• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حول «حقوق الإنسان الكونية»

منير شفيق

حول «حقوق الإنسان الكونية»

منظمة «هيومن رايتس ووتش» الحقوقية الدولية زجت بأنفها في النقاش الدائر داخل المجلس الوطني التأسيسي في تونس حول مشروع الدستور الجديد، وهو تدخل لم نسمع بمثله بالنسبة لعدد من الدول كالولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا أو فرنسا أو الكيان الصهيوني؛ من حيث مطالبتها بإحداث تعديلات في دساتيرها، أو في أعرافها الدستورية، أو في التقاليد العملية الملزمة التي تطبق منذ مئات السنين، من دون أن يصدر بشأنها بند دستوري أو عُرف دستوري.
توضيح: الفقرة الأخيرة المتعلقة بالدول التي استعاضت عن الدستور بأعراف وتقاليد تقوم مقام الدستور هي مثل بريطانيا والكيان الصهيوني؛ الأمر الذي يوجب معاملة تلك الأعراف والتقاليد كما تعامل بنود الدساتير المقرّرة، من جهة التدخل في نقدها أو المطالبة بإحداث تغيير فيها، وذلك إذا أُريد التدخل بالقضايا الدستورية.
«هيومن رايتس ووتش» في تعاملها مع الدول الغربية، ولا سيما الكيان الصهيوني، تطبق معايير مزدوجة أحياناً بصورة صارخة، وأحياناً من حيث الشدة والتخفيف، وذلك عندما يتعلق بما يُرتكب من انتهاكات لحقوق الإنسان، أو جرائم حرب أو إبادة أو تمييز عنصري أو ديني أو عرقي، ودعك من الاستيطان والتهجير واغتصاب الأرض!
اشتهر أيام الحملات الغربية على الدول الاشتراكية «كاريكاتير» يعبّر عن الفرق بين «النقد والنقد الذاتي»؛ وذلك بتصوير رجل يمارس النقد الذاتي (ويرمز للحزب أو الدولة) ممسكاً ببخاخ عطر يرش به على وجهه، أما النقد فيُصوّر ذلك الرجل نفسه وهو يمارسه ضدّ الآخر المستضعف أو الخصم، ممسكاً بخرطوم ماء كالذي يستخدمه رجال الإطفاء، وقد ركزه على الضحية تركيزاً جرفها جرفاً حتى السحق الكامل.
«هيومن رايتس ووتش» تفعل ذلك تماماً، فعندما توجه نقداً لدولة غربية أو للكيان الصهيوني يأتي مخففاً إلى الحد الأدنى بما يشبه فعل بخاخ العطر! أما عندما توجه النقد لدولة عربية أو إسلامية أو عالم ثالثية، أو طرف يُعتبر عدواً للكيان الصهيوني أو أمريكا أو جهة مغضوباً عليها غربياً صهيونياً، يأتي النقد مشدداً إلى الحد الأقصى بما يشبه فعل خرطوم الماء الذي يستخدمه رجل الإطفاء!
هل سبق لـ»هيومن رايتس ووتش» أن انتقدت وطالبت بريطانيا مثلاً كيف لا يسمح عُرفها الدستوري بالوصول إلى رئاسة الوزراء لمسيحي كاثوليكي، ودعك من رأس الدولة؟! وقد شهدنا مؤخراً توني بلير لا يجرؤ على إعلان تحوّله من الكنيسة الكاثوليكية إلاّ بعد أن استقال من رئاسة الوزراء.
وهل سبق لـ»هيومن رايتس ووتش» أن طالبت الولايات المتحدة الأمريكية بأن تدين الحملة شبه الإجماعية التي وجهت إلى باراك أوباما؛ باعتباره مسلماً متخفياً، فيما راح أوباما يكرّر النكران، ويواظب على حضور الصلاة في الكنيسة البروتستانتية؛ مما يعني أن المسلمين في الولايات المتحدة لا يحق لهم الوصول إلى الرئاسة؟!!
كل الدول الغربية الملكية وغير الملكية لا تسمح باختراق «عرفها الدستوري»، حتى لو كان لديها الدستور أن يأتي الرئيس أو رئيس الوزراء من غير المذهب الكنسي أو الدين السائد، فعندما لا ينصّ الدستور على وجوب ذلك، لا يعني أن التطبيق يسمح بغير ما هو سائد تاريخياً بلا شذوذ.
وبهذا نكون أمام نفاق صارخ حين يقال إن النص على دين رئيس الدولة في بلد غير غربي يشكل تمييزاً، كما فعلت «هيومن رايتس ووتش» مع مشروع الدستور التونسي الجديد؛ وذلك حين نصّ الفصل 46 على ضرورة أن يكون رئيس الجمهورية مسلماً، إذ اعتبرت ذلك «تمييزاً بين المواطنين على أساس الديانة»!
عيب يا «هيومن رايتس ووتش» هذا التدخل وهذه الازدواجية! حين تسكتين عن مطالبة الكيان الصهيوني من العالم ومن الفلسطينيين الاعتراف بدولتهم، باعتبارها يهودية ودولة يهودية فقط؛ أي ليس فقط اشتراط يهودية رأس الدولة أو رئيس وزرائها، بل حتى مواطنتها.
و»هيومن رايتس ووتش» لم تعترض على الكيان الصهيوني حين اقتسم الصلاة بين اليهود والمسلمين في الحرم الإبراهيمي، وذلك على الرغم من صفته الاحتلالية الاستيطانية أيضاً! وهو الآن في صدد فعل الأمر نفسه في المسجد الأقصى.
هذا ناهيك عن أن «هيومن رايتس ووتش» لا تطالب بإدانة قادة الكيان الصهيوني بما يمارسونه من جرائم إبادة وجرائم حرب، وجرائم استيطان أرض الغير، فهذه كلها تتنزل إلى اعتبارها مخالفات أو انتهاكات لحقوق الإنسان ترشّ ببخاخ العطر!
«هيومن رايتس ووتش» ذهبت من بين ما ذهبت للتدخل فيه إلى التحذير من أن «عدم اعتماد مرجعية حقوق الإنسان الكونية في الدستور، يعتبر إخلالاً واضحاً بالقانون الدولي، ويعطي صورة سيئة عن تونس لدى الرأي العام الدولي»! وقد حذرت -أو بالأصح هددت- من أن «هذا الأمر قد يسمح بمساءلة تونس على المستوى الدولي مستقبلاً»!
لا حاجة إلى إحراج «هيومن رايتس ووتش» في سؤالها إن كانت طالبت أوروبا وأمريكا والكيان الصهيوني بإدراج «مرجعية حقوق الإنسان الكونية» في الدساتير والأعراف الدستورية. طبعاً لا أحد فعل ذلك! و»هيومن رايتس ووتش» تريد أن يكون الدستور التونسي الأول في العالم، أو ربما بعد الدستور المصري، بإدراج هذه المرجعية بنداً في الدستور.
ثم لم تحدد «هيومن رايتس ووتش»، كما لم يفعل الذين يطالبون محلياً بإدراج هذه المرجعية في الدستور التونسي، ما هي هذه المرجعية تفصيلاً؟ لأن المعنيين هنا لا يستطيعون أن يوضحوا للشعب كل بنود هذه المرجعية الكونية وأبعادها.
الأمر هنا لا يقتصر على الحقوق الأساسية التي لا خلاف عليها حول حقوق الإنسان، علماً أنه ليس ثمة اتفاق عالمي حول كل بنودها. فعلى سبيل المثال، إن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها لم توقع رسمياً على ميثاق حقوق الإنسان الذي أسهمت في صوْغه بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تدخله في دستورها بنداً، وهو أدنى ما يطالب به «هيومن رايتس ووتش» من «مرجعية حقوق الإنسان الكونية» التي تصطدم بالدين والأعراف الاجتماعية.
فهذه الأخيرة تشمل -مثلاً- ما يسمى حقوق المثلية بالزواج والإرث على سبيل المثال لا الحصر، أو تشمل ما تضمنته «اتفاقية مناهضة كل أشكال التمييز ضد المرأة» أو نظريات «الجندر».
تُعرّف العائلة بهذه المرجعية بأنها كل من يضمهما أو يضمهم سقف واحد بما يتعدى الزواج الشرعي أو القانون المدني الساري المفعول في الغالبية العظمى من دول العالم إن لم يكن كلها، فكيف تمرّر في دستور يقوم على توافق عام.
لنقل إن هذه القضايا التي يُراد إدراجها بحقوق الإنسان وتسميتها «الكونية» ما زالت معركة مفتوحة لم تقرّر بعد حتى في الغرب نفسه، فكيف تريد «هيومن رايتس ووتش» فرضها على الدستور التونسي، وتحت التهديد بالمساءلة الدولية التي تتحكم بها أمريكا والصهيونية؟!
وبالمناسبة يجب أن يتنبه الذين، وتتنبه اللواتي يريدون ويردن استخدام الأسلوب الجندري هنا، وتنفيذ كل بنود «اتفاقية مناهضة كل أشكال التمييز ضد المرأة»، على أن كل حق يجب أن يعامل بأنه طريق باتجاهين وليس باتجاه واحد، فإن أعطيت البنت مثلاً حق مغادرة بيت أهلها للسكن وحدها ضد إرادتهم وحماها القانون، وأصبح ذلك حقاً ممارساً كما هو الحال في الغرب مثلاً، أفلا يعني ذلك حق أهلها (والدها ووالدتها وإخوتها) أيضاً أن يطالبوها بمغادرة البيت عندما تبلع الثامنة عشر، أو دفع أجرة غرفتها وأكلها إذا أرادت أن تبقى في البيت؟
ثم أفلا يصبح من حق الأب والأخوة أن يتخلوا عن كل الالتزامات التي يوجبها الدين والتقاليد الاجتماعية إزاء ابنتهم أو أخواتهم، ما دام الرابط والحاكم هو «مرجعية حقوق الإنسان الكونية»! فالمسألة هنا هي مسألة حقوق ومحاكم؟!
نعم على هؤلاء وليس من بينهم «هيومن رايتس ووتش» ذات الأهداف الخاصة، إن كل حديث عن حق هو طريق باتجاهين، فهل نذهب إلى طرح حقوق وفرضها من خلال الدساتير والقوانين تحطم/ أو تمزق، بالتالي الروابط والقيم والتقاليد والأخلاق التي تؤمّن درجة مقدّرة من الضمانات والحصانات للمرأة والرجل، مقابل ما يُقصد من حقوق إنسان كونية لا تراعي خصوصية الشعب المعني، وإمكانات دولته في تغطية حق السكن وحق العمل وحق الضمانات الصحية والاجتماعية مثلاً لمن تتخلى عن أسرتها.
لا شك في أن ثمة حقوق إنسان يجب أن تقرّر فوراً ويُلتزم بها، ولا سيما المتعلقة بحريّة الرأي والمعتقد وتحريم التعذيب والاعتقال التعسفي والحريّات العامة.
وقمة حقوق إنسان تتقدم بقدر تقدّم الإمكانات المادية للدولة مثل التأمينات ضد الشيخوخة والبطالة والمرض، وما شابه من حقوق.
فهذه القفزة إلى مرجعية حقوق الإنسان الكونية طائشة بكل ما تحمل الكلمة من معنى.

ارسال التعليق

Top