◄- مصائب الدنيا ليست طارئة:
كلّ شيء محسوب إلهياً قبل حصوله وقد جرى توفير جميع مستلزماته، ولو لم يكن الأمر هكذا لتحوّل عالمنا الأرضي إلى خراب خلال وقت قصير بفعل كثرة الأحداث وعظم ما تلحقه من خسائر..!
فالإنسان يمرض ـ مثلاً ـ وهذا لا يحدث إلّا بعد أن تتوفر الظروف الملائمة ومتطلّباتها ومدى استعداد الجسم ونوع الجرثومة ومقدار فاعليتها وأخذ النتائج بالحسبان والتحوط لما تتركه من فراغ أو خلل في المحيط حتى يمكن تعويض ذلك وتطويق استفحاله المنفلت..!
وكذلك عند حدوث ولادة أو رحيل إلى العالم الآخر، فالولادة تنشئ زيادة في عدد السكّان ينبغي أن تؤخذ متطلّباتها في كلّ شيء، وعلام نذهب بعيداً فالطفل حالما يغادر الرحم وينزل إلى دنياه يبدأ ثدي الأُم بتكوين الغذاء المناسب له تماماً المتزايد في مقادير عناصره يوماً بعد يوم..!
ورحيله يعني نقصاناً في عدد السكّان ينبغي أيضاً أن يعوّض حتى لا تختل الحياة، بل إن تفسخ الجثة تحت الثرى وفوقه قد جرى توفير كلّ ما يتطلّبه حفاظاً على البيئة كإيجاد الحشرات التي تلتهم المواد الميتة وتسيغها رغم تعفنها، وهي بذلك تعيش عليها لتؤدي وظائف أخرى عديدة في مجالات البيئة..!
وعندما ينكب المرء بمصاب جلل ففضلاً عن تهيئة كلّ الاستعدادات اللازمة لحصول المصيبة من حيث وقتها المحدد وعمقها المطلوب ومدى تأثيراتها فإنّ ما يعتري المصاب من مشاعر في اللحظات العصيبة يجري التحوّط له، ولذا يكثر أن نرى مفجوعين وهم يتمالكون أنفسهم وقت حلول النكبة ليتسنى لهم مواجهتها، فلو تركوا وشأنهم دون تدخل من الله تعالى ممثل بإلهامهم الصبر والثبات لفجر هول الموقف كلّ مشاعرهم وشلّ جميع قواهم ولتساقطوا صرعى حالاً..!
فإن يحصل شيء من هذا القبيل صدفة أو بدون تحضير مستلزماته يعني خللاً في تكوين دنياناً، ولو افترضنا وجود هذا الخلل فأدنى مقدار منه كفيل أن يتفاقم ويحدث عرقلة في الدنيا قد توقّف مسيرتها بعد وقت ليس بالطويل لأنّ الحياة ذات تفاصيل متشابكة تتفاعل باستمرار فينجم عن ذلك إمّا تواصل المسيرة عند سلامتها من الخلل أو أن تتعرقل بوجود أدنى مقدار منه إذ يستفحل حد أن يمنع تواصل الحياة محطماً كلّ أوجها الزاهي العظيم..!
وما نقوله ليس هو محض استقراء لأفعال دنيانا فقط، وإنّما هناك التوجيه القرآني المتعاضد مع ما يجري فعلاً بكلّ أبعاده، يقول تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (الحديد/ 22-23).
فما أكثر مصائب الأرض كالزلازل والبراكين والأعاصير والفيضانات والحرائق الكبرى والحروب وتساقط النيازك والمجاعات وانقراض أحياء وتهدّم مدن وغيرها كثير، كلّ هذا بجميع عوامل حصوله وجميع ما يخلفه من آثار ونتائج إنّما هو محسوب من قبل الربّ سبحانه قبل أن يخلق الأرض حتى يكون هذا الكوكب محكم التكوين ومستعداً لكلّ ما يجري فوقه فيما بعد فيمكّنه المضي بمسيرة الدنيا إلى أجلها المحدد لدى الخالق..!
وما أكثر مصائب البشر كذلك كالأمراض والضعف والجهل والفقر وحوادث الضر المختلفة والبلاء النازل بشقيه المبهج والمحزن على تنوع أشكاله وتباين مقدار حالاته، مصائب البشر هذه قد علم الله تعالى بها قبل أن يخلقهم حتى يكونوا في تكوين كلّ منهم مستعدين لتلقي ما يحصل وحتى يكون بوسع الحياة التجاوب لتحصيل الأغراض الإلهية من وراء ذلك كلّه بتمامها..!
فالخالق عزّوجلّ لو لم يكن قد سبق علمه بمصائب الأرض والبشر قبل أن يخلقهما ووفر جميع ما يتطلّبه هذا الأمر من لوازم واستعدادات لما تسنى للوضع الابتلائي أن يتواصل هكذا بكلّ الاتزان والانضباط والدقة وتحقيق المرامي العليا بالشكل المتحدّث عنه في القرآن الكريم، بل الأسوغ هو أن يؤول عالمنا بفعل تراكم الأحداث المريرة وتأثيراتها المدمرة إلى خراب تام خلال وقت قصير..!
والمؤمن الحقّ عندما يستيقن هذه الحقائق ينبغي أن لا يأسى حزناً على ما فات وكأنّه شيء ضائع وأن لا يطيره الفرح بما هو آتٍ وكأنّه لا يزول، لأنّ الماضي المسلوب قد تم بتقدير الله ضمن سابق علمه ومقتضيات حكمته، ولأنّ المتاح كذلك خاضع لهذا التقدير وأنّه معرّض للانتزاع قريباً إذ أنّ صاحبه في أبعد الاحتمالات هو راحل عن الدنيا وتارك وراءه كلّ شيء.. فتذمر الحزين بسبب ما فاته يعني السخط على تقدير الله تعالى وطيش الفرحان بما ناله يعني الغرور..!
أمّا غير المؤمن فإنّه يصاب بالضر فيمزّق أحشاءه الألم ويرى أنّه خائب إذ أنّ فعلاً هو (خبط عشواء) ضربه وكان (بالمقدور تفاديه) فيجزع وييأس وتسود الدنيا في عينيه، ولكما حاول ليرفع عن كاهله أثقال الضر جوبه بتزايد السوء لأنّه غير متزن وهائج لقلب ويرى الأشياء بغير حجمها الحقيقي وبعيداً عن التبصّر في معالجة المعضلات..!
وينال النفع فيستخفه الفرح والزهو والاختيال ويرى أنّه (بارع) إذ انتزع (بمحض) قوّته شيئاً من (فم الأسد) ثم يتصرّف على هذا الأساس في مواجهة كلّ شيء وتغدو الدنيا في عينيه وكأنّها ميدان يتناهبه الأقوياء، وينسحق فيه الضعفاء فيمشي خطوات حتى إذا اطمأن إلى هذا الوضع الخاطئ جاءته الكوارث لتؤكّد له وللآخرين سوء معتقدهم وبأنّ أي إنسان لا يستطيع بمعزل عن القدرة العليا أن ينال ذرة من النفع..!
ـ التقدير الإلهي وراء الأحداث:
نعم الإنسان يريد ويحاول ويسعى، ولكن بلوغ تحقيق الأمر لا يتم ما لم يكن هناك من الله تعالى تدخل وإذن، لأنّه جلّ وعلا المتحكّم الأوحد بوقائع الكون وأشيائه وجميع قوانينه.
فلو أردت قتل زيد من الناس فتوفر لديك السلاح وأمكنك الترصّد فإنّك لن تستطيع ضمان حضور الغريم في الوقت الملائم ولن تستطيع ضمان دقة إطلاق النار عليه ولن تستطيع ضمان موته بتلك الضربة..!
ولكن قتل زيد عندما يحصل لا يعني تبرؤ القاتل من التبعة، فهو اعتزم الفعل وحاوله وأنجز على يديه.. فإن تبقى الروح في الحياة أو أن تغادرها أمر لا يتعلّق البتة بقرار من مخلوق وإنّما هو رهن مشيئة الخالق حصراً، وكلّ ما يحاوله الإنسان هو أن يوظّف استعداداته لتحقيق أمر ما فإن حصل أو لم يحصل هو خاضع كلّياً لحكمة العليم الخبير، ولو تصوّرنا أنّ المخلوق يملك بلا تدخّل الربّ وإرادته إهلاك مَن يشاء لكان عالمنا على هذا الأساس يزخر بمالكين للأفعال الكونية العليا يمكن اعتبارهم آلهة..!
ومَن هو الله الذي يرتكن إليه المؤمن..؟
إنّه (بكلّ شيءٍ عليم) هو خالق الكائنات كلّها ومدبّر كلّ شؤونها ومالك الوجد المطلق الذي لا يغيب عن علمه شيء مهما استدق وضؤل وتوارى وابتعد، ولأنّه العليم الأوحد على صعيد الكون كلّه، فهو إذن الكافي لمن اعتمد عليه المغني لمن تعامل معه بكلّ الاستسلام والانقياد والرضى المنير لقلب وثق بعلو تدبيره..!
غير أنّ هناك أُناساً يفكّرون بعيداً عن الحقائق الكونية العليا وبمعزل عن نور الله فيحسبون في أحسن أحوالهم أنّ الخير يتحقق ويأتي من عند الله أمّا الشرّ فيتحقق ويأتي (بفعل قدرة أخرى) وهم بذلك كمن لا يكاد يفهم حقائق الكون وقوانينه، يقول تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) (النساء/ 78).
- التفريط سبب المصيبة:
يقول تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) (النساء/ 79).. وهذا لا يتعارض مع أنّ (كلّ من عند الله) فهو جلّ شأنه قد شرّع سبيل الخير وأعان عليه وحذّر من سبيل الشرّ وعواقبه، وتكفّل مَن اتبع منهجه المقرر وتوجيهات رسوله أن يظفر بطيّبات الخير ويسلم من سيئات الشرّ، ومَن لا يلتزم بذلك لن ينجو من المعاناة، فالماسك بالقوانين الكلّية المتحكّم في فعلها ومجالات سريانها وكلّ آثارها هو الله تعالى، ولا يتعارض مع هذا الأمر كون المرء يصيبه السوء بسبب تفريطه، فالمفرط كما يبدو ليس هو أكثر من أداة لها مقدار من الإرادة والاختيار تتحمل به تبعات ما نصنع..!
وفي القرآن مثل وقع للمسلمين يوم أحد، يقول تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) (آل عمران/ 165-167).
في منتصف معركة أُحد بدأ حال المسلمين في التفوّق وحيازة النصر ينقلب إلى انكسار وهزيمة فقالوا مستغربين: كيف يحصل هذا..؟! إنّه بسبب ترك الرُّماة لمواقعهم فوق الجبل متجاهلين تحذير النبيّ (ص) في أن يظلّوا في ذلك المكان حتى لا ينكشف ظهر المسلمين، فلقد تراءى لهم أنّ القتال قد حسم بدحر المشركين ولقد رأوا الساحة مُلأى بالغنائم فهرعوا إلى التقاطها تاركين الموضع الحساس فوق الجبل الذي شدد الرسول على أن لا يبرحوه..!
وعندئذ حدثت الثغرة فاندفع إليها جمع مشرك يقوده خالد وراح خلال وقت قصير يوقع بالمسلمين خسائر فادحة.. فهو قانون لابدّ أن يسري، يوم بدر ذاق المسلمون طعم النصر العظيم بسبب التزامهم الدقيق الكامل بتوجيهات قائدهم (ص)، وفي النصف الأوّل من معركة أُحد نالوا كذلك نصراً كاد يحسم المعركة لصالحهم بسبب الالتزام بالتوجيهات النبويّة، أمّا بعد التصرّف المعاكس لهذه التوجيهات فثمة خلل لابدّ من تلقي تبعاته..!
وفي أية حال فالله تعالى متفرّد بقدرته، ولو أراد للمسلمين الانتصار بدون سبب لفعل ولكنّه أوجد قوانين الأسباب لحكمة عليا، ومن هنا يبدو أنّ كلّ شيء يحصل بأمر الله تعالى، ويبدو أيضاً أنّ البلاء مجال يتجلّى فيه الإيمان وعمقه بأبهى الصور ويتعرى فيه النفاق وزيفه بأخزى مساوئه وأقبحها..!
وقد يقال هنا: ما دام الأخذ بالأسباب هو العامل الأهم فقد يتساوى الانتفاع به لدى المسلمين وأعدائهم وربما ترجّح كفة الأعداء عند أخذهم بالأسباب بشكل متفوّق..!
لا.. فبركة الأخذ بالأسباب في الجانب الإسلامي ذات نفع عظيم لأنّه مؤيد من قبل الله تعالى، فقل لي بربّك: في معركة بدر المسلمون أخذوا بالأسباب على ضآلة وجودها والمشركون أخذوا بالأسباب على كثرة توفرها، فلمَن تحقق النصر..؟ ثلاثمئة رجل يزيدون قليلاً هم المسلمون قد استطاعوا بفضل انصياعهم لأمر الله وتمسكهم بتوجيهات الرسول أن يدحروا عدوهم البالغ ثلاثة أمثال عددهم والمتفوّق عليهم أيضاً في مقدار السيوف والرماح والنبال والركائب..!
فالوضع الإيماني حسّاس ودقيق لا يحتمل أدنى خلل حتى لو كان شيئاً من الاعتقاد الخفي ممزوجاً بانحراف التصوّر، وانعكاساته لابدّ أن تظهر سريعاً بكلّ قوّة، فإمّا التزام كامل بمفردات المنهج الإلهي ومتطلّباتها يقود إلى ثمار طيبة وإمّا التزام مشوب وغير كامل بهذا المنهج ومتطلّباته يقود إلى مرِّ العواقب..!
ونحن نستطيع أن نبصر كون التفريط سبب المصيبة، أمّا أطراف حكمة الربّ العليم الخبير التي تتحصّل من وراء ذلك في كلّ جهة وقوم وإنسان وحالة وزمان فهي أبعد من قدرتنا على الاستقصاء..!
- التفاضل بين الناس مقصود:
تفاوت البشر فيما لديهم من عطاء الله شأن ملحوظ في الأرزاق والصفات والمزايا والأضداد والألوان مصداقاً لقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنعام/ 165).
تقسيم العطاء بزيادة هنا ونقص هناك وبما يحدثه من رفع وخفض وتفاعل ينجلي عن آثار كثيرة، أمر قصده الخلّاق العظيم ليحصل به الابتلاء الأرضي، ويظهر من خلاله شكر الغني أو كفره وصبر المحتاج أو سخطه وهكذا، وبالتالي يكون الجزاء الأخروي فوزاً بغفران المنعم ورحمته أو خساراً بعقاب المنتقم وعذابه..!
والبعض يتضايق من مسألة التفاضل بين الخلائق وكأنّه يريد من الخالق سبحانه أن يجري الأمور وفق تفكيره هو وبمراعاة ما يحبّ ويكره، أو في أحسن الأحوال فإنّه يفكّر بالعدل الإلهي ثم يتساءل محتازاً: كيف جرى ذلك التفاوت العظيم أحياناً.. ؟! وكأنّه قادر على أن (يحيط) بأفعال الله تعالى كلّها وقادر على أن يلحظ مجالات سريانها (بالكامل) وقادر على أن يقف على (كلّ) آفاق نتائجها فيبيح لنفسه إذن التعامل معها بصفة (الحكَم)..!
وجود التفاضل بين الناس جدّاً مهم في عملية الابتلاء الأرضي وهو متوافق تماماً مع مختلف أوضاع الحياة في كوكبنا، بل إنّه يتضافر معها لتحصيل المقاصد الإلهية من الاستخلاف البشري فوق الأرض، فلو كان بنو الإنسان جميعهم على نمط واحد ينالون قسطاً من عطاء الله متساوياً لتعطّل الجزء الأكبر من الابتلاء بجميع تفاعلاته ولما استجليت خفايا كلّ امرئ ولما ظهرت دواخل الصدور على صعيد الواقع بكلّ حقيقتها..!
صحيح أنّ الله تعالى سابق بعلمه في التعرّف على حقيقة هذا وذاك وهو ليس محتاجاً إلى تهيئة الأوضاع لاستجلاء مكامن النفوس ولكنّه جلّ وعلا أراد أن يبتلي أوّلاً ثم يجازي من بعد وأن يتم كلّ هذا في نطاق معلن، وهو جلّ شأنه فعال لما يريد ولا يسأل عما يبتغيه..!
- الابتلاء بالمصائب والنِّعَم:
ابتلاء له كفتان بهما يستكمل أغراضه، فقيم المرء الغائرة في الأعماق لا تظهر كلّها وبتمام حقيقتها إن لم يوزن صاحبها بكفتي الابتلاء فيذاق المرّ والطيّب لينظر من ثمّ مدى صبره ومبلغ شكره ويستجلّى عمق ارتباطه بالكون ويستوضح فهمه لحقائق الأشياء وأي قيمة يمحضها لكلّ حقيقة وكيف يتعامل معها وبالتالي ليتبيّن مقدار استقامته على الحقّ أو ميله إلى الباطل..!
يقول تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (العنكبوت/ 57).. يُبتلى المرء بالضرّ فيعرف مقدار احتماله ويظهر مدى صبره وهو يعاني، ويختبر وثوقه في تصاريف الله تعالى، وعندئذ يتبدؤ رجاؤه في لطف الربّ ورحمته أو يتكشّف قنوطه فيعبّر عن رداءة الإيمان والانحدار إلى الخسران..!
والابتلاء بالضرّ مفهوم إجمالاً ويغلب أن يقابل بالانتباه والثبات حتى تنقشع غيوم الشدة، أمّا أن يبتلي المرء بالخير فهنا الامتحان الملتبس، فالكثيرون وهم ينغمسون في طيّبات الخير لا يحسبون أنّهم مبتلون ولذا تتراخى أعصابهم حد غياب اليقظة والحذر ويرتكبون أغلظ الأخطاء وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً..!
كثيرون هم الذين ينهش أجسادهم الداء ويصبرون على تجرّع أقسى آلامه يعمر قلوبهم الرضا بقدر الله وحُسن الرجاء وانتظار الفرج، أمّا المتنعمون بتوفر الصحّة وعنفوانها فقليل منهم المتصرّف بقوّته بعيداً عن الجموح والطغيان المستخدم لها ضمن إطار الحقّ ومتطلباته..!
غير أنّ هم المؤمن الحقّ وهو يتقلّب على نار المصيبة وفي رخاء النِعَمة يجب أن ينصب دائماً على التماس رضى الله تعالى، وينبغي أن يستقر في ذهنه على الدوام أنّ كثرة الحطام الدنيوي عند البعض لا تعبّر عن كرامة نالها من عند المنعم سبحانه، وكذلك خواء اليد من هذا الحطام لا يدل على هوان، يقول تعالى: (فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلا) (الفجر/ 15-17).. فهو تشنيع بنظرة غير المؤمن لأنّها فاسدة..!
العبرة ليست بالمنع والعطاء ولكن بما يسفر عنه الابتلاء..!
- قانون ابتلاء الأُمّم والدول:
وليس الأفراد وحدهم يتعرّضون للابتلاء، وإنّما الغالب في حياة الأُمّم والدول أنّها تمرّ بمرحلتين أيضاً، تذوق في إحداهما مرارات الحاجة والضعف والشدائد، وبالأخرى تتنعّم بالوجدان والقوّة والرخاء، وقد تتقدّم هذه على تلك..!
يقول تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام/ 43-45).
الابتلاء بالشدة كما يفترض يوقظ المشاعر العميقة ويخفف من قسوة القلوب فيهرع أصحابها إلى خالقهم المهيمن الأوحد متضرعين طلباً للعفو والعون والرحمة، أمّا إن لم ينفع معهم هذا اللون الابتلائي فعندئذ تتبدّل أحوالهم نحو السراء لعلّهم بالنِعَمة ـ وهي ابتلاء آخر ـ يتحسّسون فعل القدرة العليا وهي تنقلهم من حل يبدو منغلقاً بكرباته إلى حال مغاير تماماً تذكر طيباته بالإعجاز الإلهي وهو يصنع معهم العجائب..!
القلوب القاسية قد تستحيا بنوالي الآلام وضغط البأساء، فإن لم تنتبه فلا يرجى لها بعدئذ استيقاظاً بالنِعَمة، ولكن العليم الخبير عندما يكشف الغمة ويمنح النّعماء يريد أن يقيم على الناس كامل حجته فلا يقول بعدها معترض إنّه ابتلي بالضرّ ولم يبتلِ بالخير الذي ربما كان معه (أجدى)..!
وماذا يحصل لو أنّ القوم آمنوا..؟
يقول تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف/ 96).. ففي حالة الإيمان والتقوى يفيض الخالق الكريم بركاته على الناس تتفجّر خيرات في الأرض وتهبط خيرات من السماء بشكل عام مطلق يتناسب مع أحوالهم في الزمان الذي يعيشون فيه ويتناسب مع المستويات البشرية في ذلك الوقت وبما يحقق مقاصد الحكمة العليا بالشكل الواسع المترابط..!
قانون ابتلاء الأُمّم والدول في القديم والحديث واللاحق واسع الإطار مليء بالتفاصيل مزدحم بالألوان، المهم فيه هو الهدف الكلّي للقانون، إنّه الجدير بالتأمّل والاستحضار، أمّا الجزئيات فإنّها قد تلهي عنه وقد تضل عن مراميه، فلنتعامل معه كما فعل القرآن عندما استعرض نطاق القانون وشواهده بكلمات معدودة، وهكذا هو القرآن في كلّ شأنه يلخص الأحداث الجسام الكثيرة ببضع آيات ـ كما في سورة الفيل ـ حفاظاً على لُب الموضوع وجوهره وإبعاداً للإنسان المستهدي عن الغرق في التفاصيل والتشعّبات!.►
المصدر: كتاب حقيقة الابتلاء الدنيوي
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق