• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

كربلاء دعوة.. وثورة

كربلاء دعوة.. وثورة
   ◄كيف نستطيع استيحاء ذكرى الإمام الحسين (ع) في حركتنا الإسلامية الصاعدة.

هل نحصر حضورها فينا في إطار الأمجاد التاريخية التي تزهو بها الأُمم والشعوب تأكيداً على كونها ذات جذور عميقة في الماضي؟

أو ننطلق بها، في كل مفرداتها الفكرية والروحية والحركية، لنعيش إيحاءاتها المتنوعة، كما لو كانت حدثاً مفتوحاً على الحاضر في تطلّعاته المستقبلية؟

 

قيمة التاريخ في العبرة:

إنّ الجواب عن هذا السؤال ينطلق من القاعدة القرآنية الإسلامية التي تركّز على أنّ الماضي هو مسؤولية الذين عاشوه وصنعوه، في الدوائر السلبية والإيجابية، وذلك قوله تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة/ 134)

فليس المجد التاريخي مجداً لنا بالمعنى الحركي للمجد، بل هو مجد الأبطال الذين صنعوه. فنحن لم نصنعه، ولا علاقة لنا به، حتى لو كنّا أبناء هؤلاء، ولن نحصل على أيّ ثواب عليه؛ (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى) (النجم/ 39-41).

إنّ قيمة التاريخ – في الإسلام – هي قيمة العبرة التي تفتح الحدث عن الفكرة، وترصد الثوابت التي لا تخضع في خصوصياتها للفترة الزمنية، بل تشمل كل خطوط الزمن لأنّها خصوصيات الحياة كلّها وهذا ما يجعلنا نرتبط بالشخصيات الإسلامية القيادية في مستوى النبي (ص) والأئمة – عليهم السلام –، لأنّ حركتها ليست حركة اللحظة التي عاشت فيها، بل هي حركة الرسالة المتجسدة في خطواتها الفكرية والروحية والعملية. فنحن نرى أن قول المعصوم وفعله وتقريره، يمثل الخط الشرعي الذي يؤكد لنا شرعية الخط الذي ينطلق منه ويتحرّك فيه. وبهذا كانت الرسالة حركةً في وعي الرسول وفي سلوكه، كما كانت انفتاحاً على الآفاق العامة والخاصة في ذهنية الإمام وكلماته وخطواته.

 

الأبعاد الرسالية لثورة الإمام الحسين (ع):

وفي ضوء ذلك، لم تكن حركة الإمام الحسين مجرد حركةٍ سياسيةٍ، بالمعنى التقليدي للكلمة بل هي حركةٌ إسلاميةٌ في معنى الإسلام في الثورة، بحيث نلتقي فيها بالأبعاد الرسالية في خطوطها التفصيلية التي تحدّد لنا شرعية النهج الثوري المتحرك في نطاق التضحية حتى الاستشهاد، وفي طبيعة الظروف الموضوعية المحيطة بالحَدَث الكبير في تلك المرحلة، وفي الظروف المماثلة لها في المراحل الأخرى؛ الأمر الذي يجعلها حالةً تطبيقية للخط الإسلامي النظري في الصراعات الداخلية التي يعيشها الواقع الإسلامي بين خط الاستقامة وخط الانحراف، في الموقع القيادي الشرعي أو في الموقع المتمرد على الشرعية.

فلم يكن الحسين (ع) ثائراً يتمرَّد على الذل من موقع إحساسه الذاتي بالكرامة، أو التزامه العائلي بالعزّة؛ ولم يكن إنساناً متمرّداً على الواقع في المزاج التمرّدي الذي يرفض الأوضاع الخاصة التي لا تنسجم مع مزاجه، كبعض الثائرين أو المتمرّدين الذين ينطلقون في ثورتهم وتمرّدهم من حالة انفعال عامة لا تملك أيّ نهج في الخطوط التفصيلية للسلوك العملي في هذا الاتجاه. بل كان مسلماً في ثورته وتمرّده على خط "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" الذي يفرض على المسلم الثورة على واقع الانحراف من أجل أن يغيره نحو واقع الاستقامة.

وهذا ما يفرض علينا أن ندخل في عملية مقارنة بين ظروف المرحلة التي عاشها الإمام الحسين؛ وظروف المرحلة التي نعيشها، في طبيعتها، وفي مفرداتها، وفي خطوطها التفصيلية، وفي تحدياتها الفكرية والعملية... لنتعرف من خلال ذلك على معنى الشرعية في حركتنا في الظروف المماثلة. وهذا هو ما نلاحظه في الكلمة الأولى التي بدأ بها الإمام الحسين حركته في ما يتحدث به الرواة من سيرته أنّه خطب في أصحابه فقال:

"أيها الناس إن رسول الله (ص) قال: مَن رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله، ناكثاً بعهده، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان... فلم يغيِّر ما عليه بقول ولا بفعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله.

وقد علمتم أن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتولوا عن طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله"[1].

 

الثورة بداية التغيير:

إنّها الثورة على السلطان الجائر، المستحل لحرمات الله في عباده، والذي لا يرى لأحد حرمةً أمام طغيانه واستبداده، الناكث لعهده فلا يعاهد أحداً إلا لينقض عهده معه على أساس انتهاز الفرص التي يستفيد منها لمصالحه، لينتقل بعد ذلك إلى فرص أخرى لمصالح أخرى، بعيداً عن أخلاقية الإنسان الذي يحترم كلمته ويلتزم بعهده. لأنّ الالتزام بالعهد لا ينسجم مع خططه الذاتية وأطماعه المادية وشهواته الغريزية... الأمر الذي يجعل إسلامه شكلاً كلامياً لا يقترب من الصدق في الالتزام ولا في الاستقامة في خطّ السير.

العامل في عباد الله بالإثم والعدوان، هو الرجل الآثم في تعامله مع الناس، العدواني في تصرفاته معهم. لأنّه لا يعيش مسؤولية الحكم على أساس العدل، ولا يحترم الناس في علاقته بهم على أساس المسؤولية، فهو الوحش في صورة الإنسان.

هذا هو الإنسان الذي يجب أن تقوم الأُمّة بالثورة عليه، لتغييره واستبداله بإنسان آخر من خلال الكلمة الثائرة والموقف القويّ الحاسم. فلا عذر للقادرين على عملية التغيير، أن يبتعدوا عن ساحة الصراع ضده، والثورة عليه، ولا مجال للحياد بينه وبين الحاكم العادل.

وهكذا كان الحسين يتحدَّث عن الخط العريض للجانب الفكري من خط الثورة. أمّا الجانب التطبيقي في ساحة الواقع، فهو فريق الحكم الذي عاش في عصره. فهؤلاء الناس، في صورة الحاكم وأتباعه، هم الذين تركوا طاعة الرحمن ولزموا طاعة الشيطان، فابتعدوا عن الله سبحانه في حياتهم واقتربوا من الشيطان في ذهنياتهم وخطواتهم، وبدّلوا الشريعة في نهجهم وطريقتهم، فإذا بالحلال يتحوَّل إلى حرام عندهم، وإذا بالحرام ينقلب حلالاً في سلوكهم.

ثمّ كان من أمرهم أن استأثروا بثروة الأُمة فحوّلوها إلى ثروة شخصية، وعطّلوا الحدود التي أراد الله للعباد أن يقفوا عندها ولا يتجاوزوها، فأضاعوا الناس والحياة والدين كلّه.

ولابُدَّ للحسين أن يغيّر بقوله وبفعله.

وكانت الثورة الاستشهادية هي بداية التغيير من أجل أن تطلق الصرخة المدويّة، المضرّجة بالدماء، المنفتحة على كل الحق والعدل والعزّة والكرامة والإنسان والحياة في حركة الحاضر نحو المستقبل.

تلك هي صورة التحدّي الحسيني في مواجهة الواقع المنحرف في داخل الواقع الإسلامي، لأنّ الحركة كانت حركة داخلية في ما يعانيه الوضع الإسلامي العام للأُمّة على مستوى الحكم والحاكم.

فماذا عن مرحلتنا في ظروفنا المعاصرة؟

إننا نواجه التحدّي الكبير في الاستكبار العالمي الذي يطبق على الواقع الإسلامي كلّه، في ثقافته وسياسته واقتصاده وحربه وسلمه... من خلال إطباقه على الواقع الإنساني كلّه. كما نواجه التحدّي الآخر في الانحراف الداخلي في الحكم الذي لا ينطلق من العدل في حركته تجاه المحكومين؛ الأمر الذي يجعل الواقع أكثر خطورةً في طبيعته وفي نتائجه السلبية على مسيرتنا كلّها، ومن الواقع الذي عاشه الإمام الحسين في مرحلته، فقد كان الحكم في عصره يجعل الإسلام شعاراً له، ولكنه كان ينحرف عنه في خط السير ونهج الحركة. فهل نستطيع أن نبتعد عن خط الثورة في ذهنية المسلم الثائر؟ وهل نملك أن نتنكّر لحركة التغيير في وعي الواقع العملي لروحية التغيير؟

لابدّ أن يكون كل واحد منا مشروع ثائر في الخط والحركة والمعاناة. أمّا حركية الثورة في الفعل، وشرعية التغيير في النهج؛ فقد نحتاج فيها إلى رصد ظروف الواقع العملي من حيث القدرة والإمكانات والنتائج، لنخطط من موقع الدراسة الدقيقة الحيّة ولنعرف كيف نواجه التحدّي في الفعل ورد الفعل، وكيف تنتصر القضية فينا، أو تهيِّىء الظروف لتقريب موعد النصر، أو لتحريك خطواته في اتجاه المستقبل.

ليس من الضروري أن يكون الأسلوب الحسيني في الشكل المأساوي الاستشهادي هو أسلوبنا. لأن من الممكن أن يكون لهذا الأسلوب ظرفه الخاص الذي فرضته حركة الأحداث في تلك المرحلة، مما قد لا تتوفر فيه خصائص الظروف التي تعيشها مرحلتنا الحاضرة. ولكن لابدّ أن تكون الروحية الحسينيّة هي التي تمثِّل معنى روحيتنا، فقد واجه الإمام الحسين الموقف على أساس الاستمرار فيه وعدم التراجع عن جميع الاحتمالات. وهذا ما عبّر عنه بقوله: "فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق"[2].

فإنّ من المعروف أنّ الصبر هنا ليس صبر المهزمين؛ بل هو صبر الواثبين المتطلّعين، الذين يرصدون المستقبل في الأفق الواسع، ليجدوا فيه إشراقة النور الذي يشق الظلمات.

إنّ المسألة هي أن يبقى الهدف حيّاً في أفكارنا، وفي تطلّعاتنا، وفي خططنا الثورية، وفي خطواتنا العملية.. لنجعل الحياة كلّها، في ما نملكه من الطاقات، حركةً نحو الهدف الكبير، لتكون الوسائل العملية المتنوّعة خاضعةً للظروف الموضوعية التي تحكم واقع الحياة والإنسان في نطاق المراحل القريبة والبعيدة.

 

إيحاءات عاشوراء في خط الدعوة إلى الله:

هذه بعض إيحاءات عاشوراء في خطّ الثورة؛ فما هي إيحاءاتها في خطّ الدعوة إلى الله في نطاق الإسلام؟

إننا نفهم أن كل حركةٍ للثورة هي حركة في اتجاه الدعوة. لأنّ الثورة تعمل على سدّ الثغرات التي ينفذ منها الكفر والضَلال في واقع المؤمنين، وإغلاق النوافذ التي تتحرَّك من خلالها رياح الانحراف في أجواء المسلمين، كما تعمل على إثارة اليقظة في العقول النائمة، وتحريك الوعي في الأحاسيس الجامدة، وفتح القلوب على المفاهيم الخيّرة في الأجواء الشرّيرة... وبذلك يجد الناس فيها حياةً جديداً للإسلام، تجدّد له شبابه، وتعيد إليه حيويته، وتُسْرع به إلى الهدف الكبير. فهي تختصر المراحل البعيدة، لتجمعها في حركة فاعلة في اتجاه النتائج الحاسمة في الحياة.

لذلك كانت إيحاءات عاشوراء تنطلق في اتجاه الدعوة، من خلال انطلاقها في عنوان الإصلاح في أمة رسول الله الذي يحمل في داخله إصلاح الخط الفكري والعملي، لنفتح الناس على الإسلام كلّه حتى لا يثقلهم الانحراف الواقعي فيبعدهم عن الاستقامة الفكرية.

إننا نحتاج إلى عدم الاستغراق في المعنى السياسي في الثورة، الذي قد يبعدنا – في النظرة الساذجة – عن الدعوة؛ بل لابدّ لنا من أن نعيش التكامل في خطواتنا، ليكون العنوان الفكري حركة في العنوان الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعسكري... من أجل أن يكون الدين كله لله، فلا يكون فيه نافذة تطل على غير الله. هذا هو بعض الحديث عن معنى كربلاء في حركة الإسلام في الدعوة والثورة معاً.►

 

المصدر: كتاب من وحي عاشوراء


[1]- البحار، ج44، ص382، رواية 2، باب 37.

[2]- البحار، ج44، ص330، رواية 2، باب 37.

 

ارسال التعليق

Top