• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

كيف تكون ناجحاً مع الوقت؟

عدنان الطرشة

كيف تكون ناجحاً مع الوقت؟

عمر الإنسان ووقته:

قال رسول الله (ص): "إنّ أحدكم يُجمَع خلقه في بطن أُمّه أربعين يوماً، ثمّ يكون علقة مثل ذلك، ثمّ يكون مضغة مثل ذلك، ثمّ يبعث الله ملَكاً يُؤمَر بأربع كلمات ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد. ثمّ يُنفَخ فيه الروح"[1].

إنّ الوقت هو أجل الإنسان أي عمره الذي سوف يقضيه في هذه الحياة، وهو وقت قد تم تحديده بدقة تامة بتقدير الخالق تبارك وتعالى بحيث لا يتقدم ساعة ولا يتأخر عن المدة المحددة؛ قال الله تعالى: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (الأعراف/ 34)، وبعد انقضاء الوقت المحدد لوجود الإنسان في الدنيا يأتيه الموت وتُقبض روحه كما نُفخت فيه أوّل مرة في رحم أمه. قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) (الأنعام/ 60-62).

فبعد انقضاء الأجل يكون الموت، وتحفظ الملائكة روحه وتنزلها حيث شاء الله عزَّ وجلَّ؛ إن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجار ففي سجين، ثمّ يكون الرجوع إلى الله يوم القيامة والجزاء على ما عمل الإنسان في هذا الوقت الذي قضاه في الدنيا.

 

الحساب على الوقت:

إنّ كلَّ إنسان سوف يُسأل يوم القيامة عن عمره ووقته الذي قضاه في الدنيا؛ فيما قضاه وفيما أبلاه؟ وسيُحاسَب على كلِّ ما عمله، والجزاء سوف يكون من جنس العمل الذي أفنى فيه عمره ووقته؛ فإن كان خيراً فخير، وإن كان شرّاً فشر. قال رسول الله (ص): "لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربّه حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمِل فيما علِم"[2].

فإذا كان هذا هو حال الإنسان؛ يولد في هذه الدنيا ثمّ يقضي وقتاً محدداً فيها ثمّ يموت يحاسَب على عمله، فلماذا وُلِد ولماذا يموت ولماذا الحياة ولماذا الموت؟ قال الله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الملك/ 2)؛ إذاً فالحياة اختبار مَن من الناس الذي سيكون عمله خيراً، وهذا يعني أنّ من قضى عمره ولم يستغله فيما هو أحسن عملاً فقد ضيّع عمره ووقته سدىً ثمّ يُسأل عن عمره ويحاسَب على تضييعه وعلى ما عمله فيه من أعمال سيئة، وأنّ من عَلِمَ أنّ كلَّ يوم يمضي هو نقصان من وقت الحياة المحدد له واقتراب من موعد الموت فاستغل وقته أحسن استغلال فيما هو خير عملاً فقد كسب عمره ووقته فيما سيعود عليه بالفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.

إذاً فالعمر يمضي يوماً بعد يوم والوقت يسير دون توقف وهو كالسيف إن لم تقطعه قطعك، والنجاح الحقيقي مع الوقت يكون لصالح من يستطيع استغلاله لمصلحته الدنيوية والأخروية، ويكون الوقت لمثل هذا الرجل نعمة عظيمة يُغبط عليها، أما من ضيّع وقته فيما لا نفع له فيه في الدنيا والآخرة بل ربما ضيّعه فيما يعود عليه بالخسران المبين فهو مغبون في هذه النعمة التي لم يحسن استغلالها وباعها بثمن بخس.

ولكن كيف يستطيع العبد أن ينجح في استخدام وقته وعمره، وما هي الأعمال التي تُحسَب في أعلى قمة نجاح استغلال الوقت وتُحسَب أيضاً في أكبر قمة الاستفادة من الوقت؟. إنّ أحسن إجابة يمكن الحصول عليها على هذه الأسئلة تكون ممن أصبح في موقف ينكشف أمامه الحقّ ويعلم ساعتها نعمة الوقت وأفضل الأعمال التي كان من الممكن أن يعملها في وقته وعمره، إنّه موقف الموت وإنّه جواب من حضره الموت، الذي يدعو ربه أن يؤخر موته ولو قليلاً من الوقت حتى يعمل فيه ما قد رآه لحظة الموت أنّه من أفضل الأعمال التي يمكن فعلها فيه؛ قال الله تعالى: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (المنافقون/ 10)؛ فالمفرط في وقته وعمره يندم عند الاحتضار ويسأل تمديد عمره ولو مدة يسيرة ليعمل فيها ما تبيّن له أنّه أفضل الأعمال التي يُستغل بها الوقت؛ فهو يريد أن يتصدق وأن يعمل الأعمال الصالحة التي تؤهله أن يكون من عداد الصالحين؛ كما قال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ...) (المؤمنون/ 99-100)، فالمحتضر لم يتمن الرجوع إلى أهل أو أموال أو أولاد، ولم يتمن الرجوع ليجمع المزيد من الدنيا أو ليستمتع بالمزيد من الشهوات، ولكنه تمنى الرجوع ليعمل بطاعة الله عزّ وجلّ وليفعل ما ينفعه في آخرته؛ وهكذا يكون الناجح مع الوقت فهو يعمل بما يتمنى أن يعمله المحتضر لو رجع إلى الدنيا والحياة. قال رجل للنّبيّ (ص): يا رسول الله! أي الناس خير؟ قال: "من طال عمره وحسن عمله". قال: فأي الناس شر؟ قال: "من طال عمره وساء عمله"[3]. فالعمر أو الوقت يحسن أو يسوء بحسب العمل، وكذلك العبد يكون خيراً أو شراً بحسب عمله إن كان حسناً أو سيئاً.

والناجح في استغلال الوقت بالأعمال الصالحة لا ينتفع بعمره فحسب بل إنّه يعمل أيضاً بالأسباب التي جعلها الله تعالى سبباً في زيادة العمر، ومن ذلك مثلاً: صلة الرحم؛ فإنّ رسول الله (ص) قال: "مَنْ أحبّ أن يُبسَط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليَصل رحمه"[4]، وقال (ص): "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإنّ صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر"[5] يعني به: الزيادة في العمر. فقد أمر الإسلام بصلة الرحم ومما رتب على وصلها زيادة العمر وهي منفعة عظيمة جدّاً يتمناها المحتضر ويدفع أمواله جميعاً فيما لو زيد في عمره يوماً واحداً مع أنّه كان بإمكانه أن يقدم أقل من ذلك أثناء حياته وهو صلة الرحم. وهناك مثل آخر على أنّ الأعمال الصالحة تزيد في العمر، فقد قال النبي (ص): "تابعوا بين الحج والعمرة فإنّ متابعة بينهما تزيد في العمر والرزق وتنفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد"[6]. وهكذا الأعمال الصالحة جميعاً فإنّها خير ما يستغل بها الرجل وقته لما فيه خير له في الدنيا والآخرة، عدا ما في بعضها سبب لزيادة العمر ووقت الإنسان في هذه الدنيا التي هي مزرعة الآخرة؛ ولهذا فإنّ العمر كلما طال في طاعة الله عزّ وجلّ فهو من أعظم النعم على العبد.

 

نعمة الوقت:

إنّ الوقت والعمر نعمة من نِعَم الله تعلى على الإنسان كما أخبر بذلك رسول الله (ص): "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ"[7]. الغبن: غَبِنَ الشيء: نسيه أو أغفله أو غلط فيه. وفي البيع: باعه ببخس؛ ومن لا يستعمل الفراغ فيما ينبغي فقد غبن لكونه باع الفراغ ببخس ولم يحمد رأيه.

قال ابن بطال: معنى الحديث أنّ المرء لا يكون فارغاً حتى يكون مكفياً صحيح البدن، فمن حصل له ذلك فليحرص على أن لا يغبن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه، ومن شكره امتثال أوامره واجتناب نواهيه، فمن فرط في ذلك فهو المغبون. وأشار بقوله "كثير من الناس" إلى أنّ الذي يوفق لذلك قليل. وقال ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحاً ولا يكون متفرغاً لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنياً ولا يكون صحيحاً، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أنّ الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون، لأنّ الفراغ يعقبه الشغل والصحة يعقبها السقم، ولو لم يكن إلا الهرم.

وقال الطيي: ضرب النبيّ (ص) للمكلف مثلاً بالتاجر الذي له رأس مال، فهو يبتغي الربح مع سلامة رأس المال، فطريقه في ذلك أن يتحرى فيمن يعامله ويلزم الصدق والحذق لئلا يغبن، فالصحة والفراغ رأس المال، وينبغي له أن يعامل الله بالإيمان، ومجاهدة النفس وعدو الدِّين، ليربح خيري الدنيا والآخرة. وعليه أن يجتنب مطاوعة النفس ومعاملة الشيطان لئلا يضيع رأي ماله مع الربح. وقوله في الحديث "مغبون فيهما كثير من الناس"  كقوله تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ/ 13)، فالكثير في الحديث في مقابلة القليل في الآية.

وقال القاضي أبوبكر بن العربي: اختلف في أوّل نعمة الله على العبد فقيل: الإيمان، وقيل: الحياة، وقيل: الصحة، والأوّل أولى فإنّه نعمة مطلقة، وأما الحياة والصحة فإنهما نعمة دنيوية، ولا تكون نعمة حقيقية إلا إذا صاحبت الإيمان وحينئذ يغبن فيها كثير من الناس؛ أي يذهب ربحهم أو ينقص، فمن استرسل مع نفسه الأمارة بالسوء الخالدة إلى الراحة فترك المحافظة على الحدود والمواظبة على الطاعة فقد غبن، وكذلك إذا كان فارغاً فإنّ المشغول قد يكون له معذرة بخلاف الفارغ فإنّه يرتفع عنه المعذرة وتقوم عليه الحجة. وقال ابن المنير: إنّ الناس قد غبن كثير منهم في الصحة والفراغ لإيثارهم لعيش الدنيا على عيش الآخرة.. وإنّ العيش الذي اشتغلوا به ليس بشيء بل العيش الذي شغلوا عنه هو المطلوب، ومن فاته فهو المغبون[8].

إنّ الإنسان الفارغ إذا لم ينشغل بعبادة الله وذكره أشغله الشيطان بما يهلكه في الدنيا والآخرة، فقد قال الله تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (الزخرف/ 36)؛ فيضله الشيطان عن سبيل الحقِّ ويهديه إلى صراط الجحيم ومع ذلك يحسب انّه مهتدٍ، (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (الزخرف/ 37).

كما أنّ الفراغ يجلب القلق، والقلق حبيب الفراغ؛ ولهذا تجد أنّ من يشغل جميع أوقاته فلا يترك وقتاً فارغاً إلا ويستثمره في عمل ما لا يقترب القلق منه لأنّ ذهن الإنسان لا يمكن أن ينشغل بعملين في وقت واحد، فما دام منشغلاً بعمل ما فلا يمكن للقلق أن يقتحم حياته ويشغله، ولهذا كان الأطباء ينصحون بأن ينشغل المصاب بالقلق بأي عمل كان لأنّه الطريقة الوحيدة لعلاجه مما هو فيه من قلق وانهيار عصبي. ومن هنا كان على الرجل أن يغتنم وقته خاصة أوقات فراغه حتى لا يغبن ويخسر ويصاب بالأمراض العصبية.

وقد عني الإسلام بالوقت وأرشد المسلم إلى العناية بالوقت والحرص على تنظيمه والالتزام به وعمارته بالأعمال الصالحة، وما الصلاة الخمس وتوزيعها الدقيق على أوقات محددة إلا مثال على الاهتمام بتنظيم وقت المسلم وعمارته على مدار اليوم حتى صارت الصلاة على وقتها أحب العمل إلى الله تعالى، فلما سُئل النبيّ (ص): أي العمل أحب إلى الله؟ قال (ص): "الصلاة على وقتها"[9] فلكلّ صلاة وقت محدد مخصوص فإذا فات هذا الوقت ولم يصليها المسلم فقد ارتكب إثماً كبيراً وصار ممن قال الله تعالى عنهم: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) (الماعون/ 4-5)، ولم يستطع أن يصليها بعد ذلك إلا قضاءً، فالوقت لا ينتظر أحداً، قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) (النساء/ 103).

وهكذا الصيام؛ يكون الإمساك في وقت محدد لا يتأخر عنه دقيقة واحدة، والإفطار في وقت محدد لا يتقدم دقيقة واحدة، وإلا يكون في الحالتين قد أفطر ووجب عليه القضاء. وهكذا الحج ومناسكه، والزكاة وغير ذلك.

قال الله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) (الروم/ 17-18)؛ فالإسلام دين يعرف قيمة الوقت، ويقدر خطورة الزمن، وقد رتب الحياة الإسلامية وقاسها بالدقائق في نظام محكم دقيق من الصباح إلى المساء. وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) (الفرقان/ 62)؛ فالله تبارك وتعالى جعل الليل والنهار يتعاقبان ويخلف كلّ منهما الآخر توقيتاً لعباده لكي يعبدوه ويذكروه ويشكروه، ومن فاته شيء من ذلك في النهار استدركه في الليل ومن فاته في الليل استدركه في النهار، وقد قال رسول الله (ص): "إنّ الله عزّ وجلّ يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها"[10]؛ فهذا يدل على نعمة الوقت وقيمته حيث جعله الله عزّ وجلّ فرصة لعباده لكي يتوبوا إليه، وميداناً يتنافس فيه العباد على العمل الصالح ويكون التقدم فيه بحسب كثرة الأعمال الصالحة ولمن جاء بالأفضل كما قال النبي (ص): "من قال لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلِّ شيء قدير في يوم مئة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكُتبت له مئة حسنة، ومُحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك"[11]، وقال (ص): "مَن قال حين يصبح وحين يمسي سبحانه الله وبحمده مئة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل ما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه"[12]. فهذا هو التنافس الحقيقي في الأوقات (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين/ 26)؛ وهذا هو الانتفاع الأعظم من الأوقات الذي تكون نتيجته خلوداً في جنات النعيم؛ ذلك لأنّ "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذِكْرَ الله وما والاه، أو عالماً أو متعلماً"[13].

 

استغلال الوقت:

هل يقضي العبد عمره ووقته جميعاً في الصلاة والصيام والذكر وغير ذلك من العبادات والطاعات حتى يكون قد استغل وقته في أفضل الأعمال؟.

إنّ أكثر الناس لا يستطيعون ذلك، ومن رحمة الله تعالى أنّه قد أذن لعباده في السعي في معايشهم وطلب رزق الله، قال عزّ وجلّ: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك/ 15)، وقال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة/ 10). بل إنّ من كرم الله عزّ وجلّ أنّه جعل الأجر والثواب لأي عمل دنيوي مباح إذا أخلص الرجل فيه النية لله تعالى، فالأكل والشرب والجماع بل النوم والقيام وكلّ عمل دنيوي آخر حلال مباح يمكن بالنية الصالحة أن يُحتسَب عبادة ويكون للرجل فيها الأجر والثواب.

إنّ استغلال الوقت هو عدم تضييع أي وقت دون الانشغال في عمل مفيد سواء كانت فائدته دنيوية أو أخروية وإلا ضاع جزءاً من العمر سدىً دون استغلال؛ فرأس مال الإنسان عمره، وإذا كان قد تحدد عمر إنسان ما بستين سنة أو أكثر من ذلك أو أقل، فما هذه السنوات إلا من أيام وما الأيام إلا من ساعات، فما يمضي من أيام أو ساعات فقد مضى من عمره واقترب من موعد موته ومغادرته لهذه الدنيا كما يقول الشاعر:

إنّا لنفرح بالأيّام نمضيها *** وكلّ يوم مضى جزء من العمر

ومن خصائص الوقت سرعة انقضائه، فهو يمر مرّ السحاب ويجري جري الرياح، وليس بالإمكان استعادته ولا تعويضه، وهو أثمن ما يملكه الرجل؛ وقد دعا النبيّ (ص) إلى اغتنام الوقت فقال (ص): "اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك"[14]؛ فالثلاثة أشياء من أصل الخمسة تتعلق بالوقت، فالحياة وقت، والفراغ وقت، والشباب وقت؛ ومن الضروري اغتنام هذه الأوقات قبل فواتها وحصول عكسها من الموت أو الشغل أو الهرم.

فالواجب على كلِّ رجل أن يعرف قيمة أيامه وساعاته فيغتنمها ويستغلها أحسن استغلال وبذلك يحقق النجاح مع الوقت، فالسيطرة على الوقت واستثماره استثماراً أمثل أشبه ما يكون بالعثور على كنز مفقود، والوقت هو مفتاح النجاح وبدون تنظيمه واستثماره لن يستطيع الرجل أن ينجح في المجالات المختلفة لحياته. قال عبدالله بن مسعود (رض): ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت فيه شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي. وقال عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله تعالى –: إنّ الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما. وقال الحسن البصري رحمه الله: يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك.

وإذا استطاع الرجل أن يعرف قدر وقته وشرف زمانه وأن يدرك أهمية استغلال الوقت وفائدته فإنّه لن يترك لحظة تضيع من حياته دون أن يستفيد منها، ومن يصير حاله هكذا فلن يحتاج أن يضع له أحد برنامجاً خاصاً به لاستثمار وقته لأنّه هو أعلم بنفسه وأدرى بالأعمال التي يمكن أن يفعلها أو ينجزها في ساعات يومه.

وإنّ من أسباب النجاح مع الوقت هو استثمار أوقات الانتظار التي يواجهها كلّ رجل وما أكثرها في حياته، وقد تتكرر عدة مرات في اليوم، فإذا أحسن الرجل استثمار هذه الأوقات فسيجد أنّه أنجز أشياء كثيرة ما كان لينجزها لولا استغلاله لأوقات الانتظار، ولا يسأم الرجل من استغلال أي وقت للانتظار سواء كان قليلاً أو كثيراً فالقليل إذا اجتمع يصبح كثيراً والدقائق تصبح ساعات؛ حتى الدقيقة أو الثواني المعدودة التي ينتظرها الإنسان عند إشارة المرور الحمراء يمكن استثمارها في قراءة كتاب يوضع في السيارة لهذا الغرض، فالإشارات تتعدد ودقائق الانتظار عندها تتكرر حتى في المشوار الواحد، فكم من كتب قُرأت باستغلال الانتظار عند إشارة المرور فقط فما بالك بأوقات الانتظار التي تكون أطول من ذلك وربما تمتد لساعة أو أكثر عند الانتظار في محل أو عيادة أو مطار أو صف انتظار ونحو ذلك، وهذا فضلاً عن ذكر الله تعالى الذي لا يحتاج إلى جهد أو حركة سوى حركة اللسان الخفيفة فيجني الرجل من ذلك من الأجر ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وقد قال رسول الله (ص): "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرَّحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"[15]، وقال (ص): "مَن قال سبحان الله وبحمده، في يوم مئة مرة، حطت عنه خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر"[16].

إنّ مَن يغتنم أوقاته ويحسن استثمارها ويستخدمها استخداماً أمثل سيشعر بالسعادة والراحة النفسية والاطمئنان القلبي، وسيشعر بأنّ قدرته على العمل أصبحت أعلى، وأن ثقته بنفسه أصبحت أكبر، وأنّه حقق نجاحاً باهراً في مجريات حياته.

الهوامش:


[1]- أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة.

[2]- صحيح سنن الترمذي، رقم: 1969.

[3]- صحيح سنن الترمذي، رقم: 1899.

[4]- أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم.

[5]- صحيح سنن الترمذي، رقم: 1612.

[6]- مسند أحمد، رقم: 15637، وقال حمزة أحمد الزين: إسناده حسن.

[7]- أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب ما جاء في الرقاق، وأن لا عيش إلا عيش الآخرة.

[8]- فتح الباري للعسقلاني، ص11/ 230-231.

[9]- أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها.

[10]- أخرجه مسلم في كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت.

[11]- أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده.

[12]- أخرجه مسلم في كتاب الذكر، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء.

[13]- صحيح سنن ابن ماجه، رقم: 3320.

[14]- صحيح الجامع الصغير، رقم: 1077.

[15]- أخرجه البخاري في كتاب الإيمان والنذور، باب إذا قال والله لا أتكلم اليوم...

[16]- أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح.

المصدر: كتاب كيف تكون ناجحاً ومحبوباً؟

ارسال التعليق

Top