• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الحكمة مطلب إنساني

محمّد العربي الخطّابي

الحكمة مطلب إنساني

إنّ حاجة الإنسان إلى الحكمة نابعةٌ من حاجته إلى الاجتماع والتعاون لتنظيم المعاش وتقسيم العمل. وقد لا يبدو هذا القول من البديهيات إذا نحن افترضنا أنّ الإنسان فردي بالطبع عدواني بالغريزة، وأنّ ميله إلى الاجتماع إنّما تُمليه الضرورة والحاجة، فإنّ كلّ فرد من أفراد البشر لو أمكنه مطاوعة طبعه ومسايرةُ غرائزه والاستغناء بما تحت يده لاختار أن يعيش وحده بعيداً عن بني جنسه حتى ولو جمعه وإيّاهم صعيدٌ واحد، لكن لمّا كان الإنسان حيواناً ناطقاً – أي عاقلاً مميّزاً – اضطُرّ إلى الاجتماع ومال إلى التعاون، أي أنّه رَضي بقهر غرائزه العدوانية ليحصل في مقابل هذا التنازل على مزايا مادّية ومعنوية تنفعه ولا تضرُّ غيرَه. ولمّا كان الرضا التامّ بهذا التبادل المنفعي ممتِعاً، وكانت عواملُ القوّة والضعف من الأمور الطبيعية الملازمة للاجتماع الإنساني بحيث تتدخّل في تصريف مصير الأفراد والجماعات، فقد تعيّن بالضرورة أن يقوم بين الناس من أنفسهم ميزانٌ معنوي يفصل بين الحقّ والباطل، ويُنبّه إلى الخطأ والصواب، ويُرشد إلى القصد والاعتدال من غير أن يكون فصله وخطابه وإرشادُه ملزماً – أي قاهراً – في كلّ الأحوال، هذا الميزان هو الذي يُسمّيه الناس بالحكمة.

فالحكمة إمام عاقلٌ يملك سلطاناً معنوياً يسري فعله على الناس ببطءٍ شديد. ومع أنّ هذا الإمام العاقل يفتقر إلى سلطة التنفيذ السريع والهيمنة الشاملة على عقول الناس فإنّه يقف في كلّ عصرٍ وزمان وراء الشرائع والقوانين والمواضعات الخُلقية والأعراف الاجتماعية يُغذّيها بنُصحه، ويُوجّهها بمعارفه، ويُضفي عليها صفةَ الإلزام والقبول العام تحت نظر الدولة والسلطان.

كانت الحكمةُ في مختلف العصور تسري بين الناس في مجتمعاتهم محمولةً على أجنحةِ الشعر والحكايات والأساطير والأمثال السائرة المستمدّة من التجارب والمليئة بالعِبر، ثمّ ارتقت الحكمة إلى أُفُق التفكير المنهجي فنشأت الفلسفة بمدارسها المتعدّدة ومذاهبها المختلفة.

زعم أفلاطون أنّ الدهشة هي أصل الفلسفة، وزعم أرسطو أنّ التعجُّب هو الذي دفع الناس إلى التفلسُف، وهما قولان إنّما يراد بهما تبسيطُ الأمور، فإنّ الدهشة والتعجُّب إنما يكونان إيجابيان حينما يدفعان إلى التفكير الذي يثير في الذهن أسئلةً لا مناص من البحث لها أنّ أجوبة، والأجوبة نفسها تنقلب إلى أسئلة... وهكذا إلى ما لا نهاية. والمعرفة الفلسفية كلّها معتمدةٌ على هذا التداخل والتسلسل في طرح الأسئلة ومحاولة الجواب عنها: ما هو الوجود، المحسوس منه والمعقول؟ لماذا وجدت الأشياء ولم تبقَ في فضاء العدم، وماذا كان قبلَ وجودها؟ ثمّ ما هو العدم؟ والطبيعة ما هي، وما الزمان وما المكان؟ وعلى هذا يمكن أن يقال أيضاً إنّ أصلَ الفلسفة هو خوفُ الإنسان من المجهول والتطلُّع بالتالي إلى معرفته.

عشرات الأسئلة تتزاحم وتتداخل وتؤدي كلُّها إلى السؤال الأهمّ، السؤال اللُّغز: مَن هو الإنسان، هذا الذي يرى الأشياء من حوله فتُصيبه الدهشة، ويُحيّرُه التعجّب ويُزعجهُ الخوف وتُضنيه الأسئلة فلا يَكاد يَنكشِف له حجابُ الحقيقة المُطلقة. وحينما يُثار السؤال عن ماهية الإنسان نفسه فإنّ طُرُقَ البحث تتشعّب وتتقاطع حتى لا تكاد تؤدّي إلى غايةٍ معلومة يستقرّ عندها اليقين، فَمِن محاولة معرفة المادّة والروح، والعقل والنفس، والجوهر والعَرَض، والبديهة والحَدْس، وأثر الحواس الباطنة والظاهرة في حصول العلم بالأشياء، إلى النّظر في حقيقة الأخلاق والسلوك وأصول القوانين الاجتماعية ومدى موافقتها للطبيعة والعقل أو مخالفتها لهما، وما يترتّب على ذلك من أخذٍ وردّ، وشكٍّ ويقين، واطمئنانٍ وحيرة.

حقّاً "إنّ حيرةَ الإنسان وإحساسه بالضياع يدفعانه إلى السؤال عن نفسه"، هذا ما قاله كارل ياسبرز، الذي يروى "أنّ الدهشة هي النزوعُ إلى المعرفة"، ويقول: "حينما تُعتريني الدهشةُ يَستيقظ وعيي بجهلي فأجِدُّ في السعي لأعلَم، لا من أجل إرضاء بعض المطالب العادية، بل لأعلم فقط".

فالفلسفة، إذن، تنشأُ من الرغبة العارمة في معرفة الأشياء الغامضة، ومسائل المعرفة لا نهاية لها، واليقين المطلق فيها مُتعذِّر، والأشياء التي يتوصّل فيها إلى نوعٍ من اليقين تدخل غالباً في مجال العلم التجريبي كالفيزياء والرياضيات وما إليها، هذا إذا لم يكن اليقين نوراً روحانياً مبثوثاً في قلوبٍ مطمئنةٍ بالإيمان.

وأمّا الحكمةُ فهي استقرار المعرفة المكتسبة في القلب، واطمئنان العقل إلى صواب أحكامه، والرضا بقيمة ما يُعلَم، والتسليم بامتناع اليقين فيما يُجهَلُ، والتصرُّف وَفْقَ ذلك مع النفس ومع الغير. يقول هواتهيد: "إنّ الحكمة هي الطريق الخاص الذي تحصُلُ به المعرفة، فهي متصلةٌ بطريقة تحصيل المعرفة ووجه استخدام تلك المعرفة لإضافة مزيدٍ من القيمة لتجاربنا المباشرة، فهذه السيطرة على المعرفة هي الحكمة، وهي أعظم حرّيةٍ صميمةٍ مُتاحةٍ لبني الإنسان".

 

المصدر: كتاب موسوعة التراث الفكري العربي الإسلامي/ الجزء الأوّل

ارسال التعليق

Top