• ٨ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٣٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإنسان بين الخير والشرّ

الإنسان بين الخير والشرّ
◄العبد الآبق عن مولاه أسير شهوة ورهين نزوة وقد خرج عن عبودية المطلق إلى حياة الذل والهوان وكبل نفسه بأغلال النزوغ والعصيان فلا يجد أمامه أسباب سعادته ولا يحصد من هجره عناصر راحته وقد ضيّق عليه الوسيع وجلب إلى رقبته مخالب تضيّق عليه الخناق وتصل بروحه إلى التراق. فلما وجد خطأ ما قد ظنه صواباً وخطأ ما قد حسبه سليماً عاد يدعو الناس لأمن ما يعيش ويجب إليهم كل طيش ولم يكفه ضلاله حتى اصطاد غيره بحباله وبدل أن يرعوي عن ديجوره صوّب للغير نباله فعليه سيئته وسيئة من عمل بعمله وسعاقب عقاب جرمه وجرم من وقع بزلله فلا ندم ينفع يومئذ النادم ولا طلب الصفح يدفع عنه ما هو إليه قادم (فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد) وأما النفس الزكية والروح التقية عند سلوكها سبيل الإيمان وسيرهما في درب الرحمن فقد كسرتا عنهما طوق الخنوع والإذلال وحطمتا قيود الغواية والضلال بالاستسلام لرب العالمين والانقياد للحق المبين فلا غشاوة على البصر ولا شائبة في البصيرة وسيحصد خيراً بما قدم وينال حسنا بما قد لزم. فروح وريحان وسابغ إحسان ورضوان من الله أكبر ونعم حب منه لا تحصر والحمد لله أوّلاً وآخرا.   أسباب وجود الإنسان: إنّ الله سبحانه لما خلق الكون ووضع سننه في مخلوقاته – جعل كل شيء تمت به الصلة إلى غيره من الأشياء. ومن ثمّ جعل لكل من هذه الأشياء نظاماً هو في الدقة والتنظيم والترتيب مثل غيره، فالذرة في تكوينها وترتيبها والعناصر الدقيقة الموجودة فيها رغم صغرها نجدها كالشمس في الدقة المحكمة والمتمشية على أساس منها. والإنسان هذا المخلوق العجيب خلقه من هذه السلسلة الكونية المترابطة لا ينفك عنها بحال من الأحوال. ولذلك فأنّه إن لم يوجد لا يوجد ذاك – أي الكون – وإن لم يوجد الكون لا يوجد الإنسان كل واحد منهما قائم وجوده على الآخر إن صح هذا الوصف. وإن كان العلماء عند تعريفهم للكون لا يفصلون الإنسان عن بقية المخلوقات أو عن بقية عناصر الكون – اذ انّه من جملة العناصر التي تسمى بالكون وهو أهم عنصر من هذا العناصر الكونية بل انّ كل تلك ذليلة لخدمته أسيرة لمتطلباته وكل منهم يسعى لتحقيق رغباته المشروعة وحاجاته الهادفة وكل شيء إن هو إلا بخدمته وتحت إمرته بأسلوب مباشر أو غير مباشر من الوضع الذي خلقها الله عليه. قلنا انّ العناصر المتكون منها الكون من غير الإنسان في خدمة الإنسان كلها كما يشير الله سبحانه لهذه الحقيقة في محكم كتابه الكريم (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) (الملك/ 15)، (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ) (إبراهيم/ 32)، (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم/ 33-34). إذا فهمنا هذه الحقيقة فلابدّ إذن أن نتوصل إلى حقيقة مهمة أخرى وهي الغاية الكبرى التي خلق على أساسها الكون والحياة وهذه الحقيقة تتمثل بالتزام الإنسان سبيل الله الأوحد إلى النجاة والابتعاد عن السبل الأخرى الموضوعة. وتطبيق مستلزمات السلوك في ذلك السبيل بجد ودقة دائبة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56)، (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (الإسراء/ 23). من خلال هذه الحقيقة نتوصل إلى مفهوم مهم وهو دور التقوى ومهمتها في الكون والحياة من خلال وجودها في حياة الإنسان ودورها في تنظيم سيرة نحو الهدف المرسوم والمعين له.. بقي الآن علينا نحدد عناصر التقوى ومهامها والأهداف المتوخاة منها وكيف انها الطريق الوحيد التي توصل الإنسان إلى ما يصبو إليه من سعادة حقيقية ورفاه هادف.. 1-    معنى التقوى لغة: معنى التقوى مأخوذ من التوقي والاتقاء من الأشياء أي الاحتراز والتدرع بأمور تقي الإنسان من أشياء تضر به إذا لم يتق منها بأقاء. 2-    القوى تشريعياً: هي الاحتراز من سخط الله بالابتعاد عما يغضبه والاتباع لأوامره والانتهاء عن نواهيه والزام الإنسان نفسه سلوك الطريق التي حدّدها ورسمها له الله سبحانه من دون توقف في أثنائها أو إنحراف عنها أو إيجاد عقبات بها أو تحريض عليها لمنع السير فيها وفي – أيضاً – إيمان مستحكم في القلب ونهج معبّد للسلوك وانطلاق حتمي فيما يخطه الله ويعدده لعباده ونوره في قلوبهم ويده التي تسيّرهم نحو الأفضل والأكمل وهي كذلك – أمر فطري نابع من النفس الإنسانية وملازم للعناصر السليمة التي تنتج عن الكيان اللاإنساني وتتبلور من الوجود البشري. إلا انها قد تكون ناقصة في بعض الأوقات في تركيبها ووجودها نتيجة الفهم الخاطئ لمقدماتها الإيمانية ومقوماتها التشريعية والمصدر الذي تنبع منه أساليب السير في درب الحياة والتعايش معها إذ أنّ الغالبية العظمى من عبّاد الأصنام والمثلثة وغيرهم من عبدة غير الله بحجة أنها توصلهم إلى الله يعبدون هذه الأشياء نتيجة حياة التقوى في نفوسهم تلك التقوى غير المهذبة وغير المعتدلة. والتقوى هي كذلك العزيمة الصلبة التي تصدّ جماح النفس والسدّ الشامخ اتجاه تمردها وانحرافها في زحمة الحياة. والتقوى هي كما يعرّفها أمير المؤمنين (ع) وسيد المتقين قائلاً: "فأن تقوى الله مفتاح سداد وذخيرة معاد وعتق من كل ملكة ونجاة من كل هلكة، بها ينجح الطالب ينجو الهارب وتنال الرغائب". فهي إذن السداد الحتمي الذي تستقيم به شخصية الإنسان ويعتدل بها سلوكه ثمّ هي العدة المكينة التي يواجه بها الإنسان أهوال الحياة وصعاب يوم القيامة وهي كذلك منبع ينجح طلب الطالب وأمان وموضع استقرار كل هارب من صروف الدنيا والآمها – وهي أيضاً – المسار الصحيح الذي ينبغي على الإنسان سلوكه والتوغل فيه لأنّه سيفيض عليه بالخيرات والنعمات بما انّه ملائم للسنن وقوانينه الحتمية. 

المصدر: مجلة الفضيلة تنتصر/ العدد 7 لسنة 1405هـ

ارسال التعليق

Top