لا تقتصر التربية على تعليم الطفل الصح والخطأ ولا الجيد أو السيئ، ولا الصحة واللياقة البدنية فقط، بل تشمل أيضاً تعليمه الاحترام. وهنا لا نعني احترام الطفل الصغير أو المراهق للأُم فقط، بل أيضاً احترام الأُم لطفلها، وبشكل خاص احترام خصوصيته.
إذا احترمت الأُم خصوصية طفلها، فإنّه سينفتح عليها ويقترب منها أكثر. يعتمد الأطفال الرضع والصغار على الأهل في كلّ شيء. ولكن، بعدما يكبرون وينضجون وتنمو في داخلهم الرغبة في فعل الكثير بأنفسهم وفي تطوير استقلالهم، يبدأون في التفكير في الانفصال عنهم، وهذا أمر طبيعي. ومن المفارقات، أنّ هذا هو بالذات الوقت الذي يزداد فيه قلق الأهل على حياة طفالهم وسلامتهم، حيث يصبح لدى الطفل المراهق عالمه الخاص وتزداد لديه الرغبة في المغامرة، وهذه الرغبة تُعرّض حياته للخطر. لذا، يعتبر معظم الأهل أنّ هذا الوقت هو من أصعب الأوقات التي يمكن أن يواجهوها مع أطفالهم. فهو وقت التغيير والاختبار. من جهة، تشعر الأُم بالإحباط لأن طفلها لم يعد قريباً منها كما اعتادت أن يكون، ومن جهة أخرى تواصل الضغط عليه لتعرف المزيد عما يدور في حياته. إنها مرحلة لا تستطيع الأُم خلالها أن تكون قريبة من طفلها، ومع ذلك هي في أمَسّ الحاجة إلى أن تكون وثيقة الصلة به للحفاظ على سلامته.
توازن:
في الواقع، من الصعب أن تحقق الأُم توازناً بين رغبتها في معرفة كلّ التفاصيل عن خصوصية طفلها المراهق، وبين احترام الخصوصية التي اعترفت بها. ومع ذلك، على الأُم أن تبذل أقصى ما في وسعها لتحقيق هذا التوازن الذي يستحق بذل الجهد، خاصة إذا كانت ترغب في أن تكون أمّاً جيدة. ولكن عليها ألا تكون حشريّة أو فضوليّة إلى حد تفتيش ملابس طفلها وخزانته وأدراجه الخاصة، وألا تحاول التنصّت على أحاديثه مع أصدقائه، وأن تتجنب إبعاده عن رفاقه أو الأنشطة التي يحب بحجة الحفاظ على سلامته.
مثل هذه الأُم الفضولية، تدفع بالمراهق إلى إخفاء كلّ معلومة مهما كانت تافهة عنها. وهذه نتيجة معاكسة تماماً لما ترغب فيه كلّ أم ناجحة. يجب ألا يغيب عن بال الأُم أنها شديدة الحرص على ألا يحاول أحد اختراق خصوصيتها، وأن تفكر في رغبتها في أن تحترم كشخص بالغ الآن تماماً مثلما كانت ترغب في أن يحترمها والدها حين كانت طفلة صغيرة، وأن تطبّق فلسفتها هذه على أطفالها البالغين.
يبدأ الطفل في التعبير عن رغبته في احترام خصوصيته في سن مبكرة. إذ قد يرفض طفل لا يزيد عمره على تسع سنوات، دخول أمه الحمّام أثناء استحمامه، أو دخولها غرفته أثناء تغيير ملابسه، على الرغم من أنها كانت هي مَن تحمّمه وتغيّر له ملابسه. وعندما يصبح الطفل في سن المراهقة تزداد رغبته في الحفاظ على خصوصيته، وقد يذهب إلى حد بعيد للحفاظ عليها، فيرفض وقوف أمه على باب غرفته للتنصت على أحاديثه مع رفاقه، أو دخول غرفته خلسة ومن دون استئذان.
تعتقد معظم الأُمّات أنّ التطفُّل، أو التجسُّس، أو عدم احترام خصوصية أطفالهنّ، هو السبيل الوحيد لمعرفة كلّ ما يدور في حياتهم، وهذا اعتقاد خاطئ. عندما تحترم الأُم خصوصية طفلها المراهق، فإنها تشجعه على ألا يتشدد كثيراً في الحفاظ على خصوصيته. مثلاً، مشاهدة برنامجه المفضل مع الأهل في غرفة التلفزيون، أو التساهُل في دخول الأُم غرفته أثناء دردشته مع صديق عبر جهاز الكمبيوتر، أو ترك باب غرفته مفتوحاً أثناء وجود رفاقه. إنّ احترام خصوصية الطفل يُعرّفه بأنّ الأُم بدأت تعترف به كشخص بالغ.
صحيح أنّ على الأُم أن تسمح لطفلها المراهق بهامش من الخصوصية، وأن تخصص له مكاناً خاصاً به في المنزل، ولكن يجب ألا يغيب عن بالها أنّ المراهق ليس بالغاً، ولا يمكنه التعامل مع الاستقلالية المطلقة. لذا، من واجبها تعليمه كيفية التعامل مع المسؤوليات المتزايدة مع تقدمه في العمر، وذلك بمنحه مستويات من الخصوصية تتلاءم مع سنّه ومع الاستمرار في مراقبة تصرفاته. يجب أن تكون الأُم مقتنعة بمقدار الخصوصية الذي تسمح به لطفلها، وإلا لن تتمكن من احترام هذه الخصوصية. مثلاً، يمكن أن تسمح لطفلها المراهق بإغلاق باب غرفته عندما يكون مع أصدقائه، لأنها مقتنعة بحقه في أن يغلقه، لكنها لا تسمح له أبداً بإغلاقه عندما يكون مع أشخاص لا تعرفهم.
إنّ مستوى الاحترام الذي ترغب الأُم في منحه إلى طفلها المراهق، يجب أن يُبنَى على مقدار ثقتها به وبأعماله وقراراته. فإذا أخذت تشك في احترامها للمساحة الواسعة من الخصوصية التي منحتها لطفلها المراهق، عليها أن تتساءل إن كان تكتّمه ضاراً أو مؤذياً. مثلاً، إذا لاحظت أنّه يرغب في مشاهدة برنامجه المفضل في غرفته، أو أنّه أخذ يزور مواقع معيّنة على شبكة الإنترنت، أو إذا شكت في مشاركته في أنشطة خطرة، أو أصبحت لديه عادات سيئة، ربما يترتب عليها التراجُع عن بعض جوانب هذه الخصوصية لمصلحة سلامته وصحته.
ثقة:
من المؤكد أنّ الطفل يفرح بالاحترام المتبادل. ولكن عليه أن يكسب القليل من الثقة ليحصل على القليل منها. على الأُم أن تحادث طفلها عن مقدار الخصوصية التي يمكن أن يتوقعها، وأن هناك حدوداً للخصوصية. مثلاً، يجب أن يعرف الطفل أن عليه إعطاء الأُم كلمة السر، لكل الأجهزة الخاصة به من كمبيوتر وهاتف نقال و"آي باد"، لأنها تريد مراقبة المواقع التي يزورها. على المراهق أن يعرف أنّ الإنترنت ليس شيئاً خاصاً، وأنّه غير مُعد للتعامل مع المخاطر المحتملة من دون إشرافها. على الأُم أن تحدّث طفلها عن مخاوفها على سلامته ومصلحته، وعن تداعيات خرق ثقتها.
احترام:
في إمكان الأُم إظهار احترامها لطفلها المراهق بطُرق مختلفة. منها على سبيل المثال أن تقاوم رغبتها في معرفة تفاصيل حياته الاجتماعية، أو مناقشته في حقه في قرع باب غرفته قبل أن تدخلها. ومنها أيضاً الوضوح في علاقاتها به، والحرص على مشاركته حياته إلى حد عدم التعدي على استقلاليته والسماح له بتطوير نفسه بنفسه، والانتباه إلى الطريقة التي تتحدث بها وإلى نبرة صوتها. لأنّ للكلمات التي تختارها الأُم في بعض الأحيان للتعبير عن وجهة نظرها تأثيراً أكبر من وجهة النظر نفسها.
إذا كانت الأُم تُريد أن تحدّث طفلها عن قلقها بشأن تكتّمه عليها اختيار مكان محايد (مثل الكنبة في غرفة الجلوس أو طاولة الطعام في المطبخ) ومُريح للجميع، حيث يستطيع كلّ شخص التعبير عن نفسه بحرية تامة، ومُقاربة الموضوع من منطلق الاحترام المتبادل. وتبعاً لخبراء التربية، فإن إبقاء باب الحوار مفتوحاً مع الطفل المراهق، وتمضية وقت معه باستمرار والإصغاء بانتباه إلى كلّ ما يقول، هو من أفضل الوسائل التي تساعد على الحفاظ على الاتصال الدائم معه. ففي ظل العلاقات الصحية، يُدرك المراهق أنّ الأُم تُوليه اهتماماً وأنها تتابعه باستمرار، وأنها ترغب في أن يصبح قادراً على تحمّل مسؤولية نفسه، وتستطيع الأُم التحقّق من تصرفات طفلها المراهق، بطريقة تدل على حبه واحترامه لها.
خصوصية:
بشكل عام، على الأُمّ ألا تدخل خلسة إلى غرفة طفلها المراهق، لأنّه في هذه المرحلة من العمر يحب أن تحترم خصوصيته. إنّ التجسس على المراهق أو الاستماع لمكالماته الهاتفية خلسة، ليس أسلوباً لمعرفة أي شيء عنه. ببساطة، يمكنها التوصل إلى معرفة ما تريد عبر سؤاله عن أنشطته. أحياناً، تُحتّم الظروف على الأُم خرق خصوصية طفلها. فإذا كانت تعتقد أنّه في خطر، عليها ألا تتردد في خرق خصوصيته، لأن سلامته أهم كثيراً من احترام الخصوصية.
كيف تحترم الأُم خصوصية طفلها المراهق؟
1- أن تعتبر أن غرفته والرسائل على هاتفه النقال ومكالماته الهاتفية شؤون خاصة. عليها أن تمنحه المساحة التي تُمكنه من الاحتفاظ بآرائه ومشاعره لنفسه، وألا تحاول أبداً الضغط عليه ليشاركها في كل ما يعنيه. عليها أن تُحسّسه أنها تثق به وتشرح له أنّه في حال خرق ثقتها، فإن عليها العمل كثيراً ليسترجعها وأنّه سيُحرم من كثير من الامتيازات.
2- أن تُراقب اهتمامات طفلها وأنشطته، وأن تُولي اهتماماً ببرامجه التلفزيونية المفضَّلة وبالمجلات والكتب التي يقرأها وبالأفلام التي يشاهدها، لتعرف ما الذي يتعلمه من الوسائل الإعلامية. عليها أن تحدد الوقت الذي يستطيع تمضيته على الإنترنت، إن كان هذا ضرورياً، وألا تسمح له باستخدام كمبيوترها. على الأُم أن تراقب دائماً الأشخاص الذين يتواصل معهم طفلها عبر شبكة الإنترنت. يجب ألا تضع الأُم قضية الحفاظ على سلامة طفلها في مرتبة خرق خصوصيته نفسها.
3- حماية خصوصية طفلها من الأشخاص الذين يتواصلون معه عبر شبكة الإنترنت، بنيّة إلحاق الأذى به أو استغلاله. عليها مساعدته على الحفاظ على سرّية موقعه على الشبكة، وأن تضم طفلها إلى قائمة أصدقائها المفضّلين، لتراقب إن كان يتجاوز الحدود في إعطاء معلومات عنه شخصياً إلى الأشخاص الذين يتبادل معهم الرسائل.
4- مكافأة طفلها في حال أثبت أنّه أهل للثقة، وذلك برفع الحظر عنه قليلاً والسماح له بالبقاء فترة أطول مع أصدقائه خارج المنزل، أو منحه المزيد من الوقت للدردشة معهم عبر الشبكة. يجب ألا يغيب عن بال الأُم أن طفلها يكبر. لذا، من الطبيعي أن يمضي وقتاً أطول مع أصحابه وأقل معها.
5- إعطاء الطفل الفرصة ليعبّر عن مشاعره بصراحة، خاصةً إن كان يشعر بأن أمه أو أي فرد آخر من العائلة يتعدّى على خصوصيّته. على الأُم أن تُبيّن لطفلها توقعاتها منه، وأن تشجعه على بذل الجهد ليكون على مستوى التوقعات.
خلاصة القول، من الصعب على الأُم إيجاد توازن بين مراقبة طفلها المراهق واحترام خصوصيّته. فأثناء نمو الطفل والانتقال إلى مرحلة المراهقة، ينمو معه الشعور بالاستقلال. وعلى الرغم من عدم استطاعة الأُم إعطاء طفلها الحرية التامة، مُفترضة أنّه أصبح في عمر يمكنه من قيادة حياته من دون أي تدخل من جانبها، من غير الضروري أيضاً رصد كلّ حركة من حركاته.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق