أ. د. محمد فؤاد البرازي
◄سبق الإسلام جميع الديانات والشرائع والقوانين والأعراف في رعايته لحقوق الإنسان، وتكريمه للنوع الإنساني، وحفاظه على العدل بين البشر دون تفريق بين لون أو عرق أو جنس.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13).
فليس التفاضل بالمال ولا بالنسب، وإنما بالتقوى والعمل الصالح.
وقد نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس، وكان سائلاً عن اسم رجل لم يفسح الناس له ليجد مكاناً في المجلس، فلما أخبر به قال على وجه التنقّص: ابن فلانه؟ فقال النبي (ص): من الذاكر فلانة؟ قال ثابت: أنا يا رسول الله، فقال النبي (ص): انظر في وجوه القوم، فنظر، فقال له رسول الله ما رأيت؟ قال رأيت أبيض وأسود وأحمر، فقال: فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى. فنزلت في ثابت هذه الأية، ونزلت في الرجل الذي لم يفسح له: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة/ 11).
ولما كانت حجة الوداع وقف رسول الله ليبين حقوق الإنسان فقال في خطبته الشهيرة: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا".
فقد حرم رسول الله الاعتداء على الأنفس والأموال والأعراض حماية للإنسان من كل أذى أو عدوان.
كم دعا الإسلام إلى حماية حقوق المرأة وجعل لها أهلية قانونية مستقلة، لها الحق في التملك والبيع والشراء، واختيار الزوج الذي تريد، ورفض من لا تريد، وذلك قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام، في الوقت الذي بقيت المرأة عند غير المسلمين مهضومة الحقوق إلى عهد قريب. فقد كان القانون الإنجليزي حتى عام 1805 يبيح للرجل بيع زوجته بما لا يقل عن ستة بنسات، كما أنّ القانون السويسري لم يعط المرأة حق الانتخاب والترشيح حتى بداية السبعينيات.
وقد عمت تلك الحقوق التي جاء بها الإسلام كافة الناس ذكورهم وأنثاهم، مسلمهم غير مسلمهم، ولهذا جاء الأمر في القرآن الكريم بالعدل بين جميع الناس، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (النحل/ 90).
والإحسان الذي دعا إليه الإسلام يشمل المسلمين وغير المسلمين لا سيما الذين يعيشون مع المسلمين في بلادهم، فقد قال رسول الله (ص): "من قتل قتيلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما".
كما راعى الإسلام حقوق العمال، فأمر بإعطاء العامل أجره كاملاً حسب العقد من غير تأخير، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة/ 1)، وقال رسول الله (ص): "اعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه".
كما جعل الإسلام التعبير عن الرأي من أهم حقوق الإنسان، بل رفع الإسلام من شأنه كثيراً فجعله واجباً على كل مسلم في كل ما يمس الأخلاق، والمصالح العامة، والنظام العام، وفي كل ما تعتبره الشريعة منكراً. لقول الله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 104).
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب لا يتم إلا بحرية الرأي؛ كما أن مبدأ الشورى يستلزم حرية الرأي، وحق الفرد في الانتخاب وفي مراقبة السلطة ونقد تصرفاتها الخاطئة لا يتوفر إلا بحرية الرأي.
ونظراً لأهميته البالغة فقد توسع رسول الله (ص) في هذا الحق توسعاً كبيراً، ومنح أصحابه حق مناقشته في كثير من الأمور.
ففي غزوة بدر الكبرى نزل مع أصحابه في مكان معيّن، فأشار عليه الحباب بن المنذر بالنزول في مكان آخر يعرف بغزارة مائه، فقال له رسول الله (ص): "لقد أشرت بالرأي". وانتقل إلى ذلك المكان.
وكذلك نزل على رأي أصحابه في غزوة أحد، وغزوة الأحزاب، وصلح الحديبية.
إنّ إثبات الذات في تواضع جم خلق ضروري وأساسي لكل إنسان. لهذا نجد الرسول الكريم محمداً (ص) حريصاً على إبراز شخصية الإنسان بعيداً عن التبعية في الرأي فيقول: "لا تكونوا إمَّعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا ألا تظلموا". والإمّعة. هو الذي لا رأي له، فهو يتابع كل أحد على رأيه.
ولهذا كان من تعاليم الإسلام الراسخة: حرية إبداء الرأي أمام الحاكم، وكل صاحب نفوذ، فقد قال محمد رسول الله (ص): "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".
إلى غير ذلك من الأدلة والنصوص التي تبين دعوة الرسول محمد (ص) الناس إلى الجرأه في القول وصراحة الحديث. وهذه صورة واضحة تكشف عن تقرير الإسلام لمفهوم الحرية الواعية المنضبطة التي يتاح فيها للإنسان التعبير عما يجيش في صدره من آراء ومقترحات من غير مجاملة أو خوف.
إلى غير ذلك من الأدلة والنصوص التي تبين دعوة الرسول محمد (ص) الناس إلى الجرأه في القول وصراحة الحديث. وهذه صورة واضحة تكشف عن تقرير الإسلام لمفهوم الحرية الواعية المنضبطة التي يتاح فيها للإنسان التعبير عما يجيش في صدره من آراء ومقترحات من غير مجاملة أو خوف.
لقد أعطى رسول الله (ص) لكل إنسان الحق في التفكير، كما أعطاه الحق في التعبير عن فكره ومعتقده دون تدخل أو مصادرة من أحد مادام يلتزم الحدود العامة التي أقرها الإسلام. إذ لا يجوز باسم حرية الرأي إذاعة الباطل، ولا نشر الأكاذيب، ولا ترويج أخبار تؤدي إلى ضعف الأُمّة، أو يكون في نشرها خطر على أمن المجتمع وسلامته، قال الله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ) (النساء/ 83).
ولم يقف الأمر عند ذلك، بل إنّ النبي محمداً (ص) أعلن حرية الاعتقاد، كما أعلن حرية العبادة وفقاً لذلك الاعتقاد حين تلا على الناس قوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون/ 6). وقوله الله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة/ 256). وأعلن كذلك حق كل فرد في العمل منفرداً، أو المساهمة مع غيره في نهضة المجتمع دينياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً، وأعطاه الحق في إنشاء ما هو ضروري من المؤسسات لممارسة هذا الحق، ولهذا تلا على الناس قول الله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف/ 108).
- ضوابط حرية التعبير:
لقد كان رسول الله (ص) أول من دعا إلى حرية التعبير، وجعل تلك الحرية من تعاليم الإسلام بل من أكثرها وجوباً، ولهذا قال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
غير أنّ لهذه الحرية عند جميع الأُمم قيوداً وضوابط لابدّ منها حتى يتحقق منها المقصود السليم، ولئلا تؤدي إلى فوضى في المجتمع، واضطراب في الأُمّة. ونجمل هذه الضوابط فيما يلي:
1- مراعاة أدب القول وإحسان الكلام عند النقد البناء الذي يرجى منه الإصلاح وتحقيق المصلحة العامة، قال الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125). وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا *يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (الأحزاب/ 70-71).
2- مراعاة الآداب العامة للمجتمع، لأنّ عدم مراعاتها يؤدي إلى ترويج الفساد، وانهيار الأخلاق في المجتمع.
3- عدم الاعتداء على الأديان والمعتقدات. فلا يجوز باسم حرية التعبير عن الرأي المساس بحرية الاعتقاد، أو النيل من المقدسات، أو توجيه الإساءات، أو السخرية من معتقدات الآخرين بأي وسيلة من الوسائل.
وقد نزل القرآن الكريم على رسول الله (ص) موضحاً هذه الحقيقة فقال تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام/ 108).
4- ومن الضوابط الواردة على حرية التعبير عدم الاعتداء على كرامات الناس وسمعتهم، ولهذا أمر القرآن الكريم أتباعه بالتثبت من الأخبار قبل إذاعتها، من صدقها قبل إعلانها فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات/ 6). وبيَّن أن من صفات المنافقين إذاعة الأخبار قبل التأكد من مصداقيتها، فقال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء/ 83).
5- ومن الضوابط الواردة على حرية التعبير عدم نشر معلومات سياسية أو عسكرية أو اقتصادية تؤدي إذاعتها إلى أضرار تلحق الأذى بالمجتمع وتضعف كيانه.
6- ومما يرد على حرية التعبير عدم نشر أي شيء يؤدي إلى الفتنة أو الفوضى أو النزاعات العرقية أو الدينية أو الطائفية في المجتمع.
ونحب أن نؤكد على أنّ الشريعة الإسلامية التي أرسى قواعدها رسول الله (ص) تجمع بين حرية التعبير من ناحية، وبين ضوابطها التي تضمن أمن المجتمع وسلامته من ناحية أخرى. فالأصل في الإسلام ممارسة حرية التعبير. ولا تقيَّد هذه الحرية إلا إذا مست المقدسات، أو الأخلاق، أو الآداب والنظام العام.
لقد قرر رسول الله (ص) حقوق النسان، وأكّد على الحريات العامة ومنها: حرية التعبير قبل ألف وأربعمائة عام، في حين لم تقرر الأمم المتحدة هذا المبدأ إلا عام 1946. وهذا دليل على عظمة الإسلام، وصلاحيته لأمور العباد.
وبناء على ما سبق فإنّ جميع المسلمين يعتبرون إعادة نشر الرسوم المسيئة من قبل وسائل الإعلام في الدانمارك إساءة متعمدة للإسلام ونبيه الكريم ولجميع المسلمين الذين يعتبرون خمس العالم، إذ يبلغ تعدادهم أكثر من مليار وثلث من البشر ينتشرون في مختلف أنحاء العالم، كما يعتبرون أن ما حملته تلك الرسوم من دلالات سيئة يمثل عدوناً على حرية التعبير، ويعتقدون أنّ الإنسان حر مالم يضر.
إنّ نشر تلك الرسوم المسيئة يعتبر خرقاً للمبادئ التي يقوم عليها النظام الدولي الداعي إلى إشاعة السلم والأمن الدوليين والعدالة والقيم التي قامت عليها الأعراف الدولية، والداعي أيضاً إلى نبذ التفرقة والعنصرية والإساءة للأديان وإثارة النعرات الدينية أو غيرها من النعرات التي تؤدي إلى إهدار السلام الاجتماعي والسلم والأمن الدولي.
إن ما يجري اليوم هو إثارة متعمدة لتلك النعرات، وهذا لا يخدم حوار الحضارات، ولكنه يدفع في اتجاه صدام الحضارات الذي يدعو إليه اليمين المسيحي المتطرف. ولهذا فإن من واجب العقلاء من جميع الأطراف العمل على تجنيب المنطقة هذا الخطر المدمر الذي يطال البشرية كلها إذا وقع.
أسأل الله تعالى التوفيق والسداد والرشاد، إنّه سميع مجيب الدعاء.
والحمد لله رب العالمين.
المصدر: مجلة رسالة التقريب/ العدد 67 لسنة 2008م
ارسال التعليق