كما في كلّ الأمراض الأخلاقية والنفسية فإنّ العلاج يأتي من الداخل وليس من الخارج، وما لم يتم القضاء على العوامل المسببة للمرض يتعذّر إيجاد علاج شافٍ منه.
المهمّة ليست صعبة وإن بدت لأوّل وهلة كذلك.
فكما يمكن تعويد النفس على السيِّئ من الأمور، يمكن ترويضها على الحسن الإيجابي منها، وإن كانت المهمّة هنا أصعب لأنّها مخالفة لهوى النفس ورغباتها ومشتهياتها، لكن ينبغي أن لا ننسى شيئاً مهماً وهو أنّ مردودات ومكاسب (الترويض) أكبر وأكثر.
دعونا إذن نتتبع العلاج ضمن خطوات:
الخطوة الأولى: أن نضع إصبعنا على موضع الداء، أي نختبر أنفسنا لنكتشف هل أنّ داء الحسد قد تسرب إليها، وكيف تتعامل مع تفوّق الآخرين واحترام الناس لهم وإعجابهم بما لديهم من مواهب وملكات.
الخطوة الثانية: أن نتحسّس مخاطر المرض وآثاره الوخيمة الداخلية والخارجية. فقد لا يذهب إلى الطبيب الذي لا يشعر بخطورة المرض أو يستسهله، لكنّه إذا عرف أنّه مرض خطير بادر إلى علاجه.
الخطوة الثالثة: دراسة أسباب الحسد في كلّ حالة ومناقشتها مناقشة علمية وصريحة، فقد تختلف أسباب الحسد من حالة إلى أخرى. والغاية من دراسة الأسباب هو السعي لتجفيفها وردمها قبل أن تصبح حفرة عميقة يصعب الخروج منها.
الخطوة الرابعة: وصفة العلاج، وهي وصفة تشتمل على بنود عديدة، منها:
1- أن نتذكّر دائماً أنّ النِّعَم هبات إلهية ولا تقاس بالاستحقاق وعدم الاستحقاق، فحكمة الله أبلغ وأوسع من مداركنا (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النساء/ 54).
2- لنتذكّر أيضاً، أنّ المحسود لا يقصد – في الأعمّ الأغلب – الإساءة إلينا، أو إثارة حالة الحسد داخل نفوسنا، فلِمَ نحاربُ إنساناً بريئاً أو نشهر العداوة ضدّه؟!
3- لنتعلّم.. أن نتطلّع إلى ما في أيدينا من نِعم ومواهب وخصائص، ولا يكون أكبر همّنا أن نمدّ أعيننا إلى ما متّع الله به غيرنا.. فالعيون المتطلّعة إلى الأعلى تتعب[1].. أكثر النظر إلى مَنْ هم دونك، فهو نظرٌ يحمل إليك الكثير من المشاعر الرضية الشكورة.
4- أن نتذكّر أنّ إمكانية السعي للحصول على ما لدى الغير أو بعضه أو أكثر منه، متوافرة خاصّة إذا امتلكنا إرادتنا وعزمنا وتصميمنا على بلوغ ما نتمنّى. وهذه ليست وصفة تسكينية، فلعلّك جربتَ في حياتك كيف أنّ الإرادة – كما يقال – تصنع المستحيل أو تقهره.
إنّ السعي بحد ذاته يخفّف من مشاعر الحسد وربّما يزيلها تماماً، أو يقلبها إلى (منافسة شريفة) أي التنافس في الخيرات والإبداع والتنمية والتطوير.
5- نمِّ ما لديك من نقاط إيجابية ومزايا طيبة ومواهب أوّلية حتى تكون مرموقة.
6- لنتذكر دائماً.. مساوئ الحسد وأضراره وشروره وما فعله بالحسّاد من قبل، وليردّد مَنْ يشعر بالحسد قول الشاعر:
لله درُّ الحسد ما أعدله *** قد بدأ بصاحبهِ فقتله!
والعاقل – كما يقال – مَن اتّعظ بغيره، فهل أرتضي لنفسي أن أكون طُعمة للحسد يأكلني ليلاً ونهاراً، وأنا أتفرّج على مشهد افتراسي دون أن أضع حدّاً أو نهاية لاسترساله في نهش قلبي ومشاعري؟!
7- لنقرأ في عيون الناس وملامحهم وانطباعاتهم ومواقفهم من الحاسدين، لنرى كيف أنّهم ينبذون الحسود ويمقتونه ويهربون منه هروبهم من النار المحرقة. ولندِر البصر لنرى الحسّاد كيف يُحشرون في الزوايا الضيّقة.. مهملين.. محتقرين قد انفضّ الناس من حولهم.
8- حاسب نفسك عند كلِّ حالة حسد.. ولا تدعها تمرّ وأنت ساكت أو راضٍ.. اعتبر ذلك حالة مشينة.. ربِّ في نفسك حالة التأنيب الداخلي، فذلك سبيل مهم من سبل تطويق الحسد ومحاصرته تمهيداً لقتله.
وربّما كان نافعاً أيضاً أن تستثير في نفسك حالة الشعور بالإثم، بأنّ تقول: هذه معصية.. هذه كبيرة.. هذا عملٌ يُسخط الله.. إلخ.
9- راجع حالات الحسد التي تقدّم ذكرها في البداية.. ادرسها بنفسك.. حاول أن تواجه كلّ حالة بعكسها، فإذا دعاك الحسد إلى طمس فضائل الآخرين.. خالفه وانشر تلك الفضائل.. وإذا حملكَ على التكبّر فجابهه بالتواضع.. وإذا دعاك إلى احتقار الآخر فقابله بالاحترام والتقدير، وإذا وسوس لك باغتيابه فأكثر من مدحه والثناء عليه، وإذا ضغط عليك لتقاطعه أو تهجره فقابل ذلك بالألفة والتواصل.
فردود الأفعال هذه ستكون لها آثار إيجابية على نفسيتك، وستجد أنّك أكبر من خواطر شيطانية تريد أن تحبسك في زنزانة الحسد الضيقة.
10- قوّ الحالة الإيمانية لديك.. التقوى والورع يمكن اكتسابهما بالتربية الخاصّة، والمفردات السابقة كلّها تزرع في داخلك هاتين الملكتين، فإذا اتقيت الله في أخيك ولم تبغِ عليه بحسدك، وإنّما تمنّيت له المزيد من التوفيق والنعم، فإنّ ذلك سوف يحقق لك أكثر من مكسب، فعلاوة على أنّك تكسب مودّته ومحبّته وعرفانه بلطفك. فإنّ الله سيرزقك مثله وزيادة، وستعيش هانئاً قرير العين.
11- راجع كتب الأخلاق والمواعظ التي قيلت في علاج الحسد، والدراسات التي تضع خطوات عملية لمجابهته، وستجد فيها ما يأخذ بيدك في طريق المكافحة.
12- اعمل بنصيحة رسول الله (ص) لأنّها مجرّبة وذات أثر فعّال، فلقد قال لأصحابه ذات يوم: "ألا إنّه قد دبّ إليكم داء الأُمم من قبلكم وهو الحسد، ليس بحالق الشعر، لكنّه حالق الدين، وينجّي منه أن يكفّ الإنسان يده، ويخزن لسانه، ولا يكون ذا غمز على أخيه المؤمن".
فالنبيّ (ص) هنا يقدِّم لنا وصفة علاجية ناجحة للحسد، في قوله "وينجِّي منه"، فالنجاة من الحسد ترتكز على ثلاث ركائز:
أ) كفّ اليد: أي أن لا يتحرك الحسد من حالة نفسية داخلية إلى ممارسة للعنف مع المحسود في الخارج، كما فعل (قابيل) مع (هابيل) فقد بسط إليه يده ليقتله.
ب) حبس اللسان: فلا يطفح الحسد من الداخل إلى اللسان بكلمات الفحش والبذاءة والتسقيط والسُّباب والتشهير والغيبة والبهتان، فتلك روائح منتنة لا تنبعث إلّا من القلب الآسن الذي تنمو فيه طحالب الخبث والسوء والرذيلة والتشفّي.
ت) لا تكن غمّازاً: والغمز هو الطعن في سمعة وقدرات ومواهب المحسود من أجل إسقاطه في نظر الآخرين، لأنّ الحاسد يريد أيضاً أن يؤلّب غيره على محسوده حتى لا يبدو الحاسد الوحيد.
وقد طرح النبيّ (ص) العلاج المذكور بصيغة أخرى في حديث آخر، حيث يقول: "وإذا حسدت فلا تبغِ" أي يجب أن لا يتطوّر الحسد لديك إلى حالة بغي وعدوان ومكيدة وحقد أعمى.
الخطوة الخامسة: واظب على العلاج.. واحمل نفسك على تطبيقه.. ولا تضع الدواء على الرف دون أن تستخدم منه شيئا، وإلّا مكنتَ داء الحسد من أن يكون عقدة مستحكمة.
الهامش:
[1]- قد يقول شاب أو فتاة إذا أدمنا النظر إلى مَنْ هم دوننا فإنّنا سوف لن نتطوّر، وهذا الكلام صحيح على صعيد الفضائل الخُلقية والإرتقاء بالمستوى العلمي وتطوير الأداء العملي أمّا الماديات والشكليات فمن طبيعتها أنّها ترهق كواهلنا النفسيّة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق