• ١٦ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٤ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

في جدل الغاية والعدالة والسعادة

وهيب سراي الدين

في جدل الغاية والعدالة والسعادة
◄إنّ كل شيء في هذا الوجود، سواء أكان فكرة أو مادة، يسعى إلى مثل أعلى له يجب أن يكوّنه، أو هدف أسمى يُصرّ أن يحققه، وبعد قطع مسافة من هذه الصيرورة، يصبح تقييم الشيء ذاته وسيلة لغاية أكمل، تكمن خلفه، وتصبح هي علة كونه تستخدم في سبيل الوصول إلى غاية أرفع منها، تقع مراكزها فيما وراء الغاية نفسها. أو بتعبير آخر، ما ورائية الغاية هذه التي تستهدفها هي، سر وجودها لدى الإنسان، وهي مبرر فلسفتها ومطمح تطلعها. إذاً، ماذا تكون هذه الغاية التي نسعى إليها في حياتنا الاجتماعية؟ نحن نعرف من خلال دراسة حركة التاريخ المجتمعي، على الصعيدين الفكري – النظري – والتطبيقي – العملي، أنّ غاية العدالة، بمحض مفاهيمها الجوهرية، قد التزمت بحياة الإنسان، وصاغت نفسها أداة لتنظيم مجتمعه وتطور وجوده، لتصل إلى ما تنشده على الدوام، وهي سعادة الإنسان وإقامة مجتمعه الإنساني البحت، ولكن لا يغرب عن بالنا أنّ ذلك لا يتم بسهولة، بل لا نصل إلى جزء من ذلك إلا بصعوبة ومشقة بالغتين، فلقد سلكت حركة العدالة في المجتمع الإنساني، ومازالت، من أجل إنجاز بعض المكاسب النسبية في مهماتها وأهدافها، طريقاً طويلة من النضال والكفاح المريرين عبر التاريخ، فقيمت الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تسود المجتمع البشري وتتحكم بإنسانه المنتج، فوسمتها بالظلم والجور وراحت تعمل على رفع وإزالة كل ما ينجم عنها من أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية وأخلاقية، تكافح من أجل ذلك بحرارة صوفية استمدتها من عقائدها ومبادئها الصارمة، فأعلنت بدافع من حتمية التاريخ الإنساني من خلال حركته التي لا تتوقف، أعلنت بطلان تركيبة الظلم الاجتماعي، ونادت بسيادة الحق والعدل والمساواة، حتى يتم توزيع الدخول على الأفراد كافة، كل فرد حسب استطاعته الإنتاجية، وقدرته العملية، وطاقته الفكرية، والدمج في طبقة اجتماعية واحدة متساوية في الحقوق والواجبات ومتكافئة في المساهمة بالإنتاج والخيرات على حد سواء. ولهذا فقد شن المصلحون الإنسانيون، والمفكرون الاجتماعيون، عبر القرون المديدة، أفكارهم وكفاحهم ضد نظام الرق قديماً، ثمّ زادوا في تكريس مفاهيم نضالهم ليعمقوها عمودياً وينشروها أفقياً لتكون في خدمة الشعب بكل فئاته. أجل، إننا نرى العالم اليوم يعيش، في ظل هيمنة نظام القطب الواحد، الذي انفلت خلسة عن مسار التاريخ، ليلقي على هذا العالم أزماته الإنسانية الخانقة الناتجة عن الامتيازات والتسلط والشوفينية والفوقية والتحكم بالمصير السياسي والاجتماعي للدول، وبالتالي لتكريس الاغتراب الخلقي والفكري والثقافي لدى الشعوب، الأمر الذي ضاعف الكفاح العدالي لدى المجتمع البشري ليقاوم هذا التعسف الطارئ الجديد، وهكذا أخذت العدالة نفسها تعري هذا التطرف في السلوك الدولي وتنادي أكثر فأكثر بنفي التناقضات الاجتماعية ومحاربة الأوضاع الدولية المنحرفة لتصل إلى مجتمع إنساني سليم وعادل وسوي، نهجه مستقيم واضح، وعلاقاته مبنية على الحق والعدل والمساواة، معتمدة العقل والعلم في تحقيق ذلك، ومن الطبيعي ستؤول كل هذه الأمور الصحية إلى خير الإنسان على سطح هذه الكرة الأرضية وإلى سعادته فرداً ومجتمعاً وفق النظام الذي اصطفته إرادة الحياة البشرية نفسها. ومن هنا تنطلق ثورة العدالة الاجتماعية هذه في المجتمع الإنساني من أجل تبديل البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية وما نتج عن نظام القطب الواحد، لتصب بعد التبديل في مصلحة التقدم وتحرير الإنسان من كل ألوان الاضطهاد والاستغلال، وإزالة العراقيل من أمام عجلة التطور العلمي والحضاري، إذاً لا غرو أن تجند كل القيم التقدمية والأفكار المتنورة الذكية والمناهج العقلية، في العالم، لتقوم بتنسيق العلاقات البشرية بالشكل الذي تتفتح فيه الروح الإنسانية، بديناميكية فاعلة، تكون حية مثمرة في صراع الإنسان الخالد مع نفسه ومجتمعه والطبيعة، ليصل بعد ذلك إلى الحياة اللائقة الكريمة المنفتحة على الحق والخير والجمال، والمرتكزة على العدل والحب والمساواة، والمنطلقة نحو العطاء في عالم القيم والأخلاق والإبداع، على سطح هذا الكوكب الأرضي الواحد. إذن نفهم أنّ جدل الغاية والعدالة ليس هذه الثورة في الأفكار والمخططات التطبيقية والإيديولوجية النظرية فحسب. بل كل هذه وتلك ما هي وسائل تعتمدها العدالة الاجتماعية لتصل إلى ذاتها الكامنة في (ما ورائيتها) – غايتها. التي هي سعادة الإنسان والمجتمع معاً. وهنا نصل إلى سؤال كبير: ما هي هذه السعادة؟ فإننا على ضوء ما تقدم نرى أنّ السعادة قد اتخذت في التقييم الحديث مفهوماً مغايراً لمفهومها في بقية المذاهب والفلسفات الأخرى. هذه المذاهب والفلسفات التي تحصرها في نوال الراحة واللذة والعيش الهنيء. بينما نرى أنّ السعادة في المفهوم (العدل) الحديث، قد أصبحت كلمة جامعة ذات مدلول واسع شامل في نظر الإنسان. فهي لديه جهد وعطاء في عالم المثل والقيم والأخلاق. وهو راية بيضاء ترفرف فوق المجتمع. وتشدّ أفراده بأواصر المحبة والإيثار. وهي، أيضاً، تطلع وتفاعل مع سائر عوامل الوجود وعناصر الطبيعة. إضافة إلى أنها إرادة خلاقة وعقل مبدع. ونزعة جامحة نحو الكمال. وبالتالي هي استشراف على هناءة الإنسان في عالمه المادي وعالمه الروحي معاً. وشعور مطلق بالطمأنينة النفسية والفكري والاجتماعية، من خلال نضاله العنيد. وإصراره على التقدّم والارتقاء. وهكذا نجد بوناً شاسعاً بين المعنى التقليدي للسعادة ومفهومها القديم في (اللذة)، وبين المعنى التقدمي الجديد لها. وفي الحقيقة نرى أنّ التاريخ يعلمنا أنّ المجتمعات التي اتجهت نحو مفهوم السعادة إلى حياة الترف والبذخ، قد تراخت وانهارت، لأنها أغفلت الجوهر الحقيقي للسعادة ذا الطابع المتجدد، الذي تتحوّل السعادة إلى التطور المتواصل. أي تصبح السعادة كناية عن جهد مستمر وخلق متواتر مع الزمن وتطلع لا ينتهي. يستهدف الأكمل في الوجود والحياة. نعم، هذه هي السعادة الحيّة التي تتجه إليها الإنسانية، بكل وسائلها التي تستعملها. وهذه هي العلاقة الجوهرية ما بين السعادة والإنسان، التي تقرّ بأنّ الإنسان السعيد هو الإنسان الحي الحرّ الخلاق في مجتمعه. الذي يعتبر أنّ له في الكون رسالة. ويقدّر أنّ الحياة مسؤولية.   المصدر: كتاب في معنى العمل

ارسال التعليق

Top