• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

بين إحترام الطفل وتحطيم شخصيته

أحمد عبدالله

بين إحترام  الطفل وتحطيم شخصيته

◄إنّ من أهم الحاجات التي يحتاجها الإنسان بشكل عام والطفل بشكل خاص، هي الحاجة إلى الإحترام.. فالإنسان قد فطر على هذه الحاجة، يقول الله تبارك وتعالى: (ولقد كرَّمنا بني آدم).
فالإنسان الذي نُشأ على الفطرة مستعد أن يضحِّي بكل ما يملك مقابل أن لا يهان، وكل إنسان يتعرّض لموقف يشعر من خلاله أنّ الطرف الآخر لم يحترمه أو أهانه، فإنّه يشعر بألم شديد في النفس، ويظل يفكِّر في هذا الموقف ساعات ويتألّم، وكلّما تذكره في أي وقت تألّم لذلك.
إنّ الطفل إنسان لكنه صغير وضعيف، ويجب أن يشعر بعضويته في المجتمع.. إنّه ليس حيواناً أليفاً في البيت متى شاء مالكه مسح بيده على رأسه ومتى شاء ركله برجله.
إنّ تعاليم الإسلام تؤكِّد على إحترام الطفل بشكل واضح وصريح وبتركيز، لكننا تركنا تعاليم الإسلام ولم نقتد برسوله (ص) في أسلوب تعامله مع الطفل، بل أصبحت السمة الاساسية لتعاملنا مع الطفل هي إحتقار الطفل وليس إحترامه.
ومن المؤسف حقاً أن نلمس في مجتمعنا إحتقار الطفل بشكل واضح وواسع فلا يكلم إلا بنهر، ويشتم لأتفه الأسباب ويهان، يسفه رأيه، ويسخر منه، ويستهزء به، ولا يحترم، ولا يعار له أهميّة، دون إكتراث ودون أي شعور بفعل الخطأ، أصبح شيئاً طبيعياً وقد قبله الأطفال المساكين مرغمين أذلة، لذلك ينشأون ضعاف الشخصية، عديمي الإرادة، لا يشعرون بقيمتهم في المجتمع، بل يشعرون بالنقص والضعف، إنّهم يشعرون أنّ وجودهم شيء لا فائدة منه، وإنّهم أحقر من أن يأتي يوم ويكون لهم دور في المجتمع، إنّهم تافهين في نظر المجتمع، فلِمَ المحاولة عبثاً في المشاركة فيه.
من المؤسف أن نشاهد أيضاً أنّ بعض مَن يعتقدون أنّهم يحترمون أطفالهم يسيئون لهم في تصرُّفاتهم، ويشعرونهم بالنقص دون أن يعتقدوا ذلك، بل يعتبرونها تصرفات إعتيادية، لكنها بالنسبة للطفل مؤلمة وموجعة تبعث في نفسه الحزن والكآبة، وتترك آثارها على نفسه دون أن يشعر الآباء بذلك، وسوف نستعرض بعضاً منها من واقع حياتنا اليومية:
أ) مجلس يدور فيه حديث بين مجموعة من الرجال حول موضوع معيّن فيتكلّم واحد منهم فيصغي إليه الآخرون ثمّ يسكت فيبدأ آخر في سرد قصة معيّنة فيستمع الآخرون إليه ثمّ يتكلّم ثالث وهكذا.
تسود فترة صمت، أحد أطفال الجالسين تخطر بباله قصة تخص الموضوع يحاول أن يلقيها على مسامع الجالسين لكن الحياء يمنعه، وبعد جهد جهيد يستطيع أن يتغلب على خجله فيبدأ بالكلام، لكنه يفاجأ بعدم إصغاء حواليه لكنه يقاوم ويكمل كلامه فلا سبيل إلى التراجع، ويصطدم عندما يرى أحد الجالسين ابتدأ بالكلام مرّة أخرى وتوجّهت له اسماع الجالسين وضاعت كلماته الناعمة بين أصواتهم الغليظة، وضاع الجهد الذي بذله لمقاومة الخجل، وضاعت كرامته، بل وتمرغت بالوحل، فيطرق برأسه إلى الأرض وهو يتمنّى لو أنّ الأرض انشقت فابتلعته.
إنّ هذا الطفل يفهم أنّ المجتمع لا يريد أن يسمع كلامه، مستغنياً عن أي مشاركة منه لأنّه تافه ولا أهميّة لكلامه، إنّه ناقص ولا يجب عليه أن يتكلم مرّة أخرى، في حين لو أنّ الكبار استمعوا لكلامه مع قليل من التفاعل لانتعشت روح الطفل، وشعر بوجوده وأهميّته، وأنّه يستطيع أن يفيد المجتمع، ولابدّ إذن أن يبحث عن المفيد ليجد ما يقوله لهذا المجتمع.
ب) شخص يتنقل في المجلس يقدم العصير للحاضرين فرداً فرداً، الطفل يرى ويشاهد بأنّ الشخص الذي قدم العصير يسير ماراً بالجالسين واحداً واحداً وكل منهم يمد يده ليأخذ كاساً من العصير، الطفل يراقب العملية فينتظر دوره بفارغ الصبر، وعندما يصل دوره يمد يده فيفاجأ بأن الموزِّع لم يتوقف عنده بل تخطّاه، يسحب يده بسرعة ويلمّها في ثيابه ويلتفت يمنة ويسرة وينظر بوجوه الجالسين ليرى ما هي إنفعالاتهم تجاه فضيحته، إنّه صغير وضعيف لا يستطيع أن يوقف ذلك الشخص ويسأله لماذا لم تعطني كما أعطيت البقية، فيسكت. ولكن نفسه الجريحة تبكي في داخله على هذه الفضيحة دون أن يراها الآخرون، ثمّ يسرد في عقله الباطن النتائج التالية:
1- أنا ليس واحداً كالآخرين.
2- أنا إنسان حقير.
3- هؤلاء الكبار أعدائي ولابدّ أن آذيهم.
4- لن أسمع نصائحهم وسوف أعاندهم مهما قالوا.
5- وفي النهاية فلا قيمة لأي شيء، كل شيء تافه في هذه الحياة.
ج) يذهب الطفل مع أهله لزيارة عائلة صديقة، وعند إلتقاء العائلتين يرى الطفل ترحيباً خاصاً لكل شخص، وكل شخص يعانق الآخر، فالسلام والترحيب حار جداً بين هاتين المجموعتين، لكنه لا يرى أن شخصاً من هؤلاء مدَّ يده ليصافحه، أو ليسأله عن حاله، لكنه بادر بنفسه ليضع حدّاً لهذا التجاهل، فقال: السلام عليكم، لكن النتيجة كانت مؤلمة، لم يرد عليه أحد السلام، رغم وجوب الرد.
إنّ مثل هذه القصص كثيرة في واقعنا، وهي تترك ردود فعل مختلفة عند الأطفال، لكنها تجتمع في النهاية لتترك أثراً بليغاً في نفس الطفل، الشعور (بعقدة النقص) والتي تحطم شخصيته في الوقت الذي تبدأ غرائزه الإجتماعية بالنشاط وقد تلازمه مدى الحياة، تتحوّل كل طاقاته ومواهبه واستعداداته الفطرية إلى كلمات لا دور لها في واقع حياته، وقد تجره للإنتقام من المجتمع فيصبح مجرماً خطيراً. يقول الإمام الصادق (ع): "جبلت القلوب على حب مَن نفعها وبغض مَن ضرّها".
إنّنا نتعامل مع الأطفال بهذه الصورة رغم كل ما ورد بحقّهم من الله ورسوله (ص). لقد كان قائد الإمام محمد (ص) يعامل أطفال الآخرين بقدر ليس بالقليل من الإحترام والتقدير، فعندما كان يقدم من السفر يتلقاه الصبيان فيقف لهم، ثمّ يأمر بهم فيرفعون إليه فيرفع منهم بين يديه ومن خلفه، ويأمر أصحابه أن يحملوا بعضهم، فربّما يتفاخر الصبيان بعد ذلك، فيقول بعضهم لبعض: حملني رسول الله (ص) بين يديه وحملك أنت وراءه.
وقد جاء في الحديث: "التلطُّف بالصبيان من عادة الرسول (ص)".
لقد كان (ص)، على عظيم شأنه، هو الذي يبدأ بالسلام مع الأطفال إحتراماً لهم، لذا نجد أنّ العلماء أوردوا باب إستحباب التسليم على الصبيان في باب خاص في كتبهم.
عن أنس: أنّ رسول الله (ص) مرَّ على صبيان فسلم عليهم وهو مغذ – أي ماشي مسرع .
وعن الصادق (ع): "قال النبي (ص): خمسة لست بتاركهنّ حتى الممات... وتسليمي على الصبيان لتكون سنّة من بعدي".
فالسلام يحيي في قلب الطفل خصلة التواضع وحبّ الآخرين، ويعطيه شخصية رصينة مستقلة، وقال (ص): "أكرموا أولادكم".
وقال (ص): "... مَن أقر عين ابن فكأنّما بكى من خشية الله".
يقول موريس تي يش في كتابه (دروس للوالدين): "يجب أن تسلكوا مع أولادكم كأصدقاء أن تعملوا معهم، أن تشاركوهم في اللعب، أن تقرأوا لهم القصص، وتتحدّثوا معهم بعبارات الود والصداقة، وبصورة خاصة فإنّ الفرد يجب أن يعرف كيف يجعل نفسه بمستوى الأطفال ويتكلم بلغة يفهمونها".
وبذلك تكون كبيراً، وليس كبيراً مَن يكلِّم الأطفال ويعاتبهم على أنّهم رجال، والرسول (ص) يقول: "كلِّموا الناس على قدر عقولهم".
إنّ الأشخاص الذين لا يحترمون الأطفال إنّما هم اشخاص أنانيين، لا يراعون حرمة للإنسانية، حيث أنّ الطفل إنسان، ولا يراعون حرمة للدين حيث أمرنا الله ورسوله بإحترامهم، ولا يراعون حرمة للأُمّة، إذ يحرمونها من كفاءات ذات إرادة قويّة ونفوس أبيّة تتطلع دائماً إلى الرفعة، قد تبرز فتشارك في رفع شأنها.
لقد كان أطفال الناس أيضاً يحوزون احتراماً وتكريماً من قائد الإسلام العظيم، وكان يبذل لهم من العناية بمشاعرهم الروحية وعواطفهم ما يبذله لأولاده، فعن الإمام الصادق (ع) قال: "صلى رسول الله (ص) بالناس الظهر فخفف في الركعتين الأخيرتين، فلما انصرف قال له الناس: هل حدث في الصلاة حدث؟
قال: وما ذاك؟
قالوا: خففت في الركعتين الأخيرتين:
فقال لهم: أما سمعتم صراخ الصبي؟!".
وهكذا نجد النبي العظيم يطيل في سجدته تكريماً للطفل تارة، ويخفف في صلاته تكريماً للطفل تارة أخرى، وهو في كلتي الصورتين يريد التأكيد على احترام شخصية الصبي وتعليم المسلمين طريق ذلك.
يقولون: انّ الأطفال يستأثرون باهتمام العصر الحاضر، وان تربيتهم تشغل مجالاً واسعاً من تفكير الحكومة والشعب، أفهل يمكن أن يبلغ اهتمامهم بالأطفال الدرجة التي بلغها اهتمام الرسول الأعظم بهم وتكريمه لهم؟!

- بناء ملكات الطفل:
لا أحد يختلف في ان سعادة الإنسان ونجاحه في الدنيا والآخرة هما في سلامة طباعه الخلقية والنفسية، وكذلك شقاؤه وتألمه وتعاسته في الدنيا والآخرة مرهونة في انحراف طباعه الخلقية والنفسية، وللأسف نجد ان موضوع سلامة الطباع وانحرافها لا تحظى الا بجزء يسير من الاهتمام الذي يوليه الآباء لسلامة أولادهم الصحية والغذائية، فكما انّ البدن يتأثر من أمراض نقص التغذية ويسبب للمريض شعوراً بالتعاسة والشقاء بسبب الألم الذي ينتابه ليل نهار، كذلك فإن آلام الروح والنقص أشد وطأة وأكثر ألماً لصاحبها، والإنسان العاقل الواعي يعي هذه الحقيقة، أضف إلى ذلك نسبة صعوبة علاج الأمراض النفسية مقارنة بعلاج الأمراض البدنية والمصحات النفسية تشهد على ذلك.
لذا يجب على الأب أو المربي الالتفات إلى هذا الجانب من حياة الطفل، والمجاهدة الحريصة على أن تكون طباع هذا الإنسان الصغير سليمة وصحيحة، ووفقاً للمبادئ الإسلامية بحيث تكون طباعه السليمة ملكات خلقية يتمتع بها هذا الطفل وابتعاده عن الطباع المنحرفة والأخلاق الذميمة ملكة أيضاً يسعد بها طوال حياته، والملكة كما يعرفها بعض العلماء: "الخلق عبارة عن ملكة للنفس، مقبضة لصدور الأفعال بسهولة من دون احتياج إلى فكر أو رؤية، والملكة كيفية نفسانية بطيئة الزوال" ولك نفس في بدء الخلقة خالية من الملكات بأسرها، وانما تتحقق كل ملكة بتكرر الأفاعيل والآثار الخاصة به كالتربية والتلقين والمشاهدة إلى غير ذلك من وسائل التأثير.
وكذلك الأحوال النفسانية إذا تضاعفت قوتها صارت ملكات راسخة، فالنفوس الإنسانية في أوائل الفطرة كصحائف خالية من النقوش والصور تقبل كل خلق بسهولة، وإذا استحكمت فيها الأخلاق تفقد قبولها لأضدادها، ولذلك سهل تعليم الأطفال وتأديبهم، أو يتعذر تعليم الرجال البالغين وردهم عن الصفات الحاصلة لهم لاستحكامها ورسوخها، ثمّ لا خلاف في انّ هذه الملكات وأفعالها اللازمة لها ان كانت فاضلة موجبة للالتذاذ والبهجة مرافقة للملائكة والاخيار، وان كانت رديئة كانت مقتضية للألم والعذاب، ومصاحبة للشياطين والأشرار.
انّك أيها الأب إذا حرصت على مراقبة خلق طفلك فإنّك قد شاركت في مهمة الأنبياء إذ يقول الرسول (ص): "إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). وهل هناك شرف أعظم من هذا؟!
واعلم أن أي إنسان مهما عظم شأنه وتعالى علماً أو عملاً فإنّه غير جدير باحترام المجتمع، وبعيد عن الله إذا كان منحرفاً في طباعه الخلقية.
(.. وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...) (آل عمران/ 159).
فاحرص أيها المربي على أن تكون قد شاركت في المهمة التي بعث الله من أجلها خاتم رسله محمد (ص) وقد يسأل سائل: ما هي الصفات والأخلاقيات الفاضلة التي تريد جعلها ملكات لدى أطفالنا؟
إنّ السؤال لا يجب أن يكون بهذه الصورة وانما يجب ان تقول: ان كل الصفات الفاضلة مطلوبة، ولا غنى عن واحد منها، وكل أضدادها مرفوضة لا يقبل واحد منها.
فالسخاء والرفق واللين والشجاعة والعفو والحياء والتواضع والخوف من الله، والعزة والوقار والعدالة وحب الآخرين والفة والصدق والأخلاق الفاضلة كلها أمور مطلوبة يجب الاهتمام بترسيخها في نفس الطفل.
أمّا الجُبن والعنف والخوف وكثرة الهزل والكذب والخيانة والغيبة والنميمة والحسد وإيذاء الآخرين والشتم والاستهزاء بالآخرين والنفاق.. إلى غير ذلك من الصفات والأخلاق الذميمة كلها صفات يجب الاهتمام بحماية الطفل من اكتسابها من أي جهة يمكن أن تؤثر به من داخل البيت أو من خارجه دون علم والديه كالأطفال الآخرين أو المدرسة أو المجتمع.. إلخ.►

ارسال التعليق

Top