تميزت القيم السياسية الإسلامية عن بقية القيم السياسية المطروحة في تاريخ الفكر السياسي بالبعد الأخلاقي والغيبي، الذي أسس هذه القيم وسيّسها، ومن هذه القيم: العدل والإنصاف: وقد عرفت الشريعة الإسلامية مفهوم العدل كمفهوم واقعي وتطبيقي ملازم لمقولات الشريعة الإسلامية. والعدل: هو أن يعطى المرء ما عليه ويأخذ ماله[1] أي ما عرف بالحقوق والواجبات.
والعدالة في أبسط مفاهيمها تعني العدل في إصدار الأحكام وعدم المحاباة والتحيّز لشيء معيّن. وكلمة عدالة اصطلاح ساد في الفقه السياسي في مختلف مراحله، وهي بمعنى وظيفي ومعنى نظامي: أوّلاً: فالعدالة النظامية تلك المجموعة من القواعد والنصوص التي تحكم النظام القضائي بحيث يكون أداة لتمكين مرفق العدالة. ثانياً: العدالة الوظيفية: بمعنى أنّ العدالة تصير إحدى الأهداف أو المهام التي تسعى الجماعة السياسية إلى تحقيقها، وبحيث تمثل هدفاً ثابتاً للنظام السياسي. فالعدالة: كوظيفة، أو بمعنى أدقّ كهدف وقيمة، يجب أن يسعى إلى تحقيقها النظام السياسي، تلقى بنا في أعقد المتاهات للفلسفة السياسية، وهي بهذا المعنى تعتبر كقيمة، وليست العدالة مجرّد معنى إجرائي نظامي. وللعدالة عدّة خصائص تمثّل الجوانب المختلفة للعدالة كمبدأ سياسي فهي حقيقة حضارية، لأنّها تعبر عن حضارة معيّنة، وقد تعبّر عن ذاتية فردية، كما أنّها بحكم طبيعتها تفترض الحياد، وهي في أبسط معانيها تعني إعطاء كل ذي حقّ حقّه. بهذا المعنى قد توصف بأنها عدالة مساواة، أي أنّ كلّ صاحب حق لا يختلف عن أيّ صاحب حقّ آخر في الحصول على حقّه. وقد توصف بأنها عدالة توزيعية. ومبدأ العدالة هو ذلك التطبيق الواحد للحكم الواحد، كما تعني أكثر من ذلك بعداً، بمعنى أن صياغة الحكم في ذاته يجب أن تعبّر عن مفاهيم أكثر بعداً من مبدأ المساواة، فمبدأ العدالة لا يعني سوى السياسة التشريعية. أمّا مبدأ المساواة فتعني السياسية الجزائية. والسياسة التشريعية تدور حول الأهداف الباطنة التي منها تنبع مفاهيم الصياغة للقواعد، أما السياسية الجزائية فلا تعني سوى الآثار المترتّبة على الإخلال بالقواعد. إذن فالعدالة في أبسط معانيها إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، أو كما يطلق عليها تعبير الإنصاف. والمفهوم بهذا المعنى يفترض تحديد معنى الحق[2]، لأننا لا نستطيع أن نحدّد ما يستحق الشخص قبل أن نحدّد ما ينبغي أن نعطيه له، على أنّ الفقه، في جانبه الأعم يرى أنّ مفهوم العدالة يعبّر عن افتراض ذو سمة مطلقة، فالعدالة كمفهوم يقتضي وجودها توافر أركان ثلاثة: هي الحقيقة، العمومية، المساواة في المعاملة للحالات المتساوية. ويرتفع مفهوم العدالة ليصل إلى مستوى قمّة الهرم القيمي في الحضارة الإسلامية التي جعلت من مبدأ العدالة المحور الذي يسيطر على جميع أبعاد الحركة، والذي يتحكّم في جميع أبعاد التطوّر. ولقد أصبح مبدأ العدالة في الإسلام هو الهدف الأسمى الذي تسعى الجماعة السياسية إلى تحقيقه، كما يمثل الهدف الثابت والقيمة العليا للنظام السياسي الإسلامي[3] ولهذه القيمة العليا أشار القرآن الكريم في قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد/ 25)، فالعدل والإنصات بين العباد هو الغاية هنا، ومن هذا جاء قوله تعالى: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ...) (ص/ 26). وهدف العدالة كان ماثلاً في السياسة العلوية، ولذلك قال علي (ع)، كما روى عن ابن عبّاس بقوله: دخلت على أمير المؤمنين (ع) بذي قار وهو يخصف نعله فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها! فقال (ع): والله لهي أحبُّ إليَّ من أمرتكم إلا أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً[4]. وقال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء/ 47). فإذا ما تميّزت كل حضارة بسمة خاصة بها، كانت سمة الحضارة الإسلامية هي العدالة. فالعدالة شعار الإسلام، وهي الميزان المستقيم الذي يحدد العلاقات بين الناس في حالة السلم وحالة الحرب، والقسطاس المستقيم الذي به يتمّ توزيع الحقوق وبه ينتظم الوجود الإنساني[5] وقد نطق كتاب المسلمين السماوي بالعدالة في كثير من السور، أو بمعناها أو ما يرادفها، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء/ 58). وقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/ 90)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة/ 8). وقال: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأنعام/ 152). وقال: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات/ 9). وقال: (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (الشورى/ 15). وغير ذلك من الآيات الدالة دلالة مباشرة وغير مباشرة في لفظ العدل أو معناه أو ما يرادفه كما في القسط والميزان. ويتبادر إلى الذهن في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي المفهوم المضاد للعدل وهو مفهوم الطاغوت والظلم والبغي والفساد والعلوّ، أو غير ذلك من المرادفات والمقاربات، فنرى القرآن الكريم يعرّض بمن يلوذ بالطاغوت ويجعله مظلة وملاذاً ينتهي إليه، وقد عرّف القرآن الكريم الشخص المشوّش الذي يجعله محوراً وقبلة له في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا) (النساء/ 60). وقال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة/ 257). وقد أنف الصادق (ع) لشيعته وأصحابه أن يتحاكموا ويضعوا ملفات منازعاتهم الجنائية والمدنية بيد سلاطين الجور، الذين أضاعوا العدل وغيّبوه عن مؤسساتهم وأجهزتهم، فقال لعمر بن حنظلة – حين سأله عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحلّ ذلك؟ - من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فكأنّما تحاكم إلى الطاغوت المنهى عنه، وما حكم له به فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقّه ثابتاً له، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت ومن أمر الله عزّ وجلّ أن يكفر به[6] وفي هذا الخبر ما يشعر من حساسية وتألم وتحرّج واضح من الظلم والجور، ومذهب الصادق (ع) هذا هو اهتداء بقوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 188)، وقد تساءل أبرز أصحاب الصادق (ع) وهو أبو بصير الرواية المشهور عن سرّ عدم تقييد وتخصيص الآية الكريمة بلفظ الحكّام الظلمة أو الجائرين أو ما شاكل ذلك، فأجابه الصادق (ع) بالقول: إنّ الله قد علم أنّ في الأُمّة حكّاماً يجورون، أما إنّه لم يعن حكّام العدل ولكنه عني حكّام الجور[7]. فالحاكم العادل ملاذ الناس كلّهم، ولا يخصّ طائفة دون طائفة، ويفهم من الأحاديث الواردة عن المعصومين (ع) بأنّ الأمّة بإمكانها أن تحلّ منازعات أفرادها بخصوص الملكية أو الأحوال الشخصية وغيرها خارج الأجهزة القضائية، كما يفهم من رواية عمر بن حنظلة المتقدمة عن رجلين اختلفا قائلاً: فكيف يصنعان وقد اختلفا؟ قال الصادق (ع): ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرض به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً[8]. ومفهوم الظلم أكثر وضوحاً وصراحة وتجسّداً من مفهوم الطاغوت وغيره، لذا حين يتحدّث القرآن الكريم عن الظلم نجده يتحدّث لأذهان قد وضحت لديها حقيقة الظلم ومتجسداته، فالخطاب يرد بلهجة شديدة مفعمة بالوعيد والعذاب الأبدي، كما في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) (النساء/ 168-169)، كان أبواب الرحمة قد أوصدت بوجه الظالم. والعدل هو المسؤولية الملقاة على عاتق الملك والسلطان، فحين يُطالب السلطان بالعدل وسيادة القانون، فلأن ملاك هذه الوظيفة هو تطبيق القانون وحفظ وصيانة الحقوق، ومن هذا جاءت رواية الصادق (ع) بأنّ الله عزّ وجلّ أوحي إلى النبي من أنبيائه في مملكة جبّار من الجبّارين أن ائت هذا الجبّار فقل له: إنني لم أستعملك على سفك الدماء واتخاذ الأموال، وإنّما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين، فإني لم أدع ظلامتهم وإن كانوا كفّاراً[9]. ومهما بلغت عبادة الإنسان فإنّها دون العدل لو وضعت في ميزان، فلهذا يقول النبي (ص). عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة قيام ليلها ونهارها، وجور ساعة في حكم أشدّ وأعظم عند الله من معاصي ستّين سنة[10]. وإذا أخذنا بالتعريف العام لمعنى العدالة كما عرفت في عصور الإنسان المختلفة بأنّها لا تزيد عن كونها إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه. وهذا التعريف العام يضمّ في جوانبه تحقيق العدالة بين الأفراد من جهة، والمحافظة على حقوقهم الطبيعية من جهة أخرى. ولكن الحقّ الطبيعي لا يمنح للإنسان بغير مسؤولية. إنّ مسؤولية الإنسان أن يسعى لتحقيق الخير وتجنّب طريق الشر. أضف إلى ذلك أنّ القانون الطبيعي والأخلاقي يدعونا إلى العمل من أجل تحقيق الخير وتجنب الشر، وهذا يقتضي بطبيعة الحال أن نتعامل مع الآخرين على أساس عادل، بمعنى أن لا يتعدّى أحد على حقوق الآخرين الطبيعية ومعاملتهم على أساس إنصافهم عند توزيع ما يستحقونه[11]. وفي ذلك يقول النبي (ص): سيّد الأعمال إنصاف الناس من نفسك[12]. وفي تعريف الحقوقيين: تحقيق المساواة بين المواطنين أمام القانون، وتكافؤ الفرص بينهم[13]. ولذا تناصرت الأخبار والروايات في تأكيد هذا المفهوم ومنحه بعداً واقعياً ترجمته السيرة الشخصية للصحابة الأخيار وللمعصومين (ع) وألزموا أنفسهم وأصحابهم وأتباعهم بالعمل به. ولا يمكن تصوّر عنايتهم (ع) ودأبهم في تحقيق مفهوم العدل والإنصاف والعمل به بدائرتهم (ع) وبمن أحاط بهم فقط، بل تعدّى ذلك إلى ظالميهم ومن ناوأهم، كما ظهر ذلك في سؤال المنصور الدوانيقي للصادق (ع) حين قال له حدّثني عن نفسك بحديث أتّعظ به ويكون لي زاجرَ صدق عن الموبقات، فقال الصادق (ع): عليك بالحلم فإنّه ركن العلم، واملك نفسك عند أسباب القدرة، فإنّك إن تفعل ما تقدر عليه كنت كمن شفى غيظاً أو تداوى حقداً ويُحبّ أن يذكر بالصولة، واعلم بأنك إن عاقبت مستحقاً لم تكن غاية ما توصف به إلا العدل[14]. وقد وضع الله تعالى نظام الكون على أساس متين من العدل والإنصاف فالإخلال بقانون العدالة الكونية يعني تعثر نظم الحياة وتهافتها، فحتّى المخلوقات الأخرى التي لم توهب عقلاً مدبّراً كعقل الإنسان تدرك بفطرتها وغريزتها أنّ العدل والإنصاف هو قانون ضروري لترتيب حياة الإنسان والمخلوقات الأخرى التي تعيش معه ومن أجله، فالعمل الدؤوب والجدّ المتواصل هو الذي يمكن جماعات النحل من أن تنتج مادّة حيوية ونافعة للإنسان، وما لم يحصل هذا لا تكون هناك خلايا عسل. ويستطيع الباحث البصير أن يدرك المعنى والإشارة الخفيّة لذلك في قوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل/ 68-69). وقد أشار الغزالي إلى هذا القانون الصارم الذي ينظّم حياة هذا المخلوق النافع بالقول: انظر إلى النحلة كيف أوحى الله تعالى إليها حتى اتّخذت من الجبال بيوتاً، وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل، وجعل أحدهما ضياءً والآخر شفاء! ثمّ لو تأمّلت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار، واحترازها من النجاسات والأقذار، وطاعتها لواحد من جملتها، هو أكبرها شخصاً، وهو أميرها، ثمّ ما سخّر الله سبحانه له أميرها من العدل والإنصاف بينها، حتى أنّه ليقتل منها على نجاسة، لقضيت من ذلك العجب إن كنت بصيراً على نفسك![15]. وقد تداولت جمهورية أفلاطون العدالة كمشكلة وطموح ينبغي تحقيقه. وكان يرى للحصول على إنسان عادل أن تبنى مدينة عادلة يكون المواطنون عادلين بقدر مشاركتهم العادلة في مدينة عادلة[16] وهذه أمنية وخيال سياسي ليس لها وجود خارجي كي تتجسّد به مثل هذه الجمهورية، في حين كانت العدالة متجسّدة في دولة النبي (ص) ووصيّه علي (ع) في أدّق التفصيلات والممارسات اليومية إلا أنّ الابتعاد عنها وعدم التمسّك بها والذي حصل في الدول اللاحقة كان واضحاً ومؤشراً في سيرة الحكام والملوك بحيث إنّ المنصور الدوانيقي جوبه بهذه الحقيقة وخضع لها كحقيقة سياسية ثبتت في سجلاتهم. والرواية أشبه بقصّة فنية حبكت لردع حاكم باسم الدين لكي يرجع إلى بيت العدالة السماوية، فتقول الرواية: لمّا حج المنصور في سنة أربع وأربعين ومائة من الهجرة النبوية نزل بدار الندوة وكان يطوف ليلاً ولا يشعر به أحد، فإذا طلع الفجر صلّى بالناس وراح في موكبه إلى منزله، فبينما هو ذات ليلة يطوف إذ سمع قائلاً يقول: اللّهمّ إنا نشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحقّ وأهله من الظلم، فملأ المنصور مسامعه منه ثمّ استدعاه فقال: ما الذي سمعته منك؟ قال: إن آمنتني على نفسي نبّأتك بالأمور من أصلها، قال: أنت آمن على نفسك، قال: أنت الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق وحصول ما في الأرض من البغي والفساد، فإنّ الله سبحانه وتعالى استرعاك أمور المسلمين فأغفلتها، وجعلت بينك وبينهم حجاباً وحصوناً من الجصّ والآخر وأبواباً من الحديد، وحجبة معهم السلاح، واتّخذت وزراء ظلمة وأعواناً فجرة، إن أحسنت لا يعينوك وإن أسأت لا يردّوك، وقوّمتهم على ظلم الناس ولم تأمرهم بإعانة المظلوم والجائع والعاري، فصاروا شركاءك في سلطانك، وصانعتهم العمّال بالهدايا خوفاً منهم، فقالوا: هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه فاختزنوا الأموال، وحاولوا دون المتظلم ودونك فامتلأت بلاد الله فساداً وبغياً وظلماً، فما بقاء الإسلام وأهله على هذا؟ وقد كنت أسافر إلى بلاد الصين وبها ملك قد ذهب سمعه، فجعل يبكي فقال له وزراؤه: ما يبكيك؟ فقال: لست أبكي على ما نزل من ذهاب سمعي، ولكن المظلوم يصرخ بالباب ولا أسمع نداءه، ولكن إن كان سمعي قد ذهب فبصري باق، فنادى في الناس: لا يلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم، فكان يركب الفيل في كلّ طرف نهار هل يرى مظلوماً فلا يجده. هذا وهو مشرك بالله، وقد غلبت رأفته بالمشركين على شحّ نفسه، وأنت مؤمن بالله وابن عمّ رسول الله (ص) ولا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شحّ نفسك، فإنّك لا تجمع المال إلا لواحدة من ثلاث، إن قلت إنك تجمع لولدك فقد أراك الله تعالى الطفل الصغير يخرج من بطن أمّه لا مال له فيعطيه، فلست بالذي تعطيه، بل الله سبحانه هو الذي يعطي، وإن قلت: أجمعها لتشييد سلطاني، فقد أراك الله القدير عبراً في الذين تقدّموا، ما أغنى عنهم ما جمعوا من الأموال ولا ما أعدّوا من السلاح، وإن قلت أجمعها لغاية هي أحسن من الغاية التي أنا فيها، فوالله ما فوق ما أنت فيه منزلة إلا العمل الصالح. يا هذا هل تعاقب من عصاك إلا بالقتل؟ فكيف تصنع بالله الذي لا يعاقب إلا بأليم العذاب، وهو يعلم منك ما أضمر قلبك وعقدت عليه جوارحك، فماذا تقول إذا كنت بين يديه للحساب عرياناً؟ هل يغني عنك ما كنت فيه شيئاً؟ فبكى المنصور بكاءً شديداً وقال ياليتني لم أخلق ولم أك شيئاً، ثمّ قال: ما الحيلة فيما خوّلت؟ قال: عليك بأعلام العلماء الراشدين، قال: فرّوا منّي، قال: فرّوا منك مخافة أن تحملهم على ظهر من طريقتك، ولكن افتح الباب وسهّل الحجاب، وخذ الشيء ممّا حلّ وطاب، وانتصف للمظلوم، وأنا ضامن عمّن هرب منك أن يعود إليك، فيعاونك على أمرك، فقال المنصور: اللّهمّ وفّقني لأن أعمل بما قال هذا الرجل، ثمّ حضر المؤذّنون وأقاموا الصلاة، فلمّا فرغ من صلاته قال: عليّ بالرجل، فطلبوه فلم يجدوا له أثراً، فقيل: إنّه كان الخضر (ع)[17]. والعدالة كمعيار مهني يحدد مدى إنسانية وكفاءة أيّ جماعة سياسية، فما لم يتحلّى الحاكم أو الرئيس أو النائب البرلماني أو حتى ممثل الناحية والحي الشعبي، بصفة العدالة لا يؤتمن على عمله ولا يمكنه أن يؤدّي رسالته بشكل صحيح، وهنا تستبدّ به شهواته ونزواته، ويتعثر في الأداء السياسي، وتتقاذف به الرؤى والأفكار فلا يبصر شيئاً، فالأموال والأرواح والحقوق تنتظر اليد العادلة والأمينة التي تمسك بها، وفي هذا قال النبي (ص): السلطان ظلّ الله في الأرض يأوي إليه كلّ مظلوم[18]. ولذا قال الصادق (ع) من تولّى أمراً من أمور الناس فعدل وفتح بابه ودفع شرّه ونظر في أمور الناس كان حقّاً على الله عزّ وجلّ أن يؤمن روعته يوم القيامة ويدخله الجنّة[19]. وكانت السماء حريصة على إفهام آدم (ع) بأنّ العدل والإنصاف ضروري لاستمرار الحياة وإدامتها، وفي ذلك جاءت رواية الباقر (ع) بأنّ الله تعالى أوحى إلى آدم (ع): يا آدم إني أجمع ذلك لك الخير كلّه في أربع كلمات: واحدة منهنّ لي، وواحدة لك، وواحدة فيما بيني وبينك، فأمّا التي لي فتعبدني ولا تشرك بي شيئاً وأمّا التي لك فأجازيك بعملك أحوج ما تكون إليه، وأمّا التي فيما بينك وبين الناس فترضى للناس ما ترضى لنفسك[20] لأنّ العدل والإنصاف غاية مبتغاة تتطلع له النفس البشرية، وفي ذلك قال الصادق (ع): العدل أحلى من الماء يصيبه الظمآن، ما أوسع العدل إذا عدل فيه وإن قلّ[21]. والعدل والحرية جلبا الازدهار للممالك الإسلامية يوم كانا من طبيعتها وكان الضعف في أوربا لفقدانهما، وبدورة الزمان استفادت أوربا من الحرية والعدل، وتخلّفت الممالك الإسلامية بدونهما[22]. وقد نبّه علي (ع) الأشتر النخعي لذلك في رسالته له بالقول: وإنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودّة الرعيّة، وإنّه لا تظهر مودّتهم إلا بسلامة صدورهم[23] وبذلك يستتب الأمن والاستقرار فتزدهر البلدان والممالك ويتحقّق الكمال السياسي. وقد جعل النبي (ص) طاعة السلطان العادل فريضة واجبة توجب رضى الله ورحمته فقال (ص): طاعة السلطان واجبة ومن ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة الله ودخل في نهيه[24]. وقال النبي (ص): السلطان ظلّ الله في الأرض يأوي إليه كلّ مظلوم، فمن عدل كان له الأجر، وعلى الرعية الشكر، ومن ظلم كان له الوزر وعلى الرعية الصبر[25]. وقال (ص) أيضاً: أحبّ الناس يوم القيامة وأقربهم إلى الله مجلساً إمام عادل. وإنّ أبغض الناس إلى الله وأشدّهم عذاباً إمام جائر[26]. وحين يعمّ العدل تستقرّ أمور البلاد وتنتظم حياة الناس ومعاملاتهم وشؤونهم، وعند افتقاد العدل تتضعضع الدولة وتنهار مؤسساتها، وفي ذلك يقول الإمام الرضا (ع): إذا جار السلطان هاتت الدولة[27] فعند ذاك لم يعد للحكومة والدولة مصداقية في وجودها. ومن الوصايا السياسية المهمة التي تناولت العدل كركن مهم في إدارة الشؤون العامة للبلد ما روي من وصيّة علي (ع) لعمر بن الخطاب إذ قال له علي (ع): ثلاث إن حفظتهن وعملت بهنَّ كفتك ما سواهن وإن تركتهن لم ينفعك شيء سواهن، قال: وما هن يا أبا الحسن؟ قال (ع): إقامة الحدود على القريب والبعيد، والحكم بكتاب الله في الرضا والسخط، والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود، فقال عمر: لعمري لقد أوجزت وأبلغت[28]. فهذه الأسس التي بيّنها علي (ع) تُعدّ في كافّة الأزمنة دعامة السلطة السياسية، وبها يتقوّم كيان الدولة. فالعدل وسيادة القانون ضمانة قوية ووثيقة أمان للحاكم والمحكوم في استمرار الحياة السياسية وتكاملها، ومن هذا يقول الباقر (ع): ما أوسع العدل، إنّ الناس يتّسعون إذا عدل فيهم وتنزل السماء رزقها وتخرج الأرض بركتها بإذن الله[29]. ولا تطالب المحكمة السماوية من السلطان إلا العدل، فلم نجد في مشهد القيامة الذي رآه النبي (ص) من يسأل السلطان عن عباداته وصلاته وصومه وركعاته التي تحفظ له في ملفاته الشخصية، والتي تسجل سلوكه وتعرض أمام الله يوم القيامة، كما ذكر النبي (ص) ذلك المشهد ورآه وأخبرنا به فقال: تكلّم النار يوم القيامة ثلاثاً: أميراً وقارئاً وذا ثروة من المال، فتقول للأمير: يا من وهب الله له سلطاناً فلم يعدل، فتزدرده كمايزدرد الطير حبّ السمسم، وتقول للقارئ: يا من تزيّن للناس وبارز الله بالمعاصي فتزدرده، تقول للغني: يا من وهب الله له دنيا كثيرة واسعة فيضاً وسأله الحقير اليسير قرضاً فأبى إلا بخلاً، فتزدرده[30] فالمساءلة هنا اجتماعية سياسية، تضع طبقات من الناس في ميزان القسط والحساب ليعرف نظراؤهم عظم المسؤولية التي وضعت في اعناقهم في الحياة الدنيا. الهوامش:[30]- الخصال للصدوق: 111 ح84.
المصدر:كتاب معالم الفكر السياسي ونظرية الدولة في الإسلام
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق