• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

دراسة القصة القرآنية

عبدالسلام أحمد الراغب

دراسة القصة القرآنية

نتناول في دراسة القصة عناصرها الفنية مثل الشخصيات، والأحداث، والحوار، والصراع، والمفاجأة، والحبكة.

لأنّ القصة لها خصوصيتها في أداء المعاني الدينية من خلال هذه العناصر الفنية، والدارس لها يراعي هذه "الخصوصية" بالإضافة إلى القيم التعبيرية والتصويرية والفنية، التي تساعدنا في دراسة "لغة" القصة وأسلوبها. والقصة في القرآن الكريم متميزة بموضوعها الديني، وطريقتها الفنية في عرض أحداثها وشخصياتها، ولكنها تحقّق "التشويق" و"الإثارة الفنية" شأنها في ذلك شأن القصة في الأدب، قد تشترك معها في بعض عناصرها الفنية، وفي تحقيق "التشويق" المطلوب من السرد القصصي، ولكنها تفترق عنها في منهجها وطريقتها وغايتها الدينية.

 

1-      الشخصيات:

ترتبط الشخصيات في القصة القرآنية بـ"الأحداث" الجارية، لتحقيق الغرض الديني من السرد القصصي.

والشخصيات شاملةٌ ومتنوعةٌ، تشمل الرجال والنساء. والرجال إما أنبياء وإما ملوك ووزراء مثل فرعون وهامان، وإما أشخاص عاديون، وهم كثيرون. والسمة البارزة في تصوير الشخصيات إهمال "التصوير الحسي" فلا يذكر الطول واللون أو الملامح الأخرى المميزة لكل شخصية. لأنّه لا يتفق مع "الغرض الديني" الذي هو غاية القصة في القرآن الكريم، وهذا هو المنهج الغالب في تصوير الشخصيات ولكننا قد نرى "إشارات" خاطفة للجانب الحسي في الشخصية، إن كان يخدم الغرض من السرد. فابنة شعيب قالت لأبيها في وصف موسى: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ) (القصص/ 26)، فقد ركزت على صفتين: فيه صفة حسية وهي "القوة، والأخرى "الأمانة" وهي صفة معنوية. كما أشار التعبير القرآني إلى لكنة في لسان موسى في قوله: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي) (طه/ 27-28).

وأشار أيضاً إلى قوة جسم طالوت في قوله: (قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) (البقرة/ 247).

كما وصف جمال يوسف، عن طريق الإيحاء لا التصريح. وذلك في قوله: (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (يوسف/ 31).

وأحياناً تهمل "الشخصيات" وتبرز "الأحداث" في القصة مثل مشاهد تدمير ثمود وعاد، أو لإبراز "العظة والاعتبار" في الحياة والموت كقوله تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ...) (البقرة/ 259).

وفي "قصص الأنبياء" تذكر أسماء شخصيات الرسل ولا تهمل لتحقيق التأثير الديني من خلال هذه النماذج الإنسانية المثالية. ولكن التركيز في قصص الأنبياء يكون على أفكار الدعوة، وما لاقاه الرسل من تكذيب واضطهاد وتشريد، وصبرهم على الأذى...

وتتحد شخصيات القصة في الدعوة إلى التوحيد، ونبذ عبادة غير الله، حتى تحقق القصة الغرض الديني، في التأكيد على وحدة الرسل والرسالات السماوية.

والشخصية مرتبطة بالأحداث، فإذا طالت القصة، وكثرت أحداثها، اتضحت معالم الشخصية بصورة أكبر، وإذا قصرت القصة، وقلت أحداثها فإنّ الأمر يكون عكس ما قلناه.

والقرآن الكريم يرسم شخصية موسى، بمعالم واضحة وسمات بيّنة، تدور كلها حول بأسه وشدته وقوته. نرى ذلك في مشهد مَن استغاثه من شيعتهِ، ووكزه للآخر، وفي مشهد أخذه برأس أخيه هارون وشدّه بعنف وقوة، ومشهد صحبته للرجل الصالح، واحتجاجه عليه دون أن ينتظر أن يخبره بسر تصرفاته.

وشخصية "نوح" قوية التحمل والصبر أو شديدة بشكل عام، ويتضح ذلك في قوة تحمله بأعباء الدعوة هذه المدة الطويلة، على الرغم من المحصول الضئيل الذي جناه، كما يتضح في دعائه على قومه بعد أن يئس منهم: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا) (نوح/ 26-27).

وشخصية "إبراهيم" تتسم بالحلم والهدوء والتسامح، وقوة المنطق والحجة. وقد تجلّى ذلك في أسلوب دعوته لقومه، وحواره مع أبيه، وطريقة خطابه لقومه بعد تحطيم الأصنام...

أمّا شخصية "يوسف" (ع) فقد رسمها القرآن الكريم بجوانبها الحسية والعقلية والعاطفية، وقد ظهرت هذه الملامح متدرّجة مع نمو الأحداث وتطورها فابتدأ بتصوير هذه الشخصية منذ كان صغير السن يقصّ على أبيه رؤياه، وقد اتضحت مواهبه، فقرّبه أبوه، وحسده إخوته.

وحين يكبر، تبرز فيه سمات العلم والحكمة والحصافة، فبدأ يتصرف تصرفاً يدلّ على هذه السمات في شخصيته، بالإضافة إلى "جمال صورته" إلى درجة الفتنة مما أوقع امرأة العزيز في حبه وإعجاب نسوة المدينة به. وهو مع ذلك كلّه رجل مستقيم وأمين وصادق، لم يخن سيده، حكيمٌ ينتهز الفرصة لتبليغ دعوته وتبرئة نفسه، كما أنه حصيف يعرف الطريق إلى غايته. ويتضح ذلك في حواره مع إخوته وطريقته في استقدام أخيه والاحتفاظ به، ثمّ في طريقته في إدارة شؤون الدولة والحكم، حتى تحقّق الرخاء المادي على يديه، ثمّ طاعته لوالديه، وبرّه لهما، وتسامحه مع إخوته وفوق ذلك كلّه طاعته لربه، واستقامته على شرعه، والطاعة والاستقامة أوصلتاه إلى هذا التمكين في الأرض.

وأما تصوير شخصية "المرأة" فإنّه لا يُعنى بوصفها الحسي، ولا يهتم بذكر اسمها أيضاً ما عدا مريم، لأنّ ذكرها بالاسم ينسجم مع الغرض الديني لتحقيق نسبة عيسى إليها، وتحقيق معجزة الله الخارقة من خلالها.

أما بقية "النساء" فيذكرن بأسماء أزواجهنّ مثل امرأة نوح، وامرأة لوط، وامرأة عمران، وامرأة فرعون، وإذا كانت "المرأة عذراء" اكتفي بذكر كلمة "امرأة" دون إضافة مثل: "بلقيس" عبر عنها بقوله: (امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) (النمل/ 23).

والقصة تعرض نماذج للمرأة، فهناك "المندفعة والمنحرفة" تقابلها هناك امرأة أخرى "ذات خفرٍ وحياءٍ"، حتى تتضح الفوارق بينهما، وتكونا نموذجين لطريقين وأسلوبين مختلفين.

فامرأة العزيز في قصة يوسف تمثّل المرأة بطيشها وانحرافها واندفاعها، وترفها وبذخها وسعيها لإشباع غرائزها. تقابلها امرأة أخرى في القصة القرآنية، وهي "ابنة" شعيب (ع)، التي تميزت بحيائها وأدبها، فجاءته تمشي على استحياء وقالت له: (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) (القصص/ 25). فالقصة القرآنية تصور طبيعة المرأة الأنثوية وما فيها من ضعف وانفعال وتهور أو خفز وحياء وأدب والتزام، والنساء يختلفن في هذه الطبيعة الأنثوية كمّاً ونوعاً ومقداراً.

وهناك شخصية المرأة المتدينة التي نذرت ما في بطنها محرراً وهي "امرأة عمران" وشخصية مريم أيضاً اتسمت بالعفاف والطهر والعبادة والتقوى...

وهكذا نلاحظ أنّ الشخصيات في القصة متباينة في فكرها وشعورها وسلوكها وطبيعتها ولكن القرآن الكريم لا يسلط الأضواء على لحظات الضعف والانحراف إلا بمقدار ما يخدم الوظيفة الدينية للسرد القصصي.

 

2-      الأحداث:

أحداث القصة مرتبطة بشخصياتها غالباً، والقرآن الكريم له طريقته الخاصة في عرض أحداث القصة. فهو لا يعرضها في مكان واحد، بل يقسمها إلى "حلقات"، فيعرض "الحلقة" المناسبة منها في السياق المتسق معها، تحقيقاً لغاية القرآن في هداية الإنسان ودعوته إلى الاستقامة على شرع الله. وهذه الغاية منه، تقتضي أن يخاطب "الإنسان" بأساليب شتى لإقناعه والتأثير فيه، فيعرض عليه الفكرة عرضاً مباشراً، ثمّ يدعمها بمشهد من مشاهد الطبيعة أو مشهد من قصص الأولين، أو بمشهد من مشاهد يوم القيامة...

وهكذا يجري التعبير في القرآن منوعاً في أساليبه الأدبية لتحقيق التأثير والإقناع في الإنسان المخاطب بهذا القرآن الكريم.

وهذه الحلقات القصصية المعروضة ليست من قبيل التكرار، وإنما هي طريقة فنية لعرض الفكرة والتأثير في المتلقي. ولو أنّ هذه الحلقات جمعت من السياقات أو الأنساق المختلفة، لكونت قصة متكاملة بأحداثها وشخصياتها وحوارها، ضمن نظام العلاقات التعبيرية والتصويرية والفكرية في النص القرآني.

فنحن لا نجد تكراراً في عرض القصة على كثرة عرضها في سور القرآن، لأنّ التنويع في اختيار الحلقات، ومشاهد كلّ حلقة، والتركيز على جانب معيّن في كلِّ حلقة، في طريقة عرضه وأدائه الفني كلّ ذلك يجعلها جديدة متناسقة مع السياق الواردة فيه. وقد يترك القرآن الكريم "فجوات فنية" بين المشاهد القصصية، ليقوم خيال القارئ بملئها واستدعائها أو استحضارها، لأنّها تكون حاضرة في ذهنه وإن لم تذكر في السرد أو التعبير.

ويعتمد تصوير الأحداث على عرض قضية "الإيمان" و"الكفر" منذ فجر البشرية. ويعاد عرض هذه القضية في كلِّ قصص القرآن الكريم، لأنّها هي القضية الأساسية فيه. فالبشرية تنحرف عن الفطرة، وتضل وتتيه وتكفر، فيرسل الله رسله لهداية الناس ولكنهم لا يستجيبون، وينكرون، ويستمر الرسل في دعوتهم، ويصر الكافرون على موقف الكفر والعناد، ويحاربون رسل الله حرباً مادية ومعنوية، فتكون المواجهة بين أهل الإيمان والكفر، فينصر الله رسله والمؤمنين، ويدمّر الكافرين. وتكاد هذه الأحداث تقع لكلِّ رسول مع قومه، والغاية من تصويرها على هذا النحو أن يوضّح للمشركين العرب ما جرى لأسلافهم المكذّبين من تدمير وهلاك، كما أنّ فيها "تطميناً" للرسول (ص) والمؤمنين معه بأنّ النصر لهم في النهاية.

ويتنوع تصوير الأحداث، فأحياناً تعرض سريعة موجزة في قصص مختلفة، لتحقيق غاية معينة في إثبات وحدة الرسل والرسالات. كما نجد ذلك في سورة "الصافات" حيث نرى مجموعة قصصية متوالية، عرضت بإيجاز شديد وسرعة خاطفة، لتحقيق أغراض دينية، وهي وحدة الرسل والرسالات وموقف الناس من دعوة الرسل، ثمّ نتائج التكذيب التدمير والهلاك. وذلك في قصة نوح وإبراهيم وإسماعيل وموسى وهارون وإلياس ولوط ويونس، وتنفرد قصة يونس بإيمان قومه، لتكون تطميناً للمؤمنين في النصر والتمكين.

وقد تعرض مطولة مفصلة كقصة موسى (ع) مع فرعون، لأنّها قريبة من عصر المخاطبين العرب أكثر من غيرها من ناحية، ولتحذير المسلمين من طبيعة اليهود ومكرهم وتآمرهم من ناحية أخرى.

كذلك قصة "إبراهيم (ع)" يفصّل فيها القرآن الكريم، لأنّ موقف الرسول (ص) من قومه العرب في دعوتهم للتوحيد ونبذ عبادة الأصنام هو موقف إبراهيم من قومه، ولأنّ العرب يعتبرون "إبراهيم" جدهم، فيكون عرض قصته من بدايتها إلى نهايتها توحي لهم بقصة حياتهم ومواقفهم وسلوكهم وعاقبتهم.

 

3-      الحوار:

وهو من العناصر الفنية المهمّة في تصوير الشخصيات، وتحريك الأحداث، وتأزيم الصراع، وبيان الفكرة، وتحقيق الهدف أو المغزى من القصة المسرودة.

والحوار يأتي على صور وأشكال فقد يكون حواراً "ذاتياً" كما نراه في قصة إبراهيم (ع) حين نظر في الليل المظلم وراح يتأمل هذا المشهد الكوني، متخذاً منه وسيلة لإقناع قومه وإقامة الحجة عليهم يقول تعالى: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (الأنعام/ 76-78).

وقد يكون الحوار بين "شخصين" كما في حوار إبراهيم مع أبيه وقومه قال تعالى: (إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الصافات/ 85-87).

فقد ركّز إبراهيم في حواره هنا على الألوهية الحقّة الجديرة بالعبادة، ثمّ استمر السرد القصصي الذي يتخلله "الحوار" الهادئ، الذي يبين عجز آلهتهم، وفساد عبادتهم ودعوتهم إلى عقيدة التوحيد.

وقد يكون الحوار بين "النبي وقومه" قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 59-62).

وقد يكون بين الشخصية والطير كما في قصة سليمان والهدهد، أو مع الشيطان كما في مشاهد الأتباع والمتبوعين يوم القيامة، حين يتخلى الشيطان عن أتباعه المهازيل، ويتركهم يواجهون مصيرهم في النار، ويتنصل من تحمّل المسؤولية في إغوائهم. أو بين الخالق والمخلوق، كالحوار مع الملائكة حول الإنسان وخلافته... أو بين مؤمن وكافر.

كما نرى ذلك في حوار المؤمن مع صاحب الجنتين، الذي بطر نعمة الله عليه واغتر بماله، فصارت هذه "المادة" عقيدة له وسلوكاً يقول تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا) (الكهف/ 32-35).

فالحوار متنوع، وله صور وأشكال مختلفة تحقّق الغرض منه في التأثير والإقناع. وقد اتسم الحوار بالتلقائية والعفوية والبعد عن التكلف، فهو ينطق الشخصيات بالحوار المناسب لها، حتى يكون "واقعياً" في تصويره وأدائه، فهو لا يحمل الشخصيات على كلام أو حوار لا ينسجم مع طبيعتها أو فكرها أو سلوكها، وإنما هو حوار طبيعي مصور ومكثّف للأفكار، لأنّ أسلوبه هو أسلوب القرآن ذاته في سموه ورقيّة وتهذيبه وإعجازه، فلا يهبط في ناحية ويسمو في أخرى كعادة الكتاب والقصصيين، وإنما يظل محافظاً على مستوى الأداء المعجز.

 

4-      الصراع:

وهو عنصر مرتبط بهدف القصة في هداية الإنسان ودعوته إلى الله، لذلك نجده يدور بين الخير والشر، أو الكفر والإيمان أو الحقّ والباطل، أو الاستقامة والانحراف، أو الفطرة والجنوح عنها.

فهو صراع واحد في طبيعته وغايته، وصورته ولكنه قد يتخذ "شكلاً ماديّاً" كصراع موسى وفرعون، وصراع طالوت وجالوت... أو "صراعاً نفسياً داخلياً" كما في مشهد إبراهيم (ع) وهو يتأمل النجوم. ويقوم الصراع بعملية الربط بين أحداث القصة وشخصياتها، والحوار الدائر بينها، ويستولي على ذلك كلّه، ثمّ يقوده نحو غايته المرسومة، في تحقيق المغزى الديني من القصة. فنلاحظ في قصة يوسف مثلاً كيف أنّ الصراع قام بدور أساسي في الربط بين يعقوب وأبنائه، وبين يوسف وامرأة العزيز، وما فيها من مشاهد ومفاجآت. وبين يوسف وإخوته وما في المشهد من إثارة ومفاجآت، وقد عرفهم وهم لا يعرفونه. فالصراع هو الذي أمسك بأحداث القصة وشخصياتها ووجهها في اتجاه "التأزّم" و"الإثارة" و"المفاجأة"، دون أن يشرد عن طبيعته أو حقيقته، التي تدور حول الخير والشر، أو الحقّ والباطل، أو الكفر والإيمان.

 

5-      المفاجأة:

وهو عنصر فني، يحقق التشويق والإثارة، وتتبع القصة القرآنية عدة طرق فنية لتحقيق عنصر "المفاجأة" للقارئ لتحريكه نحو الأحداث، وتشويقه لمتابعتها وإدراك ما فيها من حقائق وأسرار:

1-      فقد يكتم سر المفاجأة على البطل والنظارة، حتى يكشف لهم معاً وفي اللحظة نفسها، كما في قصة موسى مع العبد الصالح في سورة الكهف، حيث تتوالى مفاجآت العبد الصالح دون تبرير أو تعليل. وموقف موسى منها كموقفنا، لا نعلم سرها أو حقيقتها، حتى إننا لا نعلم شيئاً عمن يقوم بها فلا يذكر اسمه، أو مكانه، أو عصره سوى أنه ممّن يملك "علماً لدُنيّاً"، فيرتسم الغموض في هذا المقطع، ويغطيه كاملاً. ثمّ بعد ذلك يأخذ "السر" في الظهور، وتتجلّى الحكمة من وراء هذه الأفعال والتصرفات أو هذه المفاجآت، فتتضح الأمور بالنسبة لموسى (ع) والنظّارة أيضاً. يقول تعالى: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) (الكهف/ 79-82).

وهنا نلاحظ أنّ العبد الصالح يختفي مباشرة بعد إبراز "الحكمة" وراء أفعاله، وكأن الهدف هو إبراز هذه الحكمة الأساسية أو إظهار جانب منها، لا كلّها وقد تحقق المغزى الديني من خلال هذا المقدار المكشوف من عالم الغيب المستور.

2-      ومرة يكشف السر للنظّارة ويحجب عن أبطال القصة، فيتحركون ويتصرفون وهم لا يعرفون السر، وأغلب ذلك يكون في سياق السخرية، حتى يظلّ النظارة يسخرون من تصرفاتهم وأعمالهم.

وهذا النموذج نراه في قصة أصحاب الجنة، الذين أقسموا على حرمان الفقراء والمساكين من حقوقهم فيها، فطاف عليها طائف من السماء فأحرقها، ولكن أبطال القصة هؤلاء لا يعرفون ما حلّ بها، فانطلقوا في الصباح الباكر يتآمرون ويتحادثون، ويتهامسون، والجنة خاوية محروقة، حتى انكشف السر أخيراً حين رأوها قد أحرقت ودمرت فقالوا: (إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (القلم/ 26-27).

والمشاهد أو القارئ يتابع هؤلاء في تآمرهم سراً، وفي خطواتهم الوئيدة وحديثهم الهامس، وهم يمنّون أنفسهم بجني المحصول الوفير، وحرمان الفقير وهو يحبس أنفاسه من الضحك من السخرية والتهكم على حركاتهم وتصرفاتهم.

3-      ومرةً يكشف بعض السر للنظّارة، وهو خافٍ عن البطل في موضع، وخافٍ عن النظارة والبطل في موضع آخر "كقصة عرش بلقيس" الذي عرفنا نحن أنه جيء به إلى سليمان (ع)، وبلقيس لا تعلم ذلك، ولكن مفاجأة الصرح الممرّد من قوارير خفي علينا وعليها معاً حتى فوجئنا بسره معها قال تعالى: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ) (النمل/ 44).

4-      ومرة لا يكون هناك سرّ بل تواجه المفاجأة البطل والنظّارة معاً، كمفاجأة مريم بالملك في هيئة رجل، فقالت له: (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) (مريم/ 18). كما فوجئت أيضاً بـ"المخاض" يأتيها فألجأها إلى جذع النخلة، فتمنّت حينئذ الموت على الحياة من شدة الأهوال، والمواقف المتوقعة. (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) (مريم/ 23).

 

6-     الحبكة:

والمراد بها طريقة "عرض الأحداث" وهي تجري على الشكل التالي:

1-      فقد يعتمد السرد القصصي على مقدمة تسبقها تكون فاتحة لعرض الأحداث بعد ذلك والتفصيل فيها، كقصة يوسف (ع) التي تبدأ بـ"رؤية الحلم" يقصّه يوسف على أبيه، ثمّ تتوالى أحداث القصة في حبكة قصصية محكمة، تفسر هذا "الحلم" أو "الرؤية" فتكون النهاية للقصة تأكيداً أو تفسيراً لبدايتها.

فكأنّ "البداية" هي بمثابة "بداية الصراع" ونموه، ليبلغ "ذروته" في بيت العزيز، ثمّ تبدأ الأحداث بالاتجاه نحو "الحل" أو الخاتمة، التي كانت موجزة في "مقدمتها" الغامضة، فكانت أحداث القصة كشفاً لها، وتوضيحاً وتفسيراً لتلك الرؤيا.

وكقصة "أهل الكهف" التي تعتمد على بداية موجزة، ثمّ تأتي تفصيلات الأحداث متوالية مشوقة. فتبدأ القصة بقوله: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) (الكهف/ 9-12).

ثمّ تأتي الأحداث بعد ذلك مفصّلة تشاورهم قبل دخول الكهف، ونومهم فيه ثمّ يقظتهم، وإرسالهم أحدهم ليشتري لهم طعاماً، واكتشاف أمرهم وعودتهم وموتهم في الكهف وبناء المسجد، واختلاف الناس فيهم...

2-     ومرة تذكر نهاية القصة ومغزاها، ثمّ تبدأ القصة بعرض الأحداث من أوّلها ثمّ تسير أحداثها في نمو مطّرد، فكأن هذه المقدمة لها تعدّ تمهيداً مشوقاً لسرد أحداثها مثال ذلك قصة موسى في سورة القصص، تبدأ بقوله: (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا...) (القصص/ 3-4). ثمّ تعرض القصة مولد موسى ونشأته ورضاعته، وبلوغه أشدّه، وقتله المصري والخروج من مصر... إلخ.

3-      وقد تذكر القصة مباشرة بلا مقدمة، كقصة مريم، وقصة سليمان مع النمل والهدهد وبلقيس.

4-      ومرّة تعرض القصة على شكل "تمثيلية" فتنساب أحداثها متوالية على لسان أبطالها، كما نرى ذلك في قصة إبراهيم وإسماعيل في قوله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة/ 127).

ارسال التعليق

Top