◄يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه:
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28).
اللهُ تعالى مصدرُ العلم:
أنزل الله سبحانه وتعالى الكتب السماوية، وبعث الأنبياء والرسل – قادة الدين – إلى البشرية لهدايتها وتوعيتها وإنذارها، يقول تعالى: (رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء/ 165)، ويقول سبحانه: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/ 1-5)، فالله سبحانه وتعالى هو الذي علم الإنسان ما لم يعلم، فالدين مصدره الله والعلم مصدره الله.
إلا أنّ هناك من يصرّ على فرضيّة الصراع بين الدِّين والعلم، ويعتبر أنّهما لا يجتمعان بل إنّ هناك تناقضاً بينهما. إلا أنّ الواقع والتاريخ يكذبان هذه الفرضيّة؛ فالأنبياء والرسل – عليهم السلام – لم يكونوا فقط مبلّغي رسالات الدين، بل كانوا أيضاً معلّمي البشرية في الكثير من مجالات العلم بل إنّ العلماء الألبّاء عجزوا أمام معارف الأنبياء الموهوبة من الله تعالى وهذا ما نراه جليّاً في أحوال نبيّ الله عيسى بن مريم (ع) حيث أحيا بعلمه الإلهي الموتى وشفا الأعمى والمرضى: (وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران/ 49).
أمّا مكانة العلم والعلماء في القرآن والروايات فإنّها ممّا تعجز به كلماتنا عن الإحاطة ببعض من شأنه أو شيء من مقامه ويكفينا قول الله سبحانه: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة/ 11)، وبذلك نتبيّن أنّه ما من دين أو عقيدة أو فكر أو حضارة تحدّثت عن العلم والمعرفة ومكانة العلماء وحثّت على طلب العلم وبيّنت قيمة ودرجة وأثر العلم في الدنيا وفي الآخرة كما فعل الإسلام العظيم وخاتم النبيّين محمّد بن عبدالله (ص). ولم يكن أحدٌ قبل رسول الإسلام قد خطر في باله أن يجعل فداء الأسرى الذين وقعوا في يد المسلمين في معركة بدر بأن يعلّم كلّ أسير عشرة من المسلمين! حتى الفدية أراد (ص) أن يوظّفها في خدمة العلم والتعلّم والمعرفة.
وصيّة الأنبياء والكتب السماويّة:
ونحن إذ نؤكّد على هذه الحقيقة الإسلامية الراسخة وهذه المكانة العالية للعلم والعلماء والمتعلّمين والمعلمين، لا نتحدث عن العلوم الدينية فقط كما قد يشتبه البعض، بل نتحدّث عن كلّ علم ومعرفة تقرّب الإنسان من الله سبحانه وتعالى، وتجعل الإنسان في خدمة أهله ومجتمعه وأمّته وكلّ البشرية. كلّ علم نافع من هذا النوع هو العلم الممدوح، هو العلم الذي يرفع أهله درجات في الدنيا وفي الآخرة، وهو العلم الذي وصّى به الأنبياء والرسل وكتب الله السماويّة.
نحن كمسلمين نقدّم جواباً واقعياً وعملياً. نعم، إن كانت هناك بعض التجارب التي تنسب نفسها إلى الإسلام قد ارتكبت أخطاءً قاتلة من هذا النوع، فالذي يتحمّل آية فيه إلى آخر آية يمتلئ بالمعرفة والعلم والحديث عن الإنسان – الذكر والأنثى – في هذه الرحلة العظيمة وفي هذا الكدح الطويل إلى الله سبحانه وتعالى. هذا هو الجواب العملي. لا نحتاج إلى التنظير ولا إلى الاستدلال ولا إلى القول بأنّ الإسلام هو ليس كذلك. القرآن يقول هذا والأحاديث تؤكّد هذا المضمون أيضاً.
وما أروع هذا الحديث الذي نختم به هذه الفقرة وبه نتبيّن عظمة العلم ومكانته الحقيقيّة في الإسلام، فعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: "كان أمير المؤمنين (ع) يقول: يا طالب العلم إنّ العلم ذو فضائل كثيرة: فرأسه التواضع، وعينه البراءة من الحسد، وأذنه الفهم، ولسانه الصدق، وحفظه الفحص، وقلبه حسن النيّة، وعقله معرفة الأشياء والأمور، ويده الرحمة، ورجله زيارة العلماء، وهمّته السلامة، وحكمته الورع، ومستقرّه النجاة، وقائده العافية، ومركبه الوفاء، وسلاحه لين الكلمة، وسيفه الرضا، وقوسه المداراة، وجيشه محاورة العلماء، وماله الأدب، وذخيرته اجتناب الذنوب، وزاده المعروف، وماؤه الموادعة، ودليله الهدى، ورفيقه محبّة الأخيار".
ليس للعلم حدود:
الإسلام يؤكّد على الحاجة إلى المعرفة والعلم والتعلّم، وليس في مرحلة محدّدة من عمر الإنسان بل من المهد إلى اللحد. العلم ليس له حدود وليس له نهاية، وعلى الإنسان أن يبقى عاشقاً للعلم ولا يتعاطى مع العلم فقط كوسيلة للعيش. وهذا من خصوصيات التوجيه الإسلاميّ.
قد نتعاطى مع العلم كمصدر للعيش وكمصدر للقوّة وكمصدر لمعالجة المشكلات التي يعيشها الناس، ولكن علينا أن ننظر إلى العلم والمعرفة كقيمة إيمانيّة ذاتية أيضاً ونرتبط معه ارتباطاً عشقيّاً وحبّيّاً روحيّاً. هذا ما أكّدته ورسّخته تعاليم الإسلام.
يجب أن لا يكون لطموحاتنا العلميّة ولا لأحلامنا العلميّة حدود، أيّاً تكن الصعوبات الاجتماعية والحياتيّة والمعيشيّة التي تُحيط بنا، وأيّاً تكن الظروف التي عشناها في السابق أو التي يمكن أن نواجهها في المستقبل. العلم والمعرفة بالنسبة لنا، هما مسألتان ضروريّتان لازمتان سواء في البعد الإيمانيّ، لأنّه (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، أم في البعد الاجتماعي الحضاري لأنّ الحياة باتت متطلّباتها كبيرة وعظيمة وخطيرة جدّاً، ولأنّ الاستحقاقات المقبلة أيضاً لا مكان فيها للضعفاء. والضعفاء ليسوا فقط من لا يملكون المال ولا يملكون السلاح. أوّل الضعفاء هم الجهلة، هم الذين يعيشون عالة على حضارات الغير، هم الذين لا يستطيعون أن يعالجوا مشاكلهم من خلال قدراتهم واختصاصاتهم وخبراتهم الوطنيّة والقوميّة. لذلك، إذا كنّا نؤمن بأنّنا في عالم ينتصر فيه القويّ، ويُحترم فيه القوي ويبقى فيه القوي، فعندها يجب أن نبحث ونسعى للحصول على كلِّ عناصر القوّة وفي مقدّمتها العلم في كلِّ اختصاصاته التي تحتاج إليها أمّتنا.
في مواجهة التحدّيات:
ولا بأس أن، نتحدّث عن مسؤوليّة إنسانيّة ودينيّة وحضارية، عن مسؤوليّة تجاه أمّة، عن مسؤوليّة في المعركة وليس عن مسؤوليّة في دائرة الحياة الشخصية. نؤكّد على المسؤوليّة العامّة لشعوب المنطقة وشعوب عالمنا العربي والإسلاميّ وخصوصاً على الطلّاب الجامعيّين. ليس هناك أيّ مشكلة في أنّ الفرد عندما يتخرّج من الجامعة يعود إلى حياته الشخصيّة ويفكّر ويخطّط كيف يؤمّن فرصة عمل وكيف يهيِّئ منزلاً وعائلة، هذا أمر طبيعي وفطري، هذا أمر مشروع ومستحبّ أيضاً فلا يُشعِرْه أحد بعقدة تجاه هذا الموضوع أبداً. "الكادُّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله". هذا ديننا وهذا إسلامنا.
مشكلة الجامعيّين في العالم الإسلاميّ:
على الإنسان أن يتحمّل هذه المسؤوليّة، وهذا لا يتنافى على الإطلاق مع المساهمة في التحديات والمسؤوليات الجهادية والسياسية والثورية. الحقيقة أنّ المرض السائد الآن في الأُمّة هو أنّ الكثير من طلّاب الجامعات وخرّيجي الجامعات في عالمنا العربيّ والإسلاميّ ينكفئون للإهتمام بحياتهم الشخصية، وبالتالي، لا تجدهم في المواجهات العامّة وفي المراحل الخطيرة. عِلماً أنّ الطاقة الحقيقيّة في الأُمة هي في أجيال الشباب، في شبابها بالدرجة الأولى، الشباب الذين يملكون الصحّة، العنفوان، والطاقة، الشباب الذين يملكون الأمل، وبالتالي هؤلاء الشباب يتحمّلون مسؤوليّة كبيرة في مواجهة التحدّيات، ونحن بحاجة إلى حضور كبير لأجيال الشباب ولطلّاب الجامعات في ساحات المواجهة والتحدّي.
ولابدّ من التأكيد على أنّ هذا العلم وهذه المعرفة تبقى مفيدة للإنسانية إذا بقيت قائمة على قاعدة الإيمان بالله والتسليم له والاعتقاد بعظمته وقدرته وجبروته، وإلّا فكما قالت الآيات التي تتحدّث عن العلم: (عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/ 5)، إلى أن تقول: (إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق/ 5-7). إنّ الذي يتصوّر أنّه وصل إلى مقام من العلم والقوّة ومقام من الغنى لا يُدانيه أحد، مقام يستغني به عن الله عزّ وجلّ، عن خالق الخلق ورازقهم وعن منزّل العلم وحافظ هذا الوجود، يصل إلى مرحلة الطغيان والجبروت وادّعاء الألوهيّة التي في لحظة من اللحظات ينكشف عجزها.
خلاصة الكلام:
إنّ العلم يعيش في حضن الإيمان، الإيمان الذي يعني أنّ: "الله حاضرٌ وحافظٌ ومراقبٌ لهذه الوجود"، وعليه فينبغي للإنسان أن يبقي هذه الفكرة حيّة وقائمة في وجدانه كلّ لحظة. الإيمان إلى جانب هذا العلم يحفظ التواضع ويحفظ القيم الأخلاقية ويحفظ روح خدمة البشريّة ويمنع من العتوّ والغلوّ والطغيان والتجبّر والاستكبار والفساد والإفساد.
أمّا العلم بعيداً عن هذا الإيمان، فهو من أخطر الأسلحة التي هدّدت البشرية وعرّضت البشرية للمخاطر. العلم هنا يُصبح من أخطر الأسلحة التي تدمّر البشرية وتسحق الناس في مشارق الأرض ومغاربها. ولذلك، فإنّ عظمة الإسلام تكمن في هذه النقطة أيضاً التي تدعو إلى العلم وتحثّ على العلم وترفع من درجة العلماء، ولكنّها تضع العلم بعد الإيمان، وفي حضن الإيمان وفي ظلّه وفي حاكميّته حتى لا تتفلّت هذه القوى العلمية الضخمة وتتحوّل إلى مأساة.
إنّ قدر هذه الأُمّة أن تواجه الأخطار والتحدّيات وليس خيارها. قدر هذه الأُمّة أن تقاوم، وقدر هذه الأُمّة أن تنتصر، لأنّ الله سبحانه وتعالى وعدها بالنصر، فقط عندما تكون الأُمّة الحيّةَ العازمةَ المتوكّلةَ الحاضرةَ.
(وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج/ 40).
المصدر: كتاب مواعظ شافية/ سلسلة الدروس الثقافية (37)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق