◄(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التَّحريم/ 8).
معاني المفردات:
(نَصُوحًا): النصح تحرِّي فعل أو قول فيه صلاح صاحبه، ويأتي بمعنى الإخلاص، نحو نصحت له الود أي أخلصته – على ما ذكره الراغب – فالتوبة النصوح ما يصرف صاحبها عن العود إلى المعصية، أو ما يخلص العبد للرجوع عن الذنب، فلا يرجع إلى ما تاب منه.
(يُخْزِي): قال الراغب: خزي الرجل: لحقه انكسار إما من نفسه وإما من غيره، فالذي يلحقه من نفسه هو الحياء المفرط ومصدره الخزاية... والذي يلحقه من غيره يقال هو ضرب من الاستخفاف ومصدره الخزي... وأخزى من الخزاية والخزي جميعاً... قال الراغب: وعلى نحو ما قلنا في خزي قولهم: ذلّ وهان، فإن ذلك متى كان من الإنسان نفسه، يقال له الهون – بفتح الهاء – والذل، ويكون محموداً، ومتى كان من غيره يقال له: الهون – بضم الهاء – والهوان والذل ويكون مذموماً.
توبة نصوحْ إلى الله:
وهذا نداءٌ للمؤمنين، الذين انحرفت بهم الطريق حتى وقعوا في المعصية وامتدت بهم، فسيطرت على مساحةٍ كبيرةٍ من حياتهم، أن يعودوا إلى الله، حتى يتوبوا إليه توبة نصوحاً، في العمق العميق من خضوعهم له، وانفتاحهم على طاعته ليتقبلهم قبولاً حسناً، فيكفر عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنته.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وعاشوا معنى الإيمان العميق في إحساسهم بالحضور الإلهي الشامل في وجودهم، وواجهوا – من موقع هذا الإيمان – الوعي المسؤول عن الموقف الذي ينتظرهم في الدار الآخرة في لحظة الحساب الحاسمة، وعرفوا أنهم إذا أشرفوا على الموت، وهم مستغرقون في المعصية، ومتمردون على الله، من دون توبةٍ، فسيلاقون العذاب الأليم، وسيعيشون الحرمان الأبدي من الجنة، فكيف تواجهون الموقف الآن، وأنتم في وقت المهلة قبل أن يدرككم الموت، إنّ الله يناديكم، فاسمعوا نداءه.
(تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) وهي التوبة الحقيقية التي تتحرك من الندم العميق على ما أسلفتموه من عملٍ لا يرضي الله، ومن العزم الأكيد على عدم العودة إليه في المستقبل، والتخطيط للسير في الخط المستقيم في طاعة الله.
وقد جاء في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال معاذ بن جبل: يا رسول الله ما التوبة النصوح؟ قال: أن يندم العبد على الذنب الذي أصاب، فيعتذر إلى الله ثمّ لا يعود إليه، كما لا يعود اللبن إلى الضرع.
وهكذا يريد الله من المؤمنين أن يفكروا دائماً بالخط الذي ينتمون إليه، ليدققوا في طريقة حركة خطواتهم عليه، ويستغرقوا في التدقيق في علاقتهم بالله، ليدرسوا مدى انفتاحهم عليه وإخلاصهم له، ليقوّموا ما انحرفوا فيه، وليصححوا ما أخطأوا فيه، لتبقى عيونهم مشدودةً إلى خط الاستقامة، فلا يغيب عنهم، وتبقى قلوبهم مفتوحةً على الله، فلا تنغلق عنه.
(عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) فهذا هو شرط رجاء رحمة الله التي تطل على سيئاتكم، فتزيلها من صحيفة أعمالكم، وعلى موقعكم في اليوم الآخر، فتؤدي بكم إلى النعيم الخالد في جنات الله التي تتدفق منها الينابيع، فتجري في ساحاتها أنهاراً يجد فيها القلب المتعب الراحة الرضية، والجسد المرهق الاسترخاء المريح، والشعور المتوتر الهدوء والاطمئنان والرضا المتطلع إلى رحاب الله.
(يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) ولا يحرمهم من كرامتهم ورضوانه. وكيف يخزيهم، وقد عاشوا الحياة كلها جهاداً في الدعوة إلى الإيمان في دينه وإلى الاستقامة في خط طاعته، وعملاً دائباً في سبيل إعلاء كلمته، والجهاد في سبيله، على صعيد التضحية بكل شيء في خدمته، فها هم اليوم مغمورون بفيض رحمته، سائرون إلى رحاب رضوانه، وكما كانوا في الدنيا معاً، فها هم في الآخرة معاً في صعيد الرحمة والكرامة في نعيم الجنان، وها هم (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) في ما قدّموه أمامهم من عمل صالح في خط الدعوة والجهاد، (وَبِأَيْمَانِهِمْ) في ما تحركت به أيمانهم، من مشاريع الخير وخطط الحق، (يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) في ما قد يكون قد نقص من طاعتنا، أو في ما أسرفنا فيه من ذنوبنا، (وَاغْفِرْ لَنَا) فإنها السبيل إلى استكمال النعمة في رضاك عنا وقربنا إليك، (إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، فلا يعجزك شيء من ذلك، فإنّ الأمور كلها بيدك، وأنت المهيمن على الدنيا.►
المصدر: كتاب تفسير من وحي القرآن/ المجلد (22)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق