إنّ قضية عاشوراء قضية عظيمة، وهي تمثّل التاريخ الذي نستطيع أن نقدّمه إلى العالم كي نثبت أنّ هذه البطولة الروحية الإنسانية قد انتصرت في مواجهة الوحشية التي تمثّلت في قتل الإمام الحسين (عليه السلام). من جملة المفاهيم التي برزت في نداءات الإمام الحسين (عليه السلام) والتي أضفت على كربلاء سرّاً من أسرار خلودها وعظمتها ومنارةً استلهمت الثورات المناهضة للظلم والاستبداد مبادئها من هذه النداءات والتوجيهات هو مفهوم الموت ومبدأ التعامل معه وتسخيره في خدمة الرسالة والدور الذي أناطه الله بالإنسان في الأرض، وكيف ينبغي أن يختار المرء مواقفه حيال التحدّيات التي يفرضها عليه الأعداء والتهديدات التي يعشعش الموت في حناياها. «صبراً بني الكرام، فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائم».. الإمام الحسين (عليه السلام) خاطب بهذا الكلام أصحابه المستعدّين للبذل، في صبيحة يوم عاشوراء بعد أن استشهد عدد منهم. فالموت بداية الحياة والسعادة الدائمة ونهاية الألم والشقاء والبؤس والضرّاء. وممّا قاله أيضاً (عليه السلام) في خطاب لأصحابه عند خروجه من مكّة: «مَن كان باذلاً فينا مهجته، وموطّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا». فالحسين (عليه السلام) لا يعرض التكليف على أصحابه حتى لو أدّى إلى الشهادة، بل يقدّم الاستشهاد ولقاء الله على أنّه هو التكليف الذي ينبغي أن يوطّن الأصحاب أنفُسهم عليه.
هذه عاشوراء الإسلام، عاشوراء الرسالة وعاشوراء القضية، عاشوراء الجهاد، التي تنطلق من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى. عاشوراء فرصتنا الدائمة كي ننفتح على معانيها ورسالتها في صناعة الإنسان والحياة الكريمة، فلنقبل عليها بكلّ عقل ووعي، ولنكن فعلاً من طلاب مدرستها الفاعلين والمؤثِّرين. عاشوراء ليست حدثاً يستغرقه التاريخ، ولا واقعةً عفا عليها الزمن؛ إنّها البوصلة التي تحدّد دائماً مسار الحقِّ لكلِّ حرٍّ وثائر.. هي المساحة الزمنية والمكانية الصغيرة التي منحت العالم أكبر تعريفٍ للحرّية.. هي خزّان الإيمان والثورة على الظلم والبغي والجهل.. هي الكرامة والعزّة والرؤوس المرفوعة والهامات الباسقة.. هي التضحية والإيثار والحبّ والجود بالنفس كأعظم ما يكون الجود.. هي المقاومة وانتصار الدَّم على السيف... إنّها ـ باختصار ـ كلّ قيم الإسلام التي دعا إليها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانت أساس رسالته. إنّ عاشوراء ـ كما نراها ـ مأساة صنعت وعياً مستمرّاً على مدى الزمن، لا ينضب معينه، ولا يجفّ عطاؤه. إنّ عاشوراء بهذا المعنى لا يمكن اختزالها بزمن، وإنّما تتمدَّد على مساحاته المديدة، بما تملكه من مخزون قيمٍ ومعانٍ عميقة، دون أن يستطيع شيءٌ أن يحدَّها، أو أن يقف في وجهها عائق.. وستبقى شعلتها تنتقل ما عاشت الأجيال. على أنّ مناسبةً بهذا المستوى من السموّ، لا ريب تحمّلنا الكثير من المسؤولية، لنبقي على نصاعتها، ونحافظ على أهدافها الإنسانية النبيلة، وننهض بها حقّ النهوض، ونحييها أكرم الإحياء.. ونمنع عنها كلَّ أشكال التشويه والإساءة.. وأفضل سبيلٍ إلى ذلك، أن نبعد عنها كلَّ ما لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة.
أن نعود إلى كربلاء، يعني ذلك أن نعود إلى أحضان الرسالة، وكلّ حركة النبوّة والإمامة، عبر تاريخها النضالي الهادف إلى بناء الذات الفردية والجماعية في خطّ الله تعالى، والإخلاص له في كلّ قول وفعل وحركة.. فالإمام الحسين (عليه السلام) هو ربيب النبوّة، عاش في كنف جدّه، ونهل من أخلاقه، وبعد استشهاد أبيه وأخيه، حمل أمانة الوحي والرسالة والتبليغ، فجاهد في الله حقّ الجهاد، ولم تأخذه في الله لومة لائم. وأن تعيش عاشوراء، يعني أن تحمي الواقع من الفساد والمفسدين، وتصدح بكلمة الحقّ، وأن تفعل فعل الحقّ في الحياة، وأن تكون الواعي والمسؤول والمنفتح على الحياة، فتنطلق كي تصلحها من كلّ انحراف يعتريها، كلّ ذلك هو من صميم التبليغ والدعوة إلى الله تعالى، من أجل استقرار المجتمع وتوازنه، ومن أجل استمرارية الحياة بما يليق بها من عزّة وكرامة، وذلك ما انطلق به الإمام الحسين (عليه السلام)، من مبادئ جعلها أساساً لثورته المباركة؛ الثورة على الذات المهادنة في الحقّ، والمتهاونة في تغييب الحقّ والتعدّي عليه، الثورة على كلّ ذي ضمير ميت باع نفسه وأهله ومحيطه للشيطان وجنوده، الثورة على كلّ ظلم وظالم وجور يلوّن الواقع بالسوداوية، والثورة على النفس التي تخضع للأشخاص والمواقع، مهما كانت، دون أن تعي شرعية كلّ ذلك، ودون أن تراعي حدود الله في كلّ ذلك.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق