◄الإخلاص الإبراهيميّ:
في القرآن الكريم دعاءٌ لنبيّ الله إبراهيم (ع) إلى الله تعالى، يقول فيه: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم/ 40-41)، يدعو إبراهيم (ع) بهذا الدعاء عندما ركّز قواعد البيت الحرام في مكة، حيث يترك أهله هناك ويفارقهم. وقد انفتح على الله بعقله وقلبه ليدعوه في خصوصيّاته وفي كلِّ القضايا العامة التي يفكّر بها. فكان يستولي على تفكيره بأن يجعله الله مقيم الصلاة. فهو نبيّ الله الذي عرف الله معرفة واسعة شاملة، منطلقة من الفكر والتأمّل ومن لطف الله عليه في ذلك. وكان (ع) يشعر ومن شدّة صلته بالله وقربه إليه بالدّالة عليه سبحانه، باعتبار أنّ الله اتخذه خليلاً، فهو يتحدّث مع الله كما يتحدّث الحبيب لحبيبه، ولذا ورد في القرآن قول الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي...) (البقرة/ 260)، فإيمان الحسّ إلى جانب الغيب يعطي القلب استقراراً وطمأنينة وسكوناً، بحيث لا يمكن أن يُفسح المجال لأيّة خاطرة من خطرات الوهم والشك أن تدخل إلى القلب. ويحدّثنا الله تعالى عن إبراهيم (ع) (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل/ 120)، وهو النبيّ الذي أسلم بكلّه إلى الله (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة/ 131)، فلم يكن عنده لنفسه شيءٌ، فكلّ ما عنده لله سبحانه، حتى أنّ القرآن أخبرنا بأنّ صفة المسلمين التي نتصف بها، إنّما انطلقت من إبراهيم (ع) (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) (الحج/ 78)، فهو خطٌ لكلِّ مَن جاء بعده من المسلمين والمؤمنين في كلّ الديانات (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ)، وفي ذلك ردٌّ على اليهود والنصارى الذين ادّعوا انتساب إبراهيم إليهم (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا) (آل عمران/ 67). والقرآن عندما يثير الحديث عن إبراهيم (ع) فلكي يوحي بالقيمة الكبيرة لإبراهيم عند الله (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا) (النساء/ 125)، وتلك صفةٌ عظيمةٌ لابراهيم (ع) أن يتخذه سبحانه خليلاً له.
طلباً للصفاء والنقاء:
وهنا يقابل إبراهيم ذلك بمحبته العظيمة لله تعالى فيطلب من ربّه (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) (إبراهيم/ 40)، باعتبار أنّ الصلاة تمثّل مظهر العبودية الخالصة لله سبحانه، حيث يركع ويسجد الإنسان فيها ويقف بين يديّ الله بكل الإستسلام. فالسجود يمثّل المظهر الحيّ للخضوع الكامل، حيث يطرح الإنسان نفسه أمام الله بعيداً عن أيّ عنفوان وكبرياء. ولذا، ورد في المأثور أنّ الإنسان أقرب ما يكون إلى الله وهو ساجد، ومن هنا يُستحب للإنسان أن يطلب حوائجه من ربّه عند السجود. وقد ورد عن النبيّ (ص) في خطبته التي يستقبل بها شهر رمضان "إنَّ ظهوركم ثقيلة فخفّفوا عنها بطول سجودكم، فإنّ الله أقسم بعزّته ألا يعذّب الساجدين يوم يقوم الناس لربّ العالمين" والصلاة أيضاً هي معراج روح المؤمن إلى الله، فنحن لا نعرج إلى الله بأجسادنا، بل بأرواحنا، ولذلك يجب أن نعيش في الصلاة حالة التوجّه الكامل إلى الله، بعيداً عن أحقادنا وضغائننا، لنفتح له قلوبنا، نشكو إليه همومنا ولنغسلها من كلّ الأدران والموبقات، حتى تكون صلاتنا الحصن الذي نلجأ إليه، الذي يصدّ الفحشاء والمنكر عن الدخول إلى هذه القلوب (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت/ 45)، وقد ورد أنّ الإنسان إذا صلّى صلاة مقبولة، فإنّه يُغفر له ما قبلها من ذنوب (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (هود/114)، وقد جاء في بعض التفاسير أنّ الحسنات هي الصلوات التي تُذهب ما قبلها من السيئات. ونلاحظ أنّ النبيّ (ص) قال: "حُبّب إليكم من دنياكم ثلاث، الطيب والنساء وقرّة عيني الصلاة" فذكر الأمرين الأولين بشكل طبيعي، وعبّر عن الصلاة بقرّة العين، أي أنّ هذه الصلاة التي نتوجّه فيها إلى ربنا في هذه الدنيا هي قرّة العين التي يشعر فيها الإنسان بالسعادة، وبعبارة أخرى، تقرُّ العين بالصلاة، حيث تنفتح نفس الإنسان على خالقها فترتاح وتطمئن بما تشعر فيه من سعادة ورضىً. وعلى هذا، فالذين لا يصلّون هم الذين يعيشون ظلمة العقل والروح والقلب والحياة، فهم في ظلماتٍ من أوهامهم وأنانياتهم وكبريائهم وجحودهم، ولو نفذت إلى داخلهم لرأيت أنّ هناك ظلماتٍ فوقها ظلمات، لأنّهم لم يستضيئوا بنور الله، ولم يعيشوا إشراقة المحبة لله والمعرفة به سبحانه، لهذا، من الصعب أن تجد صفاء الخير في مَن لا يصلّي، لأنّ الصفاء والنقاء لا يحصلان عند الإنسان إلا من خلال التوجّه إلى الله تعالى.
إبعاداً لذريتنا عن النار:
وهذا ما طلبه إبراهيم (ع) من ربّه بأن يجعله مقيمَ الصلاة (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) فهو (ع) يطلب كذلك من الله أن يجعل ذريّته ممن يقيمون الصلاة. ودعاء إبراهيم يعطينا إيحاءً مهماً وأساسياً في مسألة علاقتنا وعلاقة ذريتنا بالله تعالى، فنحن عندما نفكّر بمستقبل أولادنا، علينا أن نفكّر بمستقبل ولدنا أو ابنتنا، ومن حقّنا ذلك بل من واجبنا، ولكن أوّل خطوات هذا المستقبل، هو أن نفتح عقل الواحد منهم وقلبه على الله، بحيث نعرّفه ربَّه، ونركّز علاقته به سبحانه من خلال الصلاة. فكما نحن مسؤولون عن أنفسنا في خطِّ البُعد عن النار كذلك نحن مسؤولون عن أولادنا في ذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ...) (التحريم/ 6)، ولذا، لابدّ للإنسان أن يربّي ولده على الصلاة حتى يكون من الذين يتحرّكون في اتجاه إيحاءات الصلاة، فيعيش مع المؤمنين يوم القيامة وهم في الجنّة الإطلالة على مَن في النار وسؤالهم (فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (المدّثر/ 40-48).
الأمل بقبول الدعاء:
وبعد ذلك يطلب إبراهيم (ع) من ربِّه بعد أن يجعله وذريّته من المصلين (وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) فإنّي محتاجٌ إليك في كشف همومي وغمومي وإزالة المشاكل والصعاب من طريقي.. وهذا ما يتوجّه فيه المؤمن إلى الله على الدوام متوسّلاً إليه مستغيثاً به، لأنّه ثقته به لا بغيره (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186)، ولأنّ المؤمن لا يُخرج نفسه عن حدِّ التقصير، فإنّه يطلب من ربِّه ألا تحول ذنوبه بينه وبين استجابة الدعاء، فيلّح عليه بالطلب ليرحمه ويلطف به ويقضي حوائجه.
ويتجدّد الدعاء الإبراهيمي (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ) علّمنا الله تعالى أن نستغفر لوالدينا ونطلب لهما الرحمة لما قدّماه من تضحية وبذلٍ في سبيل رعايتنا، وقد جعلهما الله سرّ وجودنا بشكل مباشر بعد أن كان هو سرّ الوجود كلّه (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) كلّ المؤمنين (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) قد يختلف المؤمنون مع بعضهم البعض، في أمور الدنيا أو في أمور الفكر، ولكنّ الله تعالى لا يريد لهم أن يحملوا الحقد في نفوسهم وقلوبهم على بعضهم البعض، لأنّ المشاكل التي قد تطرأ بينهم قد تأتي من خلال وساوس الشيطان وتهاويله. وهذا ما يجب أن نتنبه له، فإذا ما اختلف مؤمن مع مؤمن لأنّه يخالفه في نظرته الفكرية أو الاجتماعية، أو في أسلوبه، وعاش الحقد بينهما، فإنّهما ينشغلان ببعضهما بحيث يدمران واقعهما، والعدو واقفٌ يقهقه ضاحكاً من حولهما.
ومن هنا، علينا أن نحمل بعضنا على الأحسن دائماً لا على الأسوأ، لأنّ الشيطان يقف في دروبنا (.. لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ...) (الأعراف/ 16-17)، سأشغل لهم فكرهم وهم يصلّون، سأُربك واقعهم حتى وهم يدعون إلى الله.. هذه روحية الشيطان التي يجب أن نُسقطها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات/ 12)، والمؤمنون الذين هم أهل الجنّة، صفتُهم (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) (الحجر/ 47)، وينبغي على الإنسان أن يجاهد نفسه ويحاسبها، وينظّف عقله وقلبه، لأنّ الشيطان سوف يتحرّك بكلّ أساليبه ووسائله وخيله ورجله وأشياعه وأتباعه في سبيل أن ينحرف بنا عن الخطِّ المستقيم، ويمزّق العلاقات بين المؤمنين التي إذا تمزّقت صار بعضهم يشك في بعضه ويسبّه ويتهمه ويعطّل حركته. وبهذا يتلوّث القلب ويتسخ ويحقق الشيطان أمانيه وآماله من خلال حقدنا وبغضائنا. ولذلك، نحن بحاجة إلى أن نغسل قلوبنا من الحقد والكيد لبعضنا كما نهتم بغسل ثيابنا. وهذا أبو العلاء المعري يقول:
ثوبيَ محتاجٌ إلى غاسلٍ *** وليتَ قلبي مثلُه في النقاء
فلنتعلّم أن نفتح قلوبنا للمؤمنين بحيث نستشعر أنّ إيمانهم يمثّل القيمة العالية في واقعنا، لا أن ننساق وراء غرائزنا ونتحدّث بما لا يرضاه الله، فنفضّل الكافرين على المؤمنين، تماماً كما يقول البعض، المؤمنون ليس لهم دين، أخطأوا في كذا وفعلوا كذا، فيمكن أن يكون الكافرون أفضل منهم. بعض الناس يعيشون هذا المنطق غير السليم، والله تعالى يقول: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (القلم/ 35-36)، ربما كانت هذه المسألة غائبة عن أذهاننا ونحن ننال من بعضنا، ولذا، فإنّ إطلاق الإتهامات وتحكيم الظن السيِّىء والحكم بغير علم، أمرٌ لا يجوز من الناحية الشرعية، والله تعالى سيحاسب مَن يعيش هذه الذهنية. ومن هنا، فإنّ الواجب يحتّم علينا أن نجعل دروبنا دروباً آمنة، وعلاقاتنا علاقات منفتحة وواعية، حتى نملك الموقف الموحّد الذي نستطيع بواسطته أن نقف أمام أعدائنا وأعداء الله من موقع واحد وموقف واحد، وقد قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات/ 10)، حتى نحمي ساحتنا ونمنع اختراقها والقضاء عليها، وهذا لا يكون إلا من خلال محبة وقوة الإيمان بين المؤمنين. ومما جاء في الرواية أنّ أحد أصحاب الإمام الصادق (ع) رآه صاحبٌ له يدعو في يوم عرفة وعيناه كعلقتي دم من الإحمرار بسبب البكاء، وبعد أن انتهى من دعائه، قال له: رأيتُ مظهراً حسناً فيك، فأتمنى أن يحصل لي هذا الخشوع، فلعلّك دعوت لنفسك فيما يُهمّك. قال: لا والله، ما دعوت إلا لإخواني، وقد قال سيدي الإمام الصادق (ع): "إنّ المؤمن إذا دعا لأخيه بظهر الغيب، قالت له الملائكة: ولك مثلاه" فدعاؤك لأخيك بأن يغفر الله ذنبه ويقضي حوائجه ويخفّف عنه أحزانه، فإنّ ذلك يُدخل المحبة إلى قلبك، وتشتدّ العلاقة بينك وبينه.
فلنحاول أن نقتدي بسيرة الأنبياء (ع) والأئمة من أهل البيت (ع) ولنرفع أيدينا إلى الله كما رفع إبراهيم (ع) يديه (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) اجعلنا نقف بين يديك مغفوراً لنا، حتى لا تُثقل علينا الحساب، ولا نواجه في الآخرة الخوف من عذابك ونارك.. هذا هو دعاء إبراهيم (ع) ودعاء كلِّ مؤمن، فهل لنا أن ننطلق في هذه الإتجاه؟►
المصدر: كتاب من عرفان القرآن
ارسال التعليق