لا يكفّ الإنسان عن الشكوى من حال الزمان وتردي الأحوال ومن غلاء المعيشة، والتفاوت الرهيب بين الدخول والأسعار، وما آلت إليه العلاقات الاجتماعية الحميمة التي كنا نتميز بها عن غيرنا من الأمم من تفكك وتشرذم بل وفي أحيان كثيرة الصراع والخصومة إلى حدّ اللدد فيها! كما يتعجب من ارتفاع معدلات الجريمة..
ومن السرقة. والاختلاس،
فما الجديد الذي جرى في العالم؟
لم تصب الدنيا بشيء جديد. الدنيا هي الدنيا، إنما هم الناس.. الذين اتجهوا للأسوأ. ينخبلون بالدنيا ذاتها ومن الخبل بها تقسو قلوبهم، ومن القلوب القاسية توقع كلّ شيء، كلّ أنواع الجريمة من جنايات وجنح ومخالفات.
روي أنّه لما بعث رسول الله (ص)، قال إبليس لشيطانه: لقد حدث أمر فانظروا ما هو، فانطلقوا حتى أعيوا ثمّ جاءوا وقالوا ما ندري.. قال: أنا آتيكم بالخبر، فذهب ثمّ جاء وقال: قد بعث الله محمداً (ص)، فجعل إبليس يرسل شياطينه إلى أصحاب النبيّ فينصرفون خائبين ويقولون: ما صحبنا قوماً قط مثل هؤلاء، نصيب منهم ثمّ يقومون إلى صلاتهم فيمحى ذلك، فقال لهم إبليس: رويداً بهم، عسى الله أن يفتح لهم الدنيا فنصيب منهم حاجاتنا.
وها هو قد صار ما أمله إبليس... الجيل وراء الجيل ينفتح على الدنيا أكثر من الذي سبقه حتى غرق في متاهتها.
وقد روي أنّ عيسى (ع) توسَّد يوماً حجراً، فمرّ به إبليس فقال: يا عيسى رغبت في الدنيا؟ فأخذ عيسى (ع) فرمى به من تحت رأسه وقال: هذا لك مع الدنيا. وفي ذلك يقول الإمام أبو حامد الغزالي: ".. وعلى الحقيقة من يملك حجراً، يتوسَّد به عند النوم فقد ملك من الدنيا ما يمكن أن يكون عدة للشيطان عليه، فإنّ القائم بالليل مثلاً للصّلاة مهما كان بالقرب من حجر يمكن أن يتوسده، فلا يزال يدعوه إلى النوم وإلى أن يتوسده، ولو لم يكن ذلك لكان لا يخطر له ببال ولا تتحرك رغبة إلى النوم. هذا في حجر فكيف بمن يملك المخاد الوثيرة والفرش الوطيئة والمتنزهات الطيبة، فمتى ينشط لعبادة الله تعالى؟...".
مع مثل حالنا يستطيع المرء أن يجزم بأنّ الكثرة منا هم الذين يجلبون الهم بإرادتهم ليحملونه فوق رؤوسهم ويفسحون له كلّ مساحة في صدورهم!..
كتب "فردريك انجلز":
"لابدّ للإنسان أن يجد لباساً يستر به جسده، وخبزاً يشبع به بطنه، حتى يستطيع الخوض في الفلسفة والسياسة".
والواقع أنّ الأسئلة الأولى التي يسعى الإنسان إلى معرفة جواب عنها في حياته هي:
من أنا؟
وما هذا الكون؟
وكيف بدأت حياتي؟
وإلى أين ستنتهي؟
إنّها أسئلة الفطرة الأساسية. فالإنسان يفتح عينيه في عالم يحوي كلّ شيء، غير جواب هذه الأسئلة. فالشمس توصل إليه الحرارة اللازمة، ولكن الإنسان غافل عن حقيقتها، وعن أسباب قيامها بهذه العملية لخدمته، والهواء يعطي الحياة للإنسان، ولكن الإنسان غير قادر أن يؤثر فيه ليجيب عن السؤال: من أنت؟ ولماذا تقوم بهذا العمل؟
إنّه يمعن في وجوده، ولكنه لا يفهم من هو ولماذا جاء إلى هذه الدنيا؟
والذهن الإنساني غير قادر على وضع إجابات لهذه الأسئلة الأساسية، ولكنه لن يتخلى عن بحثه.
هذه الأسئلة، وإن وردت ألفاظاً على ألسنة الجماهير، فإنها تؤلم روحها، وهي ترد أحياناً بطريقة يصاحبها الانفعال، حتى يصبح الإنسان مجنوناً.
لقد عرفنا "إنجلز" مفكراً ملحداً، ولكن إلحاده أتى عن طريق المجتمع المصاب بالبلبلة وعدم الاستقرار. لقد كان شغوفاً بالدين، وكان يقضي وقتاً طويلاً في الكنيسة، ولكنه بعدما كبر وتوسع نظره في الدراسة أعرض عن الدين التقليدي. وهو يكتب أحوال هذه الفترة في خطاب له إلى أحد أصدقائه، قال:
"إنني أدعو كلّ يوم، وأقضي اليوم كلّه داعياً أن تنكشف لي الحقيقة. لقد أصبح الدعاء هوايتي، منذ وجدت الشكوك طريقها إلى قلبي، إنني لا أستطيع أن أقبل عقائدكم.
إنّ قلبي يفيض بالدموع الغزيرة وأنا أكتب هذه السطور، قلبي يبكي، عيني تبكي، ولكنني أشعر أنني لست بطريد من رحمة الله، بل آمل أن أصل إلى الله الذي أتمنّى رؤيته بكلِّ قلبي وروحي. وأقسم بحياتي أنّ عشقي وبحثي هذا لمحة من روح القدس. ولن أقلع عن تفكيري هذا، ولو كذبه الإنجيل المقدس عشرة آلاف مرة!!".
لقد أقلقت غريزة البحث عن الحقِّ روح "إنجلز" الشاب، ولكن الدين المسيحي التقليدي لم يمنحه السكينة التي كان ينشدها، فانقلب متمرداً عليه، وانغمس في الفلسفات السياسية، والمادية الإلحادية.
وجذور هذه الغريزة الإنسانية هي إحساس البشر بحاجتهم إلى الرب الخالق، ففكرة: "الله خالقي وأنا عبده" منقوشة في اللاشعور الإنساني، وهي ميثاق سري مأخوذ على الإنسان منذ يومه الأوّل، وهو يسري في كلِّ خلية من خلايا جسمه، وعندما يفتقد إنسان ما هذا الشعور يحس بفراغ عظيم، وتطالبه روحه من أعماقه أن يبحث عن إلهه الذي لم يره قط، والذي لو وجده لخر راكعاً على ركبتيه، ثمّ ينسى كلّ شيء.
وليس الاهتداء إلى معرفة الله غير الوصول إلى المنبع الحقيقي لهذه الفطرة الإنسانية، والذين لا يهتدون إلى المعرفة يقبلون على أشياء أخرى. فإنّ كلّ قلب يبحث عمن يهدي إليه خير أمانيه.
(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان/ 13)، والظلم أن تضع الشيء في غير موضعه، والإنسان عندما يميل إلى غير الله لملء فراغه النفسي ويتخذ من غير الله ملجأ له، فهو ينحاز عن مكانه الصحيح، ويتخذ من غريزته أسوأ أسباب الضلال.
ولما كانت هذه الغريزة فطرية، فإنّها تظهر دائماً في صورتها الطبيعية متجهة إلى الله؛ ولكن المجتمع، وأحوال البيئة، يعطيان هذه الغريزة اتجاهاً مغايراً، فتبدأ الشكوك تساور الإنسان في أول الأمر، ولكنه سرعان ما يتخلص من هذه الشكوك، لأنّه يتمتع بحرية أكثر في الحياة الجديدة فيرضى بها ولو ظاهرياً. لقد كان برتراندرسل شديد العلاقة بالدين في أول حياته، وكان يواظب على حضور صلوات الكنيسة باهتمام، وفي يوم من الأيام سأله جده: ما تكون دعواتك المفضلة يا "برتي".
فأسرع الشاب برتراندرسل يقول: "لقد سئمت الحياة، وأنا مدفون تحت وطأة ذنوبي – يا إلهي!" وعندما جاوز برتراند العقد الثالث من عمره بدأت خواطر التمرد تراود ذهنه، بفعل البيئة التي أحاطت به، إلى أن تحول وأصبح الفيلسوف الملحد، الذي لا يؤمن بالحقائق السماوية. وقد أجرت الإذاعة البريطانية حديثاً معه عام 1959، وعندما سأله فريمان – المعلق السياسي في الإذاعة – "هل وجدت أنّ هواية الاشتغال بالرياضيات والفلسفة يمكن أن تحل محل المشاعر الدينية عند الإنسان؟" أجاب "رسل" قائلاً: "نعم، وصلت في سن الأربعين إلى طمأنينة التي قال عنها أفلاطون: إنّه يمكن الحصول عليها من طريق الرياضيات. إنها عالم أبدي، حر، لا يقاس بزمان. ولقد حظيت في هذا العالم بسكينة تشبه تلك التي يحصلون عليها في الدين".
لقد أنكر هذا المفكر البريطاني حقيقة المعبود السماوي، ولكنه لم يستطع الاستغناء عن ضرورتها القصوى، بسبب الغريزة الفطرية التي وُلِد بها الإنسان، فجاء بالرياضيات والفلسفة، وأجلسهما في المقعد المخصص لله وحده. بل اضطر أيضاً أن يخلع على الرياضيات نفس الصفات التي ينفرد بها الله سبحانه، وهي الأبدية، والتحرر من أبعاد الزمن، والسر في ذلك أنّه لا يمكن الحصول بدونهما على الطمأنينة التي يبحث عنها الإنسان.
نشرت جريدة هندوستان تيمس، الصادرة في دلهي يوم 3 تشرين الأوّل من عام 1963، صورة جواهر لال نهرو في حالة ركوع، واقفاً أمام ضريح "المهاتما غاندي" في ذكرى ميلاده، وهو يقدم تمنياته إلى "أبي القومية الهندية"!.
إنّ مثل هذه الأحداث تقع كلّ يوم في كلِّ مكان من العالم، وآلاف من الناس الذين ينكرون وجود الله يركعون أمام معبوداتهم، تسكيناً لغريزتهم التعبدية، وذلك لأنّ "الإله" ضرورة فطرية للإنسان. وهذه المظاهر كافية لتأييد هذه الغريزة على أنها طبيعية لأنّ الإنسان يضطر إلى الركوع أمام آخرين كثيرين، إذا ما امتنع عن السجود أمام "الله الواحد" أي أنّ فطرته لن تتمكن من ملء الفراغ الذي يخلو عند إنكار وجود الله، والإلحاد.
وليست الحقيقة أن يتخذ الإنسان آلهة آخرين عند الكفر بالله، فيسكن غريزته، بل سوف أقول: إنّ الذين يتخذون من غير الله إلهاً محرومون من الاستقرار والطمأنينة الحقيقيين.
إنّ كلّ ملحد، مهما بدا له، أو للآخرين، أنّه ناجح، يتعرض في حياته لمواجهة لمحطات، يضطر إزاءها أن يفكر فيما إذا كانت الحقيقة التي قبلها – مصطنعة وزائفة؟
وعندما ظهرت الأوراق الأخرى من حياة نهرو، وجد نفسه رئيساً لوزارة ثالث كبريات دول العالم، يحكم سدس المعمورة بدون شريك. ولكن "نهرو" لم يقتنع بهذا، بل ما زال يشعر في أوج بروزه السياسي، أنّ هناك فصولاً أخرى من كتاب حياته لمّا تفتح، وفي كلمة له قال نهرو، أمام مؤتمر المستشرقين الذي انعقد في دلهي عام 1964: "إنني سياسي، ولا أجد وقتاً كثيراً للإمعان والتفكير. ولكنني أضطر في بعض الأحيان أن أفكر: ما حقيقة هذه الدنيا؟ ومن نحن؟ وماذا نقول به؟ إنني على يقين كامل أنّ هناك قوى تصوغ أقدارنا"[1].
سأل البروفسور مايكل بزيتشر الذي كتب سيرة حياة جواهر لال نهرو: عن المقومات اللازمة لبيئة صالحة طبقاً للفلسفة الهندية الأساسية في الحياة؟.
وأجابه الرئيس الأسبق قائلاً:
"إنني أؤمن ببعض المعايير، قل: إنها (المعايير الأخلاقية)، ولابدّ لكلِّ فرد وبيئة من التمسك بها، وعند القضاء على هذه المعايير لا يمكنك الوصول إلى نتائج مفيدة، رغم أحراز التقدم المادي الهائل، وأما (سبل) إقامة هذه المعايير والاحتفاظ بها في المجتمع، فإنني لا أعرفها، وهناك نظرة دينية لإقامة هذه المعايير ولكنها تبدو لي ضيقة جدّاً مع كلّ طقوسها وطرقها، فأنا أهتم اهتماماً كبيراً بالقيم الأخلاقية الروحية، بعيداً عن الدين، ولكني لا أعرف كيف يمكن الحفاظ على هذه القيم في الحياة الجديدة. إنها لمشكلة[2].
وهذا السؤال وجوابه يبينان بوضوح الفراغ الذي يواجه الإنسان بشدة في حياته، فإنّ إقامة القيم والمعايير الأخلاقية هي من أهم الضرورات في كلِّ مجتمع، حتى يتاح له جو الاستقرار لمواصلة مسيرة الحضارة. ولكن الإنسان، بعد أن خذل الإله، أخذ يخبط خبط عشواء بحثاً عن هذه المعايير، وسبل إقامتها في حياة أفراد المجتمع. ولا يزال الإنسان، رغم مئات السنين التي مضت، في أولى مراحل بحثه عن هذه المعايير المجردة عن الدين...
يعلقون على المحطّات وداخل عربات القطارات لافتات كبيرة تقول: "إنّ السفر بدون تذكرة لجريمة اجتماعية" – ولكن نسبة السفر بدون التذاكر لا تقل، بل تزداد يوماً بعد يوم. وذلك يثبت أن عبارة: "جريمة اجتماعية" غير كافية لتحريك ضمير الفرد، والحفاظ على النظام[3].
إنّهم يبذلون جهوداً ضخمة للتنفير من الجرائم، عن طريق الصحافة، قائلين مثلاً: "الجريمة لا تفيد" Crime dose not pay. ولكن تزايد نسبة الجرائم، يوماً بعد آخر، دليل على أنّ "عواقب الجريمة" في الدنيا ليست رادعة، حتى تمنع المجرمين من القيام بجرائمهم.
وكثيراً ما طبعوا على جدران المكاتب عبارات تقول: إنّ تقديم الرشوة، وقبولها ذنب ولكن المرء عندما يشاهد، أنّ جرائم الرشوة تمضي في طريقها على قدم وساق، فيضطر إلى أن يعترف بأنّ الحملات الحكومية لن تستطيع أن تمنع هذه الجريمة الاجتماعية القبيحة. إنّهم يكتبون في كلِّ عربة من عربات القطار: "إنّ القطارات ملك للشعب، وإلحاق ضرر بها جريمة ضد الشعب"، ولكن المسافرين في نفس هذه العربات يسرقون مصابيحها الكهربائية الرخيصة، ويحطّمون زجاجها، وربما يثورون فيشعلون فيها النيران. وهو دليل على أنّ فائدة الشعب ليست بأقوى من فائدة الفرد!!.. إنّ كبار الزعماء والسياسيين يعلنون في خطبهم: "أنّ استغلال الوسائل الحكومية لصالح الأغراض الفردية خيانة في حقّ الشعب والدولة". ولكن المشروعات الكبرى تفشل في تحقيق أهدافها، لأنّ النسبة الكبرى من الميزانيات المقررة تأخذ طريقها إلى جيوب المسؤولين القائمين بأمر هذه المشروعات، بدلاً من إنفاقها في مكانها الصحيح. وهكذا اختفت المعايير والقيم من الحياة القومية، رغم كلّ الجهود التي بذلت من جانب المصلحين والزعماء، وباءت كلّ الوسائل التي استخدموها بالفشل الذريع.
هذه الظواهر هي في الواقع دلائل على أنّ الحضارة المادية قد انتهت بدفع البشرية إلى الهاوية، وقد ضللتها عن طريقها، التي لم يكن منها بدّ لمواصلة المسيرة، ولا حل لهذه الأزمة إلّا بالرجوع إلى الله والتسليم بأهمية الدين للحياة، فهو الأساس الوحيد الذي يساعد على النهوض بالحياة البشرية على خير وجه، وليست هناك من أسس أخرى.
كتب البروفسور "تشتر باولز"، السفير الأميركي الأسبق لدى الهند يقول: "إنّ الدول النامية تواجه مشكلات من نوعين، في طريق نهضتها الصناعية. والنوعان معقدان غاية التعقيد. فأما أولهما: فهو مشكلات الحصول على رأس المال، والمواد الخام، والخبرة الفنية، وطرق استخدامها أفضل استخدام. وأما النوع الثاني من هذه المشكلات فيتعلق بالشعب والإدارة الحكومية. فعلينا قبل المضي في ثورتنا الصناعية أن نتيقن أنّ هذه الصناعة لن تخلق أكثر مما تقضى عليه من المشكلات فعلاً. ومن كلمات المهاتما غاندي: "إنّ المعلومات العلمية والكشوف سوف تزيد من شراهة الإنسان، في حين أنّ الإنسان هو الشيء الأهم من كلِّ الأشياء".
فالشعب يخضع للبرامج التقدمية، ولكن عناصر التقدم، وهي رأس المال والخبرة الفنية، لا تجدي نفعاً في مجتمع يسوده الفراغ السياسي والحضاري.
ما الطريق إلى سدّ هذا الفراغ لبناء مجتمع يقوم فيه الشعب والحكام، كلٌّ بواجبه، لرفع شأن البلاد؟؟...
إنّ سؤال يبقى من دون جواب لدى المفكرين المحدثين، والحقّ أنّ الإنسان لن يستطيع الوصول إلى جوابه في ظل المجتمع الإلحادي. فكلّ مشروع تقدمي يصاب بتناقض مثير، يتجلى في أنّ العقائد الشخصية لدى أفراده تخالف العقيدة الاجتماعية. فبرنامج التقدم الاجتماعي مثلاً يهدف إلى إقامة مجتمع رفاهي يتمتع بالأمن والسلام، ثمّ يقول المفكرون: "إنّ هدف الإنسان الأساسي هو الحصول على السعادة المادية!" فهم بذلك ينكرون المبدأ الأوّل لبرنامجهم، لأنّهم يحرضون الأفراد على عمل معاكس لما يحتاج إليه المجتمع. ويرجع هذا التناقض إلى أنّ برنامجاً من هذا النوع لم يحقق أهدافه إلى يوم الناس هذا.
العالم الحديث يعاني من مشكلة، لم يجربها الإنسان طوال تاريخه هي مشكلة "جرائم الأطفال" التي أصبحت جزءاً من المجتمع الحديث! من أين يأتي هؤلاء المجرمون الصغار؟ إنّهم ضحايا "السعادة المادية".. فكثير من الفتيان والفتيات يسأمون حياة الزواج بعد وقت قليل، وحينئذ يبدأون في البحث عن وجوه وأجساد جديدة، ويحصلون على الطلاق، بيد أنّ المجتمع هو الذي يدفع ثمن الطلاق، حين يلملم في رحابه "أطفالاً يتامى في حياة آبائهم وأمهاتهم". وما دام المجتمع المنحل هو الآخر لا يستطيع أن يهيّئ لهؤلاء الأطفال الطعام واللباس والمأوى، فهم أحرار من كلِّ قيد، وهم ثائرون على المجتمع الذي أنجبهم. وتبدأ هذه الحال بالصعلكة، ثمّ تنتهي إلى جرائم بشعة.
ولقد صدق السيد "الفريد ديننج" في مقاله: "إنّ أكثرية المجرمين الأطفال غير البالغين تخرج من أنقاض أسر محطمة". هذا التناقض بين الفلسفة الاجتماعية وأهداف الأفراد هو أصل كلّ المشكلات الاجتماعية. فجميع الحوادث التي نسميها في قواميسنا "جريمة وذنب" هي محاولة قوم للحصول على أمانيهم الذاتية في الحياة، بعد أن أخفقوا في تحقيقها لسبب أو لآخر، وهذه الحوادث تظهر في أغلب الأحيان في صور: الاغتيال، والخطف، والتدليس، والتزوير، والقرصنة، والحروب، والزنا، وما إلى ذلك من الجرائم التي تعاني منها الإنسانية: وهذا التناقض يبين بجلاء أنّ هدف الحياة الأساسي هو الحصول على رضا الله في الآخرة، لا غير. إنّه هو الهدف الوحيد الذي يمكنه إنقاذ المجتمع والفرد من التناقض الكبير، والسير بهما في طريق الرخاء والسعادة المتبادلة، لأنّ الفرد في هذا الهدف لا يصادم أماني المجتمع، بل يشترك في كفاحه بطريقة إيجابية فعّالة.
لقد تقدم الطب الحديث والجراحة إلى أقصى حدودها في هذا القرن، وبدأ الأطباء يقولون: "إنّ العلم يستطيع القضاء على كلِّ مرض، غير الموت والشيخوخة"!! ولكن الأمراض تكثر وتتشعب، وتنتشر بسرعة مذهلة، ومنها "الأمراض العصبية" التي هي نتائج أعراض التناقض الشديد الذي يمرّ به الفرد والمجتمع. لقد حاول العلم الحديث أن يغذي كلّ الجوانب المادية في الجسم الإنساني، ولكنه فشل في تغذية الشعور، والأماني، والإرادة، وكانت حصيلة ذلك جسماً طويل القامة ممتلىء النواحي، ولكن الجانب الآخر من الجسم، وهو أصل الإنسان، أصبح يعاني من أزمات لا حدّ لها.
لقد أكدت إحصائية: أنّ ثمانين في المائة من مرضى المدن الأميركية الكبرى يعانون أمراضاً عصبية، من ناحية أو أخرى. ويقول علماء طبّ النفس الحديث: إنّ أهم جذور هذه الأمراض النفسية: الكراهية، والحقد، والجريمة، والخوف، والإرهاق، واليأس، والترقب، والشك، والأثرة، والإنزعاج من البيئة. وكلّ هذه الأغراض تتعلق مباشرة بالحياة المحرومة من الإيمان بالله.
إنّ هذا الإيمان بالله يمنح الإنسان يقيناً جباراً، حتى يستطيع مواجهة أعتى المشكلات والصعاب، فهو يجاهد في سبيل هدف سامٍ أعلى، ويغض بصره عن الأهداف الدنيئة القذرة.
إنّ الإيمان بالله يعطي الإنسان محركاً هو في أساس سائر مكونات الأخلاق الطيبة، ومصدر قوة العقيدة التي عبّر عنها السير وليام أوسلر بقوله "إنها قوة محركة عظيمة، لا توازن بأي ميزان، ولا يمكن تجربتها في العمل". إنّ هذه العقيدة هي سر مخزن الصحة النفسية الموفورة، التي يتمتع بها أصحابه، وأيّة نفسية محرومة من هذه العقيدة لن تنتهي إلّا بالأمراض، أقساها وأعتاها. ومن شقوة الإنسان أنّ علماء النفس يبذلون كلّ ما يمكنهم من الجهود في الكشف عن أمراض نفسية وعصبية جديدة، ولكنهم في الوقت نفسه يهملون بذل الجهود للوصول إلى علاج هذه الأمراض.
ويشير أحد العلماء متهكماً: "إنّ علماء الطب النفسي يبذلون كلّ جهودهم في كشف أسرار القفل الدقيقة التي سوف تغلق علينا كلّ أبواب الصحة!". فأبناء المجتمع الجديد يسيرون في اتجاهين في وقت واحد. فهم يحاولون من جهة الحصول على جميع الكماليات المادية، ويتسببون في إعراضهم عن الدين بخلق أحوال تجعل من الحياة جحيماً، من جهة ثانية.
ويقول أحد الأطباء: "تعرفت أثناء دراستي بالكلية الطبية على التغيرات التي تطرأ على أنسجة الجسم بعد الإصابة بالجراح، وشاهدت أثناء التجارب بالمنظار المكبر أنّ أعراضاً محددة تطرأ على هذه الأنسجة، مما يؤدي إلى اندمال الجروح وشفائها، وعندما أصبحت طبيباً بعد إتمام دراستي كنت جد مقنع بكفاءتي وأنني أستطيع أن أحقق نتيجة موفقة بالتأكيد، باستعمال الوسائل الطبية اللازمة، ولكن سرعان ما أصبت بصدمة كبيرة، حيث فرضت عليّ الظروف أن أشعر أنني أعرضت عن أهم عنصر في علم الطب، ألا وهو: الله".
"كانت بين المرضى الذين كنت مشرفاً على علاجهم في المستشفى، عجوز في السبعين من عمرها، مصابة بكسر في الفخذ، وأكدت صور الأشعة أنّ أنسجة جسمها تلتئم بسرعة، فهنأتها على سرعة شفائها. طلب مني رئيس قسم الجراحة أن أبلغها بالمغادرة إلى بيتها خلال أربع وعشرين ساعة، لأنها صارت تتمكن من المشي دون مساعدة".
وحين جاءت ابنتها لزيارتها أبلغتها بقرار المستشفى وأنّ عليها إعادة والدتها إلى مسكنها. لم تتلفظ الفتاة بشيء أمامي، بل توجهت إلى أمها، وأسرّت إليها أنها لن تستطيع تأمين إعادتها للسكن معها في بيتها الزوجي وأنّها وزوجها متفقان على تنظيم سكن لها في أحد دور العجزة.
وبعد بضع ساعات حدث انهيار سريع في صحة العجوز.
"ولقد حاولت أن أقوم بجميع الإسعافات اللازمة لإنقاذها، ولكن حالتها لم تتحسن. كانت عظام فخذها المكسورة قد تحسنت كثيراً، ولكنني لم أجد علاجاً لقلبها الكسير.. أعطيتها كلّ ما عندي من الفيتامينات، والمعادن، ووسائل التئام العظم المكسور، ولكن العجوز لم تستطع أن تنهض مرة أخرى، لقد انجبرت عظامها دون شك، وكانت تملك فخذاً قوية، ولكنها لم تقوَ على الحياة، لأن ألزم عنصر لحياتها لم يكن الفيتامينات، والمعادن، ولا إنجبار العظم، وإنما كان (الأمل) في أن تعيش على نحو معيّن، فمتى ذهب الأمل في الحياة، ذهبت معه الصحة".
"وكان لهذا الحادث تأثير عميق في نفسي، لإحساسي بأنّه كان من المستحيل وقوعه، لو كانت هذه العجوز تعرف معنى الإيمان".
هذا المثال يعطينا صورة عن التناقض الذي يعاني منه العالم في كلِّ جانب من جوانب حياته، فهو يحاول اليوم بكلِّ قوة أن يمحو الأحاسيس والمشاعر الدينية من قلوب الناس، معتقداً أنّه في هذه المحاولة يؤمن نهضة الإنسان، متجاهلاً (الروح)، عنصره الأصلي.
ومن نتائج هذه المحاولة أنّ الطب يستطيع أن يجبر عظام فخذ مكسورة، ولكن حرمان الإنسان من العقيدة الإلهية يفضي به إلى الموت، رغم كون جسمه في صحة جيدة.
لقد دمر هذا التناقض الإنسانية تدميراً، فالأجسام تحت الأثواب البراقة أحوج ما تكون إلى الهدوء والسعادة الحقيقيين، والأبنية تسكنها قلوب محطمة، والمدن المتلألئة ببريق الحضارة هي بؤرة الجرائم، ومصانع المصائب، والحكومات الجبارة مصابة بالدسائس الداخلية وعدم الثقة، والمشروعات الضخمة تبوء بالفشل نتيجة لفساد القائمين بها... لقد أصبحت الحياة منغصة رغم التقدم المادي الهائل، وكلّ هذا وذاك يرجع إلى تخلي الإنسان عن نعمة الإيمان بالله، لقد حرمنا أنفسنا من المنبع والأساس الذي يهب الطمأنينة والسكون.
إنّ أسباب الأمراض النفسية، التي أشرت إليها، واضحة جلية أشار إليها علماء النفس، وقد لخصها البروفسور "يانج G. G Jung" بقوله: "طلب مني أناس كثيرون، من جميع الدول المتحضرة، مشورة لأمراضهم النفسية، في السنوات الثلاثين الأخيرة. ولم تكن مشكلة أحد من هؤلاء المرضى – الذين جاوزوا النصف الأوّل من حياتهم، وهو ما بعد 35 سنة – إلا الحرمان من العقيدة الدينية. ويمكن أن يُقال: إنّ مرضهم لم يكن إلا أنهم فقدوا الشيء الذي تعطيه الأديان للمؤمنين بها في كلِّ عصر، لم يشف أحد من هؤلاء المرضى إلا عندما استرجع فكرته الدينية وإنها لكلمات جلية: (.. لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق/ 37).
وإذا أردنا المزيد من الإيضاح، فلسوف أقتبس من الأستاذ "أ. كريسي مريسون" رئيس أكاديمية نيويورك (سابقاً)، قوله: "إنّ الاحتشام، والاحترام، والسخاء، وعظمة الأخلاق، والقيم والمشاعر السامية، وكلّ ما يمكن اعتباره "نفحات إلهية" – لا يمكن الحصول عليها من طريق الإلحاد.
فالإلحاد نوع من الأنانية، حيث يجلس الإنسان على كرسي الله.
لسوف يقضى على هذه الحضارة بدون العقيدة.
سوف يتحول النظام إلى فوضى.
سوف ينعدم التوازن، وضبط النفس، والتمسك.
سوف يتفشى الشر في كلِّ مكان.
إنها حاجة ملحة أن نقوي من صلتنا وعلاقتنا بالله.
وهكذا فالإيمان قوة لا يستهان بها خاصة وأنّه يضفي على البشرية كلّها في شتى أديانها، وأزمانها، وأجناسها من الثقة ما يجدّد شبابها النضير على الدوام.
الهوامش:
[1]- جريدة National Herald عدد كانون الثاني/ يناير 1964.
[2]- Nehru: -A Political Biograph, pp. 607-8.
[3]- كلّ ما ذكر من أمثلة التدليل على إفلاس الفلسفات المادية الإلحادية، غربية وشرقية، موجودة بوفرة في بلاد شرقنا، العربي، وتوحي شواهد الواقع أنّ الأمور تزداد كلّ يوم سوءاً، نتيجة سيطرة المنحلين والملاحدة على أجهزة التوجيه من جانب، وقعود رجال الدين عن أداء رسالتهم من جانب آخر، حلّ للمشكلة إلا بعودة الأُمة إلى الله مرة أخرى – (المراجع).
المصدر: مجلة الفكر العربي/ العدد 95 لسنة 1999م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق