يتم بلوغ ذروة الصبر عندما يتشبع الإنسان بها. يقول الله في محكم كتابه الكريم: (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) (المعارج/ 5). كما أنّ الوصول إلى أعلى درجات الحسن يعني أيضاً بلوغ أعلى درجات الكمال، ولا يستطيع الكثيرون بلوغ هذه الدرجة من الصبر - والتي يمكن تسميتها بالصبر على الصبر - ولكنّها تبقى هدفاً نسعى إلى تحقيقه، وبالإضافة إلى الأنبياء الذين بلغوا هذه الدرجة فقد بلغها أيضاً شهداء الإسلام وأتباعه العظماء، أمثال ياسر وزوجته سمية وابنهما عمّار، وكذلك المقداد وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي (رضوان الله عليهم)، ونجد في حياتهم أمثلة على الصبر المرتبط بالمصائب والمصاعب والفتن، فالبشر معرَّضون لأوقات عسيرة، ولا يوجد غير الصبر ما يحملنا إلى برِّ الأمان عبر المتاعب والمصائب.
إنّنا يجب أن ندرك بأنّه في الأوقات العسيرة يهبط، وبقدرة الله، نور في قلوب أحبّاء الله، وهو السكينة التي تثبّتهم على الصبر. والمؤمن الحقيقي لا يتوقّف ولا يتخاذل، بل يتقدّم إلى الأمام في الأوقات العصيبة مستسلماً لإرادة الله بشكل تام. ويعلِّمنا الله أنّ المعاناة التي نتعرّض لها هي وسائل لإكمال معرفتنا من خلال التجربة، كما أنّ اليقين المطلق للمعرفة يتم بلوغه من خلال التجربة. ويتضمّن مفهوم الصبر، في الإسلام، عنصر العمل. وهو، بالنسبة للمسلمين، مفهوم غير خامل، بل نشطٌ وفعّال؛ إذ إنّه يحثّ على العمل والأداء الجيِّد، وهذا يُقاس بالمدى الزمني للتحمُّل والمثابرة في وجه الصعوبات والمصائب. ويتحقّق الصبر في الإسلام من خلال بذل الجهد، وهذا الجهد لا يتولّد تلقائياً وإنّما يتطلّب الكثير من التركيز والسيطرة على النفس. يجب علينا أن نجاهد في سبيل الإسلام، وهذا يتحقّق من خلال جهود حقيقية ومنسّقة يبذلها كلّ واحد منا، فيجب أن نجتهد لنصل إلى الصبر لأنّه مفتاح الفرج.
ولهذا يريد الله سبحانه أن نعيش الصبر بكلّ قوّة وبكلّ انفتاح وبكلّ وعي؛ الصبر على جميع المستويات: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على البلاء. وقد جعل الله الصبر أساساً لرضاه وأساساً للقرب منه. يقول تعالى في كتابه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) (البقرة/ 155ـ156).. فالإنسان يواجه في هذه الحياة الكثيرَ من التحدّيات والمشاكل والمآسي التي يشعر فيها بالخوف تارةً، والجوعِ تارةً أُخرى، والموتِ ثالثةً، فيريد الله من الإنسان أن يقف وقفة إيمانٍ واعٍ، يعرف بها أنّه تعالى قد أقام الحياة على أساس السّنن التي أودعها فيها، فليست هي عُسراً كلّها، وليست يُسراً كلّها، بل هي العُسر في طريق اليُسر، واليُسر في نهايات العُسر ونتائجه. فإذا واجه الإنسان بعضاً من العُسر في طريقه إلى الله، ـ وكُلّنا في الطريق إلى الله ـ أو ثقلت عليه الأعباء، فلابدّ له من الاستعانة بالصبر، ليدعم إرادته ويقوّيها من أجل الحصول على الموقف الصلب المتوازن، والشخصية المتماسكة.
(ولنَبْلُوَنّكُم) أي نختبركم في حجم الإرادة التي تملكونها (بشيءٍ مِنَ الخوْفِ) الذي يتحدّى الأمن الداخلي في نفوسكم، فلا تملكون الطمأنينة الروحية، والأمن الخارجي في حياتكم، فتعيشون الاهتزاز الجسدي في كيانكم، والخطر في كلّ المستويات، (وَالْجُوعِ) أيضاً نبلوكم به، وهو الحرمان الغذائي الضروري، (وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ) في الخسائر المتنوّعة التي تصيب الإنسان بفعل الكوارث أو الحروب أو ما إلى ذلك، (وَالأنفُسِ) من رجالكم ونسائكم وأطفالكم الذين تقضي عليهم الحروب والأمراض والزلازل والبراكين والكوارث الجوية أو البحرية أو البرّية، (وَالثَّمَرَاتِ) التي تمثّل ارتفاع البركات من حياة الإنسان، (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) الذين يعيشون صلابة الموقف، وقوّة التحمّل، والتمرّد على الحرمان، والثبات في مواقع كافة المواقع، ليتابعوا رسالتهم في الحياة من دون تراجعٍ أو انهيارٍ أو انحرافٍ.
هو اختبارٌ ينطلق من إرادة الله وقضائه وقَدَره من خلال الأسباب والقوانين الطبيعية التي أودعها الله في الكون؛ فلابدّ للإنسان من أن يتألّم إذا عاش في الظروف التي تفرز الآلام، وأن يجوع إذا تحرّكت أسباب الجوع، وأن يخاف إذا فرضت الحياة أجواء الخوف. وأمام ذلك تنطلق البشارة للصابرين (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ) من خلال أسبابها الطبيعية في إرادة الله (قَالُواْ إِنَّا لِلهِ) فنحن مُلكه، نخضع لإرادته (وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق