◄يقول تولستوي الكاتب والمفكِّر الروسي: "الإيمان هو ذلك الشيء الذي يحيا به الناس".
ويقول الحكيم ناصر خسرو علوي مخاطباً ولده: "جعلت من الدنيا سبيلاً إلى الدين لأنّي بغير الدين يتساوى لديّ الكون والسجن. يا ولدي إنّ الدين بناء شامخ في القلب، ولن ينهدم هذا البناء الشامخ إطلاقا".
وللإيمان الديني آثار عديدة من ناحية بثّ السرور والانبساط، ومن ناحية تحسين الروابط الاجتماعية، ومن ناحية رفع أو تقليل الآلام التي هي من لوازم هذا الكون. وسوف نوضّح آثار الإيمان الديني تحت ثلاثة عناوين:
أ- السرور والانبساط: لبثّ السرور والانبساط لابدّ أوّلاً من "التفاؤل" بالكون والخلقة والوجود.
ولمّا كان الإيمان الديني يمنح انطباع الإنسان عن الكون شكلاً خاصاً فيعتبر الخلقة هادفة، والهدف منها هو الخير والسعادة والتكامل، فمن الطبيعي أنّ نظرة الإنسان ستكون متفائلة بالنسبة إلى النظام الكلي للوجود والقوانين المسيطرة عليه.
وحالة الفرد المؤمن في الكون مثل حالة الفرد الذي يعيش في بلد يعتقد بأنّ قوانين ونظام ومؤسسات ذلك البلد شرعية وعادلة، ويؤمن بحسن نيّة المشرفين على إدارته، ويرى فرص الرقي والتقدم له وللآخرين متوفرة، ويعتقد بأنّ السبب الوحيد الذي يمكن أن يؤخّره إنّما هو كسله وعدم تجربته وهذا سارٍ في المكلفين والمسؤولين ممن هم على شاكلته.
فمن وجهة نظر هذا الشخص يكون المسؤول عن تأخره هو ذاته وليس المؤسسات ولانظام البلد. وكلّ نقص موجود إنّما يعود إلى كونه هو وأمثاله لا يقومون بواجباتهم ومسؤولياتهم على أفضل وجه.
وهذه الفكرة – لا شك – تثير فيه الحماس وتدفعه للتفاؤل والأمل للحركة والمسير.
أما حال الفرد الذي لا إيمان له في هذا الكون فهو مثل حال الفرد الذي يعيش في دولة يعتقد بأنّ قوانين ونظام ومؤسسات تلك الدولة فاسدة وقائمة على الظلم ولا حيلة لديه إلّا قبولها. ففي أعماق مثل هذا الفرد تتكدس العقد وتتراكم الأحقاد، وهو لا يفكّر على الإطلاق في إصلاح نفسه، وهو إنما يفكّر أنّه عندما تكون الأرض والسماء غير متناسقة فإنّ الظلم والجور لابدّ أن يعما كلّ جنبات الكون، واستقامة ذرة – مثلي – لا يمكن أن تترك أثراً مهمّاً فيه.
إنّ شخصاً مثل هذا لا يلذّ له شيء في الكون، وإنّما هو ينظر إليه كما لو كان سجناً مخيفاً. وقد جاء في القرآن الكريم: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) (طه/ 124).
أجل فالإيمان هو الذي يمنح حياتنا الداخلية السعة ويحول دون ضغط العوامل الروحية.
والأثر الثاني للإيمان الديني من ناحية السرور والانبساط هو "الإشراق القلبي".
لما كان الإنسان بحكم إيمانه الديني ينظر إلى الكون مشرقاً بنور الحقّ والحقيقة فإنّ هذه الرؤية المشعّة هي التي تضيء آفاق روحه وتصبح مشعلاً ينير أعماقه.
وعلى خلال هذا، الشخص الذي لا إيمان له حيث إنّ الكون في نظره عبث وظلام وخالٍ من كلّ إدراك ورؤية ونور، ولهذا فإنّ الظلمة التي تخيّلها في الكون تتسرب وتسري لتملأ أعماق قلبه.
والأثر الثالث للإيمان الديني من حيث بثّ السرور والانبساط هو "الأمل" في النتيجة الطيبة للمحاولات الشريفة.
فمن وجهة نظر المنطق المادي يكون الكون محايداً بالنسبة إلى الناس الذين يتحركون في طريق الحقّ أو طريق الباطل، في طريق العدالة أو طريق الظلم، في طريق الاستقامة أو طريق الانحراف. ونتيجة أعمالهم تتوقف على شيء واحد فقط وهو "مقدار المحاولة".
أمّا في منطق الإنسان ذي الإيمان فإنّ الكون ليس محايداً في نزاع هاتين الفئتين، وردّ فعل الكون إزاء هاتين المحاولتين ليس واحداً وإنما المخلوقات كلّها تعضد الأفراد الذين يسيرون في طريق الحقّ والاستقامة والعدالة وحب الخير:
(إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) (محمّد/ 7).
ومعنى أن تنصروا الله هو إن سرتم في طريق الحقّ.
و(إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (التوبة/ 120).
والأثر الرابع للإيمان الديني في بثّ السعادة والانبساط هو "هدوء البال".
فالإنسان بفطرته باحث عن سعادة نفسه، بحيث يغرقه في الفرح نفس تصوره للظفر بالسعادة، وتغمره بالاضطراب والحزن فكرة المستقبل النحس المقرون بالحرمان.
وما يمكن اعتباره أساساً للسعادة الإنسانية شيئان:
1- المحاولة وبذل الجهد.
2- الوثوق بظروف البيئة.
ونجاح طالب ما معلول لشيئين: سعيه ومحاولاته، والشيء الآخر هو مساعدة البيئة الدراسية والترغيب والتقدير الذي يبديه أولياء المدرسة.
فإذا كان الطالب من الساعين وباذلي المحاولات الشاقّة، ولكنّه لا يعتمد على البيئة التي يدرس فيها ولا يثق بالأساتذة الذين سوف يعيّنون له الدرجات وهو متذمر من السلوك غير العادل الذي يواجهه طول السنة الدراسية فإنّ مثل هذا الطالب لا شكّ فريسة للاضطراب والألم الممض.
إنّ موقف الإنسان مع نفسه واضح ولهذا فهو لا يناله الاضطراب من هذه الجهة، وإنّما يقتحم الاضطراب عليه هدوءه عندما يقع بين أنياب الشك والتردّد. والإنسان لا يشك ولا يتردّد فيما يتعلق بنفسه. وإنّما الكون هو الذي يجرّ الإنسان نحو الاضطراب والقلق لأنّه لا يعرف موقفه بوضوح إزاء هذا الكون.
أيكون العمل الجيد مفيداً؟
أتكون الصداقة والأمانة عبثاً لا فائدة منها؟ أتكون نهاية الحرمان عندما تبذل كلّ المحاولات وتؤدي كلّ الواجبات؟
ههنا يحصل الاضطراب والقلق في أعقد صوره.
والإيمان الديني يمنح الإنسان – الذي هو الطرف الأوّل – الاعتماد والاطمئنان بالكون – الذي هو الطرف الثاني في القضية – وحينئذ يزول خوف واضطراب الإنسان من كيفية مسير الكون، ويحلّ محلّه هدوء البال. وهذا هو معنى قولنا: إنّ أحد آثار الإيمان الديني هو "هدوء البال".
وهناك أثر آخر للإيمان الديني من ناحية بثّ السعادة، وهو التمتع بأكبر نسبة من سلسلة اللذات التي يطلق عليها: "اللذات المعنوية"، فللإنسان لونان من اللذات:
أحدهما: تلك اللذات التي تتعلق بإحدى حواس الإنسان والتي تحصل نتيجة لارتباط خاص بين عضو من أعضائه ومادة خارجية. مثل اللذة الحاصلة للعين بالرؤية وللأذن بالسماع وللفم بالتذوق ولحواس اللمس بالمباشرة.
ثانيهما: تلك اللذات التي ترتبط بالوجدان وعمق الروح الإنساني ولا علاقة لها بأي عضو معيّن. وهذه اللذات لا تحصل نتيجة لعلاقة خاصّة مع مادة خارجية. مثل اللذات الحاصلة للإنسان عند الخدمة أو الإحسان أو الحب والاحترام أو نجاحه أو نجاح أولاده. فهذه لا تتعلق بعضو خاص ولا تتمّ بتأثير عامل مادي خارجي بصورة مباشرة.
واللذات المعنوية أقوى من اللذات المادية وأكثر دواماً. ولذة العبادة لله عند المؤمنين العارفين والمحبين للحقّ من هذا اللون من اللذات.
والعابدون العارفون الذين يؤدّون عبادتهم بأكمل وجه من الخضوع والحضور والاستغراق، هؤلاء يلتذّون بعبادتهم تلك بأرفع ألوان اللذة. وقد أطلق الدين على ذلك أسماء خاصّة من قبيل "طعم الإيمان" و"حلاوة الإيمان" فللإيمان حلاوة تفوق كلّ الحلاوات، وتتضاعف اللذّة المعنوية عندما تصبح الأعمال من قبيل الكسب والعلم والإحسان والخدمة والنجاح والانتصار ناشئة من الحسّ الديني وتُنجَز من أجل الله وتدخل ضمن "العبادة".►
المصدر: كتاب الإنسان والإيمان
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق