أسرة
القصة التاسعة عشرة
"فقدتُ سمعي لكنّني لم أفقد عاطفتي!!"
فقد أحدُ ملوك الصِّين سمعه، فلم يعد يسمع ما يدور حوله من كلامٍ، ولقد آلمهُ الصمم وآذاه الطرشُ، فبكى بُكاءً شديداً، فظنّ جلساؤه أنّه يبكي لمجرد فقدانه حاسّة السمع، أو خسارة عضوٍ من أعضائه، فقالوا له يُطيِّبون خاطره: تدرّع بالصبر، فلقد عهدناك لا تكترث بالنوائب؟! (ربّما قالوها بطريقةٍ مُفهِمَةٍ إما بالإشارة أو الكتابة).
فردّ عليهم بالقول: لا، ليسَ كما تظنّون، فأنا لا أبكي للبلوى التي نزلت بي، فذلك حكمُ للهِ وأنا به راضٍ، لكنني أتألّم لمظلومٍ يئنُّ فلا أسمع أنينهُ!!
وأضاف: ومع هذا، فلئن ذهب سمعي، فلم يذهب بصري، نادوا في الناس ألا يلبس ثوباً أحمر إلا مظلومٌ، فاستجابوا، وحكمَ بينهم بالعدلِ، كما كان يحكمُ أيّام كان سمعه صحيحاً!!
- الدروس المُستخلَصة:
1- فقدان السمع، أو أي عضوٍ من أعضاء الجسد، لا يعني فقدان الحياة، فلقد رأينا كيف استعاض الملكُ عن سمعهِ ببصرهِ ليستدلّ على المظلومين.
2- قد يجدُ البعض العذرَ للتنصّل أو الإنسحاب من دائرة المسؤولية، لمجرد فقدان عامل من العوامل التي كانت تساعده عليها، ولكنّ الإنسان النبيل المسؤول الذي يحسّ بآلام الناس ومشاعرهم لا يهدأ له بالٌ حتى يستوفي مسؤوليّته كاملةً في كل الظروف والأحوال.
3- التعاطفُ مع المظلومين، الحرص على إنصافهم، شعورٌ إنسانيٌّ واقٍ فيّاض، فأن تتألّم لأنينهم حتى ولو لم تُنصفهم، يُعتبر مساهمة وجدانيّة مشكورة، أمّا يبلغ الأنينُ مسامعَ قلبكَ فتأخذكَ الغيرةُ على العدل، فهو من أروعِ تجلِّيات النُّبل الإنساني وأعلاه.
4- إعتيادُ الخير وملازمته للنفس يتحول بمرور الزمن من عادةٍ حسنةٍ إلى جزءٍ لا يتجزّأ من الشخصيّة!
القصة العشرون
"ذَبَحْتُ طَمَعي!!"
كان لـ(سليمانُ بن عبدالملك) جاريةٌ حسناءُ، وقد وقع نظرُ مؤذِّنهِ عليها فأعجبتهُ، فلاحظت ذلك، فأخبرت سليمان بما رأت، فأغراها به (أي طلب منها أن تستمليه) ليرى ردّ فعله، ومدى متانة إيمانه وتقواه.
فقال لها المؤذِّن لمّا رأى ذلك منها، إذهبي ولا ترجعي، فعسى أن يكون المُلتقى بين يدي من لا يخيِّبُ الظنَّ، (أي الله تبارك وتعالى).
ولمّا لم تنفع هذه الحيلةُ معه، أدركَ سليمان أنّ الرجل عفيفٌ ولا يطمع بالجارية، فقرّر أن يزوِّجه منها، فرفضَ المؤذِّنُ قائلاً: "هيهات، فلقد ذبحتُ طمعي منها من أوّل لحظةٍ رأيتها، وجعلتها ذخيرةً لي عند الله، وأنا أستحي أن أسترجع شيئاً ادّخرته عنده، فحاول معه سليمان فلم يُفلح!
- الدروس المُستخلصة:
1- شعارُ (أستحي أن...) مرّ بنا في قصصٍ سابقة، وهو يحضرُ في كلّ قصّةٍ أو حادثةٍ فيها خوفٌ من الله، أو استشعارٌ لرقابته. فما أحرانا أن نشيعه في ثقافتنا، وأن نلتزمه في حياتنا.
2- طريقةُ (ادِّخار) شيء عند الله، طريقةٌ تربويّةٌ فعّالة، فما لا تناله، أو ما يوسوسُ لك الشيطان في نواله بالحرام، يمكن أن تدّخره عند الله ليُعوِّضك به أو خيراً منه. فلقد ورد في بعض الروايات والآثار أنّ الذي يغضّ بصرهُ عند رؤيةِ امرأةٍ، يرزقه الله بدلاً منها حوريّةً في الجنة، فكأنّه يُودع عند الله أمانة.
3- رفضُ استرجاع شيء مُدّخرٍ عند الله، طريقةٌ تربويّةٌ ثالثةٌ مؤثِّرة، فكلُّ مُدّخر عنده (يربو) أي يتضاعف ويزيد، فَلِمَ أسحب الرصيد إذا كان يتكاثر مع الأيام ويزيد؟!
القصة الحادية والعشرون
"لو كُنتَ أنتَ المحمُولُ!!"
في أثناء تشييع جنازةٍ، التفتَ أحدُ الصالحين إلى رجلٍ كان يسيرُ على مقربةٍ منه وهو مُطرِق، وقال له: أترى هذا الميِّت لو رجع إلى الدنيا يعمل صالحاً؟ (أي يعمل أكثر ممّا كان يعمل، ويتفادى أخطاءهُ ويتدارَك سيِّئاته).
فقال الرجل: لا شكَّ في ذلك.
فقال الرجل الصالح: فإن لم يكن هو، فلنكن أنا وأنت؟!
- الدروس المُستخلَصة:
1- كل جنازةٍ محمولة على الأكتاف يمكن أن تكون جنازتي، إن لم تكن اليوم فغداً، وإذا كان الموتى يصرخون مستغيثين متوسِّلين: (.. رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) (المؤمنون/ 99-100)، فمن يضمن لي أن لا أكون منهم؟
2- الإعتبارُ بالموتِ وبالموتى، أحدُ عواملِ التهذيب النفسي، فسؤالك: لو كنتُ أنا المحمول؟ أو لو كنتُ أنا المُشيَّع؟ أو لو كنتُ أنا الذي يُدفن الآن؟ أما كنتُ أطلب مهلةً إضافيّةً لتدارك ما فاتني من تقصير؟
فقبل أن أسأل ولا مجال حينئذٍ للإجابة الإيجابيّة عن سؤالي، لأعمل فعلاً وكأنّني أنا المنقولُ من داري إلى دار الوحشة.. عندها ستتغيّر أشياء ونظرات كثيرة.
3- كلُّ ميِّت حديثاً هو رسالةٌ لي، وكلُّ مَنِ ارتحل قلبه رسالةُ لي. فبريدي ممتلئٌ مُكتظٌّ بالرسائل أنِّي قريباً سأكون خبراً من الأخبار، على ما قاله الشاعر:
ما يزال المرء فيها مُخبَراً **** حتى يُرى خبراً من الأخبارِ
4- لقد أحدث الموتُ نقلاتٍ نوعيّةً في بعض الأشخاص والأسر التي غادرها أحد أفراد العائلة، فعند حقيقة الموت ينحني الجميع وتُذَلُّ الرِّقاب وتنقطعُ الأسباب، وتحينُ فرصة النادم والأوّاب والتوّاب.
ارسال التعليق