المكان علاقة بالطفولة السعيدة. يصف بشلار الدهشة التي يشعرها الأطفال لدى اكتشافهم أعشاش الطيور:
"تلك دهشة تدوم. واليوم، فحينما نكتشف عشاً يعود بنا هذا إلى طفولتنا، أو الأحرى، إلى طفولة ما؛ إلى طفولات كان ينبغي أن نتمتع بها. فليس الكثيرون منا هم من يعلموا بقدر كامل من تضمينات الطفولة الكونية".
ما هي هذه التضمينات الكونية؟ يُمثّل العش، بين أشياء أخرى، ملاذا. يستشهد باشلار بالفنان فلامنيك إذ يقول:
"السعادة والأمان الشخصي اللذان أحسهما وأنا أجلس أمام مدفئتي، فيما يعربد الطقس السيِّئ خارج المنزل، هي سعادة حيوانية بالكامل. الفأر في جحره، الأرنب في مكمنه، الأبقار في الزريبة، لابدّ وأنّها جميعها، تشعر بنفس الرضا الذي أحسه". يقول بشلار "من ثمّ، فإنّ السعادة الشخصية والأمان يعودان بنا إلى بدائية المأوى".
يعود بنا العثور على عش، التفكير في عش، إلى أكثر الأماكن أمناً في طفولتنا. أحياناً تكون الأماكن حقيقية، ومتخيلة أحياناً أخرى، لكنها ممزوجة دائماً بمشاعر الرضا والأمان الشخصي. يتطلب العثور على عش الترحال، لكن العثور عليه في حد ذاته، تذكرة، تبعث على الراحة، بأنّ للفرد مكانه الخاص، عِشه، يعود إليه دائماً في أحلامه. ربما كان سحرنا بكتب الطهو وكتالوجات البذور يخدم هدفاً مماثلاً. فهي تعكس اهتماماً بالوجبات والبذور الفعلية، وأيضاً توقنا للمطابخ والحدائق التي نحلم بها.
بداية بما هو واقعي بإطلاقة ثمّ مروراً بأحلام اليقظة، تنبثق الصورة. يقول بشلار إنّ الصورة تستولد كائناً جديداً، ووفقا لذلك فإنّ "هذا الكائن الجديد رجل سعيد". ثمة شيء في الصورة، يسهم بأسلوب لا حدود له في سعادة البشر، ولا يتطلب أشكالاً من الدراسات العميقة. ولنتذكر زعم بشلار الآخر "إنها الصورة، ملك وعي ساذج، لغة شابة في تعبيرها". وهنا، نكتشف شيئاً يضيف إلى مفهومنا للسعادة. إنها دعوة لأن نبصر ما هو أمامنا مباشرة، أن نتخطى الخيال، ونعود للحياة اليومية بذائقة أعمق.
كيف تستطيع المدارس الحفاظ على المتعة التي يجدها الأطفال، تلقائياً، في الأماكن التي يحبونها وتزيدها؟ من الواضح أن اعترافنا بهذه المتعة ونقاشنا لها يتيح نقطة للبداية. علينا أن نُضمن السعادة غاية للتعليم، ثمّ نتعرف على مصادر السعادة الرئيسية ونضع أهدافاً تتوافق معها. إذا أردنا أن يكون الأطفال سعداء وأن يكون حبهم للأماكن مصدراً مستمراً لسعادتهم، فعلى مناهجنا أن تعمل على تحقيق هذا الهدف.
رباط الطبيعة:
هناك بعض الأدلة على أنّ الرباط بين الناس والطبيعة ضرورة فطرية تأتى في الترتيب بعد الحاجة إلى الطعام. يعتبر افتراض حب الطبيعة والكائنات الحية أنّ للبشر احتياجاً للارتباط بالطبيعة ذا أساس وراثي. بالنسبة لمن يشعرون برابطة قوية مع أشكال الحياة المختلفة: المياه، الصخور، والظواهر الجيوفيزيقية مثل حركات المد والجزر وشروق الشمس، يبدو افتراض الحب الوراثي للحياة صحيحاً. إلا أن علينا أن نعترف أن هناك البعض – يتزايد عددهم – لا يشعرون بحاجة للارتباط بالطبيعة ويفضلون العيش بعيداً عنها ما أمكنهم ذلك. حقيقة أن هناك كثيرين يشعرون بالحاجة إلى هذا الارتباط، وأن هناك آخرين قد يشعرون بها إذا رُبّيَتْ فيهم، تمثل سبباً كافياً للبحث في كيفية مقاربة التعليم للعلاقة بين البشر والطبيعة.
تَخَيَرتُ أن أبدأ بالاحتياج البشري للارتباط مع العالم الطبيعي والمتعة التي يجدها الكثيرون في ذلك بدلاً من البدء باحتياجات الأرض المُوثقة ومسؤوليتنا عن تقليل التهديدات التي تواجهها. ورغم الأهمية القصوى للحركات البيئية، أعتقد أنّه من الأفضل البدء باحتياجاتنا الخاصة والسعادة التي نخبرها من العلاقات الصحية بالطبيعة.
إحدى صعوبات بدء دراستنا للطبيعة بالمشاكل والمسؤوليات البيئية هي أنّ هذا النهج سرعان ما يتحول إلى دروس معيارية: ومعظم الأطفال يكرهون الدروس. أشار هوايتهد بأنّ التعليم المُوجّه ينبغي أن يبدأ بتجربة رومانسية، بفترة تَقّصي وبهجة تزوّد التلاميذ بنزوع داخلي لمزيد من الدراسة. وفي هذه المرحلة التمهيدية، يجد التلاميذ أنفسهم وقد وقعوا في أسر شيء ما، يخبرون متعة ويطرحون الأسئلة. يقول هوايتهد:
"هذه العملية طبيعية وشائقة في آن. لابدّ وأننا لاحظنا كثيراً من الأطفال ما بين الثامنة والثالثة عشر من العمر وهم مستغرقون في بهجتها عملية تميزها الدهشة التي تسودها، وتنزل بها اللعنة من خلال الأغبياء الذي يقضون على الدهشة".
يقول هوايتهد إنّ المرحلة الرومانسية تتلوها مرحلة الحاجة إلى الدقة والإتقان. لابدّ وأن يُجاب عن الأسئلة التي أثيرت في المرحلة الأولى من خلال التفحص والتخطيط الدقيق. وبأحد المعاني، فإنّ مباهج المرحلة الأولى وسيلة لتزويد بدوافع المرحلة الثانية من التعليم الأكثر منهجية. اتفق دِوى مع هوايتهد حول هذه النقطة، إلا أنّه أوضح أننا لا نستطيع أن نعرف بسهولة متى يُعبر هذا "اللهو" عن اهتمام حقيقي، وليس بإمكاننا أن نفترض أن تتبع المرحلة الثانية المرحلة الأولى تلقائياً. يتطلب معرفة متى نرشد التلاميذ إلى الولوج إلى المرحلة الثانية وفقا لاهتماماتهم الكثير من الوقت والجهد المشتركيْن.
ولهذا السبب يتجاهل من لا صبر لهم من المربين النقاش حول المرحلتين ويتوجهون مباشرة إلى مرحلة إجبارية من الدروس التي تماثل مرحلة الدقة والإتقان: علِّموهم فقط الحقائق، المهارات، والعادات التي لابدّ وأن تظهر في مرحلة الإتقان والدقة، المشكلة هنا هو أنّه يُحتمل لمعظم العادات العقلية الهامة – حب الاستطلاع، الدهشة، العثور على المشكلة، اختبارات الافتراضات، والتقييم – أن تُفقد. الأكثر من هذا هو أنّه فيما تصبح الحقائق أهدافاً في حد ذاتها، تبدأ المقررات في الامتلاء بالركام.
يُحلل واضعوا المناهج والمدرسون الحكماء المواقف، ويحاولون أن يجعلوا الأهداف، والمواضيع والأسباب مناسبة لها. حينما نسأل: لماذا نفعل هذا؟ قد نجد أن علينا إعطاء أكثر من إجابة. نريد، بالتأكيد، أن نُعدَّ شبابا يهتمون بالأماكن التي يعيشون بها وبالأرض نفسها. نريدهم أن يعوا القضايا والجدالات التي تحيط بالعولمة وبالتوجهات البيئية، كما نريدهم أن يفهموا بعض المبادئ العلمية المتعلقة بدراسة الأرض وكائناتها الحية. بيد أنّه علاوة على ذلك، فنحن نريد الإسهام في سعادة تدوم طوال الحياة، سعادة قد يخبرها كثير من تلاميذنا بارتباطهم بالطبيعة. وحينما تكون السعادة متضمنة بهذا الأسلوب المباشر، فمن المنطقي أن نبدأ بخبرات تعترف بالبهجة التي يجدها الأطفال في العالم الطبيعي وتعززها.►
المصدر: كتاب السعادة والتربية/ تعليم بلا دموع
ارسال التعليق