• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القرآن و الإنسان

الشيخ جواد الخالصي

القرآن و الإنسان
إذا أحسّ الإِنسان بوجوده، واستعمل عقله، وعرف نفسه، فأنّه سيصل حسب رأي أهل الإِيمان، إلى معرفة خالقه – جلّت قدرته – وهذا موضوع خاصّ، يُبحث عنه في علوم الكلام والفلسفة؟ أو من خلال النظر المجرد والاستنتاج البسيط. الذي يتمازج مع الفطرة. وقد أشار القرآن الكريم إلى هاتين المرحلتين – التفكير العميق والمعقّد، والنواتج الفلسفية والمنطقية، كما أشار إلى النظر في الآفاق، وفي نفس الإِنسان، للوصول إلى النتيجة الموحدة، وهي الإِيمان بالله سبحانه، وهذا ما سنحاول بحثه في وقت آخر، وبشكل مفصل لأن الإِيمان بالله هو الأصل الذي تبتنى على أساسه حياة الإِنسان، ومنه تنطلق ابداعاته. أمّا هذا البحث فأنه سيركّز على الإِجوبة القرآنية عن السؤال الذي يعقب مرحلة الإِيمان. وهو بعد أن آمنا بالله، وآمنا بضرورة الانطلاق من ذلك الإِيمان. وعرفنا ربنا، مصدراً لوجودنا والحاكم بأمورنا، والمصرّف لأحوالنا، فما هو الواجب الملقى علينا تجاه هذه المعرفة؟ وبالتحديد ما هو الطريق الذي يرسمه القرآن الكريم لنسلكه في اجابتنا على هذا السؤال؟ الواضح والثابت أن القرآن وحده هو الذي يملك الجواب الشافي، لانه بأقصر عبارة؛ كتاب الله الذي فيه هدى الإِنسان ونجاته من الضلال؛ وهو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ولذلك لا بدّ من التمسك به، للوصول إلى ذلك الهدف؛ والحقيقة ان الغاية من بقاء الكتاب العظيم، وحفظه من قبل الباري العظيم الذي أنزله وجعله معجزاً في لغته وآفاق علومه وبقائه على صورته الأولى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كل هذه الصفات الإِستثنائية الخاصّة بكتاب الله القرآن العظيم؛ إنّما خُصصت به لكي يؤدي هذا الدور في حياة الإِنسان، وبذلك وحده تتمّ حجّة الله على العباد؛ التي هي الغاية الكليّة من إرسال الأنبياء، وبعث الرسل، وإنزال الكتب المقدّسة.   هدف الحياة: لا شك أن كل إنسان لا بدّ وأن يتساءل في قرارة نفسه لماذا جئت إلى هذه الحياة؟ وما هو هدفها؟ وإنني حسب ما فهمته من وضع البشر في البلاد المختلفة، فإنّ الإِجابة على هذا السؤال تشكل علاجاً مصيريّاً لحالة الإِنسان النفسية، وسعادته في الحياة. فالقلق الذي يدمر حياة الإِنسان الماديّ مع كل وسائل الترف الحضاري الجديد الميسر للإِنسان. هذا القلق سببه غموض الإِجابة أو تفاهتها في المدارس المادية بينما يتسامى الجواب القرآني في آفاقه الواقعية والفكرية ليجيب على ذلك السؤال، بشكل يجعل من حياة الإِنسان واحةً مستقرة، من الناحية الروحية، في صحراء مجدبة مملؤة بالعواصف التي تذر عيون الماديين برمال الشك والارتياب. إنّه الإِيمان الذي يقدمه القرآن؛ لإِيصال الإِنسان إلى حياة الاطمئنان. والإِنسان المؤمن يحصل على هذا الإِيمان حتّى لو كان مشرداً، ومهدداً، ومحارباً وسجيناً، ومعذباً. هذه الإِجابة تتجلى في قول العبد الصالح والرسول الأعظم (ص) عندما يقول لخالقه وهو في محنة الطائف: (إن لم يكن بك غضب علّي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي). هذا الاطمئنان؛ يعترف حتّى أكبر معلمي الإِلحاد في هذا الزمان – الفيلسوف البريطاني المعروف "برتراند راسل" – يعترف بأن المتدينين يحصلون عليه عن طريق الإِيمان. فعندما يُسأل: هل حصلت على الاطمئنان في عالم الرياضيات؟ فيجيب، نعم حصلت على ذلك الاطمئنان الذي يحصل عليه المتدينون من الدين. ونعتقد نحن بأن "راسل" يخادع نفسه لأنّه لم يحصل على ذلك الاطمئنان، لأنّ عالم الرياضيات عاجز عن إعطاء الأبدية الحيّة التي يعتقد بها المؤمنون بالله سبحانه، والتي يجسدها القرآن العظيم في آياته المحكمات. والآن؟ ما هو هدف الحياة؟... الجواب: إنّك خُلقت أيُّها الإِنسان لتعبد الله وحده، ولا تشرك به شيئاً، فإذا فعلت كان حقّاً على الله أن يدخلك الجنّة يوم القيامة، وأن يخلدك فيها بجوار رحمته ومع أوليائه. فغاية الحياة هي عبادة الله سبحانه، ومعرفته للوصول إلى ثوابه. قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (الذاريات/ 56-57). وبعد تحديد الغاية السامية لهذا الوجود يرشدنا الباري سبحانه وتعالى خلال آيات القرآن الكريم إلى الطريق الأقوم للوصول إلى ذلك الهدف.   كرامة الإِنسان: القرآن الكريم يرشد في أوضح آياته إلى المقام السامي للإِنسان، فهو خليفة الله في الأرض. (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً...) (البقرة/ 30). وتكون خلافة الإِنسان لخالقه في الأرض، بمقدار التزامه بهدف الحياة والغاية من الوجود. فكلما إلتزم الإِنسان بعبادة خالقه وإطاعته؛ كان يمثل هذه الخلافة على الوجه الصحيح؟ هذا إضافة إلى كرامة الإِنسان الرفيعة، وتقديمه على بقية الكائنات (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الإسراء/ 70). ومهمة الإِنسان في خلافة الله، تتناسب مع الالتزام بشرع الله، والدعوة إليه. وقد ورد في الحديث: "الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابة".   السير إلى الله: تُركّز الآيات البيّنات، على تحديد طريق الإِنسان للوصول إلى الله سبحانه؟ وتُصّور لنا الحياة وكأنها اختبار كفاح للقرب من ذلك الهدف (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) (الإنشقاق/ 6). كما تجعل الحياة رحلة خاسرة لكل إنسان، ما لم يلتزم بأمر الله سبحانه: (إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر/ 2-3). كما يحذر القرآن الكريم الإِنسان من الاغترار برحمة الله وكرمه، يتكل عليهما الإِنسان دون أن يعمل: (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) (الإنفطار/ 6-7).   النشأة والسموّ: بين نشأة الإِنسان المتواضعة من الطين والماء الدافق، إلى مرحلة الخلافة طريق طويل، يرشدنا إليه القران الكريم. (أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (يس/ 77). (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (الحجر/ 26). (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (المؤمنون/ 12). (فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) (الطارق/ 5-7). هذه النشأة المتواضعة. يذكرنا بها القرآن، في مواضع عديدة، لكي ينتبه الإِنسان إلى أصله فيبتعد عن التكبر والتمرد، وبعدها تأتي التنبيهات العديدة إلى صفات الضعف، والعجلة، والتمرد، والإِنكار التي يمكن أن ينزلق إليها الإِنسان (.. وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء/ 28). ومن دلائل هذا الضعف عجلة الإِنسان لإِنجاز الأمور، أو المواعيد حتّى أنّه يستعجل أمر الله، ويريد أن تجري المقادير بأسرع ما يمكن، بل ويسارع إلى دعاء الشرع عند الضيق: (وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا) (الإسراء/ 11). ويدفعه حبّ الدنيا إلى التقتير، خوفاً على نفاذها من يده: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا) (الإسراء/ 100). وقد يصل به الأمر إلى حد الكفر! خصوصاً حين يحسّ بالأمن والنعيم. ولو كان يلجأ في الضيق إلى الله وحده (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا) (الإسراء/ 67). ولكن القرآن يذكِّر الإِنسان بالقدرة الربانية، حتى حين الأمن والرخاء والاطمئنان في جانب البر (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا) (الإسراء/ 68). وتستمر الآيات البيّنات في تنبيه الإِنسان، إلى الأخطار الأخرى، التي قد تسقطه خلال المسيرة الطويلة، وتحرفه عن أهدافها الكبيرة. فهو مع بدايته المتواضعة الضعيفة إِلاَّ أنّه كثير الاعتراض، والاحتجاج، والجدل حتّى أنّه ضرب الأمثال لخالقه، مع أنّه ينسى حقيقة منشأه: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يس/ 78-79). ويأتي أمر الجدل والاحتجاج، وهي صفة الإِنسان التي قد تجره إلى الإِنكار والإِلحاد، مع مشاهدة خلقه وقراءته لآيات القرآن العظيم: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا) (الكهف/ 54). وتتجسد هذه الخصلة في الكافرين (.. وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا) (الكهف/ 56). ثمّ يُذكّرنا القرآن الكريم بعظمة الأمانة التي حملها الإنسان، إنّها أمانة المعرفة والإيمان والالتزام بأمر الله سبحانه وتعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) (الأحزاب/ 72). ثمّ يُجسد القرآن الكريم في آياته الرائعات إلى وساوس النفس الإنسانية، وينبّه إلى مخاطر الوقوع في شراكها: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق/ 16). وتتعدد الوساوس والأسئلة الحائرة التي قد تنتهي إلى الضلال، إن لم تجد الأجوبة الإيمانية الشافية: (أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) (القيامة/ 3-4). ثمّ تأتي الإشارة إلى رغبات النفس الجامحة (بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) (القيامة/ 5-6). فإذا جوبه بحقيقة الكون، ووعيد القيامة يبقى متردداً، يحاول أن يبحث عن مهرب (يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (القيامة/ 10-15). فهذه المخاطر الجانبية، والمنزلقات الحادّة يمكن أن تسقط الإنسان وتمنعه من السير في الطريق إلى الله، إلى السمو من تلك البداية المتواضعة. ولكن كل هذه الوساوس، والأسئلة الحائرة يجد الإنسان أجوبتها في عقله السليم وفطرته المستقيمة (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ). كما أنّ القرآن العظيم يجيب على كل مسائل أو سؤال حائر بأجوبة واضحة وقاطعة، كما قرأنا ذلك في سورة "يس" المباركة، والأهم أنّ الإنسان ليس ضائعاً في الحياة، بل هو من مبدأ واضح إلى مصير محتوم. وكان "الإمام عليّ (ع)، يعمل في حائط (بستان)، فدخل عليه بعض الأشخاص فرأوه يقلب كفيه، وهو يبكي قارئاً (أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) (القيامة/ 36-40). ثمّ يشير القرآن الكريم إلى الحياة الحقيقية للإنسان، بعد الموت، ونهاية الحياة الأولى (.. يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) (الفجر/ 23-24). وقد أشار القرآن الكريم إلى ضعف الإنسان أمام الإبتلاء وقلة النعم، مما يشكل أحد عوامل الإنشغال أو الإنحراف عن المسيرة الإيمانية (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا) (الإسراء/ 83). (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) (فصلت/ 51). وقد يجعل كرامته بمقدار النعم التي يعطيها له ربه سبحانه، دون أن ينتبه إلى أصل الكرامة، وهي معرفة الله سبحانه وعبادته في المقام الأوّل (فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) (الفجر/ 15-16). فيأتي الجواب الرباني في القرآن الكريم: (كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (الفجر/ 17-20). فالإنسان، أمام كل هذه المخاطر، من وسواس النفس، وحبّ المال، والإثراء، وكثرة الجدال، وحبّ الجاه، والثروة، والسلطان معرّض للانزلاق الخطير، والإنحراف عن الصراط المستقيم الموصل إلى الله. أما أخطر دوافع الإنحراف فهو الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس، ويغري الإنسان بالإنحراف، ولذلك جعله القرآن الكريم عدوّاً واضحاً للإنسان (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يوسف/ 5). فتنبيه القرآن إلى هذه المخاطر هي المحاولة التحذيرية الأولى، لكي يتجنب الإنسان مكامن الخطر، والمنحدرات الخطيرة التي تنتهي إلى الإنحراف، وإضاعة الهدف الأسمى للوجود والحياة...   بعد معرفة الله: حين يرسم القرآن الكريم في آياته البيّنات حدود الطريق القويم، للوصول إلى معرفة الباري سبحانه وتعالى، باعتبار أن ذلك أهم أهداف الحياة، يُعرفنا القرآن العظيم بصفات الباري العظيم الذي تتعرف عليه العقول السليمة، ويثبِّت هذه المعرفة، ويقوّمها، إن انحرفت، الكتاب الكريم بأوضح العبارات وأروعها، وأكثرها تأثيراً في النفوس، وملائمةً للفطرة الإنسانية السليمة. فالله تعالى في القرآن هو الحقّ، وماذا بعد الحقّ إلّا الضلال، وإنّ ما يدعون من دونه هو الباطل. وإنّه الله الحيّ القيوم الذي تعود إليه الأمور، وبأمره يرتبط مصير العباد (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الحشر/ 22-24). فالإنسان حين يتعرف على خالقه من القرآن العظيم. يتعرف على حقيقة الخالق الحيّ الذي يسيّر كل أمور الكون بإرادته، صغيرها وكبيرها، والإنسان هو الكائن العاقل، أولى الكائنات بأن يرتبط مصيره بأمر الله سبحانه؟ فتكون مسؤولية هذه المعرفة أن يبادر الإنسان إلى العمل الجاد على محورين: الأوّل: بناء شخصيته الذاتيّة، ويتمّ هذا بتطبيق الإنسان لسلوكه كله مع أحكام الله وشرعه، ويكون القرآن هنا الحاكم على السلوك، والمصدر الأوّل للأحكام التي يتبعها الإنسان للوصول إلى رضا الله سبحانه. الثاني: ويمثل العودة من الله سبحانه إلى خلقه، لهدايتهم من الظلمات إلى النور. وهذا أسمى ما يريده الباري من عباده العارفين الصالحين، فأنهم بمقدار صلاحهم ومعرفتهم، ملزمون بالعمل لإيصال المعرفة والرسالة الإلهيّة إلى عباد الله الآخرين. ولذلك نلاحظ أنّ الشخصيات الإيمانية تتعلق بأمر الهداية الإنسانية، إلى حد الفداء والتضحية. وقد جسد رسول الله (ص) هذه الحالة في أعلى مراحلها، لأنّه وصل إلى المعرفة، وحمل الرسالة في أعلى مراحلها، لأنّه وصل إلى المعرفة، وحمل الرسالة في أعلى مراحلها. فكانت حياته جهاداً متّصلاً نحو هذا الهدف. وكان يتألم لضلال الناس، حتّى أن ربه تعالى كان يواسيه في الوحي المنزل (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) (فاطر/ 8). وكان الأنبياء يتألمون لضلال الناس، ويتحسرون على ذلك، فنسب الباري تعالى ذلك إلى نفسه تعظيماً لحسرة وأسف أنبيائه (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (يس/ 30). (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) (الزخرف/ 55). وهكذا تلتقي قمة المعرفة، مع قمة الإلتزام الشرعي للإنسان، مع قمة الاهتمام بدعوة البشرية إلى الإيمان. ويكون القرآن هو المحور الذي يُنسِّق مسيرة الإنسان إلى هذه القمم الشامخة، مع التحذير الدائم والكثير، من السقوط في المنزلقات الجانبية. وإذا وصل الإنسان إلى المرحلة النهائية في التكامل، فأن ذلك الإنسان يكون ترجماناً للقرآن، وحجّة على العباد، ويكون اتّباعه دليلاً على حبّ الله سبحانه وتعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران/ 31). وهذا ما يفسر أن يكون علماء "آل محمّد" عدلاً للكتاب، بحيث يخلفهما رسول الله (ص) في الأُمّة، بشكل متكامل جامع، ويكون التمسك بهما منجاة للعباد، لأنّ أحدهما يكمل الآخر. فالإنسان الكامل – الذي يريده القرآن – هو الحجّة التي لا تبتعد أبداً عن القرآن، ولا تفترق عنه، حتى ترد على رسول الله (ص) حوضه العظيم، ويكون هو حامياً لأحكام الشرع، ومفسراً صائباً لا يخطئ لآيات القرآن الكريم، ويكون قدوة يتبعها العباد الذين يريدون الوصول إلى الحقّ والذين يرجون الله واليوم الآخر وهم لا ينسون الله على حال (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب/ 21).   المصدر: مجلة رسالة القرآن/ العدد (3) لسنة 1411هـ

ارسال التعليق

Top