د. السيد نصرالدين السيد (أكاديمي من مصر)
◄شهد النصف الثاني من القرن العشرين تعاظماً غير مسبوق للدور الذي تؤديه المعرفة العلمية في اقتصادات الدول الصناعية. وهو التعاظم الذي نشأ نتيجة تفاعل عوامل عدة من أهمها "الانفجار المعرفي" و"الاستفادة العاجلة". وأوّل هذه العوامل، (الانفجار المعرفي)، هو الزيادة غير المسبوقة في حجم المعرفة العلمية التي ينتجها الإنسان. وفي العادة يقاس "الانفجار المعرفي" بالزمن اللازم لمضاعفة رصيد (كمية) المعرفة المتوافرة. فعلى سبيل المثال تقلص الزمن اللازم لمضاعفة هذا الرصيد من 50 سنة في الفترة (1900-1950) إلى 8 سنوات في الفترة الحالية.
أما العامل الثاني. فهو "الاستفادة العاجلة". التي تعني تناقص الفترة الزمنية اللازمة للاستفادة من الاكتشاف العلمي في تطوير منتج أو تقديم خدمة. فعلى سبيل المثال لم تتم الاستفادة من نظرية الموجات الكهرومغناطيسية، التي طورها عالم الفيزياء البريطاني جيمس ماكسويل سنة 1864، إلّا بعد مرور 37 عاماً، عندما تمكّن ماركوني من تنفيذ أوّل اتصال لاسلكي عبر "الأطلنطي" عام 1901. إلّا أنّ الأمر لم يستغرق سوى 9 أعوام، لتتجسد آلة تورنج، التي طورها عالم الرياضيات الإنجليزي 1937 كنموذج للحسابات الآلية، تتجسد على هيئة أوّل كمبيوتر رقمي عام 1946.
وهكذا أصبحت المعرفة مورداً، تفوق أهميته أهمية الموارد التقليدية (الموارد الطبيعية والمالية والبشرية)، نظراً لتمتعه بخصائص فريدة تميزه عن بقية الموارد. وأولى هذه الخصائص أنّه لا ينقص باستخدامه، فقراءة كتاب على سبيل المثال، لن تؤدي إلى نقص ما يحتويه من معلومات. وهو مورد قابل للزيادة عبر استخدام المنهج العلمي في إنتاج معرفة جديدة. وأخيراً هي مورد يمكن تحويله إلى صور أخرى. فالخبرة في مجال ما، على سبيل المثال، يمكن تحويلها إلى مال. وقد كان لاعتبار المعرفة مورداً رئيسياً تداعيات على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي. فعلى الصعيد الاجتماعي ظهر مفهوم "مجتمع المعرفة" الذي يعرفه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بأنّه "ذلك المجتمع الذي يقوم أساساً على نشر المعرفة وإنتاجها وتوظيفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعي: الاقتصاد، والمجتمع المدني، والسياسة، والحياة الخاصة، وصولاً إلى ترقية الحالة الإنسانية باطِّراد، أي إقامة التنمية الإنسانية" (UNDP, 2003).
وعلى الصعيد الاقتصادي ظهر مفهوم "الاقتصاد المرتكز على المعرفة" (Knowledge Based Economy)، وهو النظام الذي تعرفه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (Organization for Economic Co-operation and Development OECD) بأنّه الاقتصاد الذي يرتكز مباشرة على إنتاج وتوزيع واستخدام المعرفة والمعلومات (OECD 1996). ويقوم الاقتصاد المعرفي على أربع ركائز، هي: منظومة تعليم وتعلم حديثة، توافر منظومة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات فعّالة، منظومة قومية للابتكار، وبيئة اجتماعية موائمة.
ونلتقي في هذه الركائز بكلمة "الابتكار"، الذي يعرفه علماء الإدارة بأنّه "حل غير تقليدي لمشكلة مستعصية تعجز طرق التفكير المألوفة عن حلها". وينطوي هذا التعريف على جوانب مختلفة لمفهوم الابتكار. وأوّل هذه الجوانب هي أنّ الابتكار، كحل غير تقليدي وغير مسبوق، لابدّ أن يؤدي إلى إنتاج معرفة جديدة. أما الجانب الثاني فيعنى بكيفية تفعيل هذه المعرفة، أي باستخدامها في حل المشكلة قيد البحث أو في خلق فرصة جديدة يمكن استغلالها.
وبسبب ارتكاز اقتصادات المجتمعات المتقدمة المتزايدة على "الموارد المعرفية"، أو المعرفة العلمية والتكنولوجية بكلّ أشكالها التي ينتجها ويحوزها أفراد تلك المجتمعات، وتقلص الدور الذي تؤديه الموارد التقليدية، تزايد الاهتمام بالابتكارات وبعملية إنتاجها. فلقد وعى علماء الإدارة والاقتصاد ورجال الأعمال في بلاد العالم المتقدم أهمية الدور الحيوي الذي تؤديه "الابتكارات" بجميع أشكالها في تحقيق مزايا تنافسية للمؤسسات الاقتصادية وفي زيادة الدخل القومي لهذه البلدان. ومن هذا المنطلق ظهرت الضرورة لإقامة "المنظومة القومية للابتكار"، التي تهدف إلى زيادة القدرة الابتكارية للدولة من خلال إقامة رابط بين الفاعلين (مؤسسات القطاعين العام والخاص، والجامعات والهيئات الحكومية) في مجالات إنتاج وتوزيع واستخدام المعرفة، لتشكل معاً منظومة متكاملة تهدف إلى إنتاج المعرفة العلمية والتكنولوجية داخل حدود الدولة.
أما الركيزة الرابعة فتتمثل في "بيئة اجتماعية موائمة" ومن أهم عناصرها الثقافة السائدة في المجتمع. ففعالية وقدرة أي كيان (أفراد أو مجموعات أو مؤسسات) على إنتاج الابتكارات تتوقف على وجود ثقافة تدعم منظومة قيمها عملية الابتكار. وللتعرف على ملامح الثقافة الداعمة للابتكار، أو ثقافة الابتكار، علينا أن نتذكر أنّ عملية الابتكار تقوم على ركيزتين. الأولى هي "رفض الوضع الراهن" Status Quo. والثانية هي "الخروج عن المألوف" من خلال السعي لإيجاد حل للمشكلة المطروحة.
وبالطبع فإنّ قيمة مثل "الاحتفاء بالتغيير والسعي وراء الجديد" تعزز أولى ركائز عملية الابتكار. بينما تعزز الركيزة الثانية قيم: "تقبل المخاطرة"، "تشجيع التجريب"، "التسامح مع الأخطاء"، "التعلم المستمر"، "التقويم الموضوعي (العادل) للأفكار"، و"تقبل الخلافات". فقيمتا "تقبل المخاطرة" و"تشجيع التجريب" تشجعان المشاركين في عملية الابتكار على التفكير خارج الصندوق. أما تبني أي كيان، فرد أو مجموعة أو مؤسسة، لقيمة "التسامح مع الأخطاء" فيعني نظرة الكيان لها بوصفها مصدراً للدروس المستفادة التي تنشأ عنها الأفكار الجديدة. وبالتالي فهي تعزز من قيمة "التعلم المستمر" بما تنشئه من "نزعة فضولية" تدفع العاملين للبحث عن كلّ جديد.
كما تؤدي قيمة "التقويم الموضوعي للأفكار" إلى تشجيع العاملين على إنتاج الأفكار الجديدة ومناقشتها. وفي العادة يؤدي البحث عن حلول غير مسبوقة للمشكلات، التي يواجهها الكيان، إلى إنتاج العديد من الأفكار التي قد يناقض بعضها بعضاً، وتتباين حولها الآراء. وهنا تبرز أهمية قيمة "تقبُّل الخلافات" التي لا تقتصر على مجرد التقبل، بل تعني أيضاً العمل على تجاوزها بطريقة بناءة.
إنّ ثقافة الابتكار هي باختصار الثقافة التي ترفض الوضع الراهن، وتسعى بهمة وراء الأفكار الجديدة أياً كان مصدرها وأياً كانت درجة "شططها" أو غرابتها وخروجها عن المألوف، ولا تخشى خوض التجربة وممارسة التجريب، وتتسامح مع الفشل وتعتبره خطوة في طريق النجاح. ثقافة منفتحة لكلّ جديد ومرحبة به... تشجع التغيير ولا تؤثم البدع... ثقافة لا تفيد فكر الإنسان في أُطر ضيقة ولا تحصره في حدود مقررة سلفاً.►
المصدر: مجلة العربي/ العدد 683 لعام 2015م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق