• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

دافع التدين في فطرة الإنسان

د. محمد عثمان نجاتي

دافع التدين في فطرة الإنسان
    إنّ دافع التدين دافع نفسي له أساس فطري في طبيعة تكوين الإنسان. فالإنسان يشعر في أعماق نفسه بدافع يدفعه إلى البحث والتفكير لمعرفة خالقه وخالق الكون، وإلى عبادته والتوسل إليه والالتجاء إليه طالباً منه العون كلما اشتدت به مصائب الحياة وكروبها، وهو يجد في حمايته ورعايته الأمن والطمأنينة. نجد ذلك واضحاً في سلوك الإنسان في جميع عصور التاريخ، وفي مختلف المجتمعات الإنسانية. غير أن تصور الإنسان في المجتمعات المختلفة خلال عصور التاريخ المختلفة لطبيعة الإله، والطريقة التي يسلكها في عبادته له قد تختلف تبعاً لمستوى تفكيره ودرجة تطوره الثقافي. غير أنّ هذه الاختلافات في تصور الإنسان لطبيعة الإله أو طريقة عبادته إنما هي اختلافات في طريقة التعبير عن ذلك الدافع الفطري للتدين الموجود في أعماق النفس البشرية. وتبيّن بعض آيات القرآن الكريم أن دافع التدين دافع فطري. قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم/ 30). ففي هذه الآية يذكر الله تعالى أن في فطرة الإنسان، أي في خلقته وطبيعة تكوينه استعداداً فطرياً على إدراك بديع مخلوقات الله والاستدلال بها على وجود الله وتوحيده[1]. وقال تعالى أيضاً: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف/ 172). وفي هذه الآية يبيِّن الله تعالى أنّه أخرج من صلب آدم (ع) وبنيه ذريتهم نسلاً بعد نسل على هيئة ذر، وذلك قبل خلقهم في الدنيا، وأشهدهم على أنفسهم قائلاً لهم: "ألست بربكم" فأجابوا: "بلى شهدنا" بذلك، وقال تعالى إنّه أشهدهم على ربوبيته حتى لا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا التوحيد غافلين أو غير عالمين[2]. ومن هذا يتبيّن أنّه يوجد في طبيعة تكوين الإنسان استعداد فطري لمعرفة الله وتوحيده. فالاعتراف بربوبية الله متأصل في فطرته، وموجود منذ الأزل في أعماق روحه. غير أن امتزاج الروح بالجسد، وانشغال الإنسان بمطالب جسده، وبمطالبه المختلفة التي تستلزمها حياته في الدنيا وعمارة الأرض، قد جعل هذه المعرفة بربوبية الله، وهذا الاستعداد الفطري للتوحيد عرضة لأن تطمره الغفلة، ويغمره النسيان، ويطويه اللاشعور في أعماقه. ويصبح الإنسان في حاجة إلى ما يوقظ هذا الاستعداد الفطري، وينفض عنه غبار النسيان، ويبعثه من أعماق اللاشعور ليظهر واضحاً جلياً في الإدراك والشعور. ويتم ذلك عن طريق تفاعل الإنسان مع الكون، ونظره إلى عجيب خلق الله في نفسه، وفي سائر مخلوقات الله، وفي الكون بأسره. وفي الحديث النبوي أيضاً ما يدل على أن في الإنسان استعداداً فطرياً لمعرفة الله سبحانه وتعالى وعبادته. فعن أبي هريرة أنّ الرسول (ص) قال: "ما من مولود إلّا يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجسانه كما تُنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تُحِسُّون فيها من جَدْعاء". ثمّ قال أبو هريرة: واقرأوا إن شئتم: فطرت الله التي فطر الناس عليها"[3]. ففي هذا الحديث يبيّن الرسول (ص) أنّ الإنسان يولد ولديه استعداد فطري للدين الحنيف. فكما تولد البهيمة سليمة بلا تشويه أو نقص، فكذلك يولد الطفل على الفطرة السمحاء، وعلى الدين الحنيف، بلا زيغ أو انحراف. ويشبه الرسول (ص) ما يحدثه تأثير الوالدين البيئة الإجتماعية والثقافية التي ينشأ فيها الطفل من تأثير في فطرته، فتنحرف به إلى دين آخر غير الدين الحنيف، بما يحدثه صاحب البهيمة من تشويه في بهيمته حينما يشق أذنها أو أنفها. ومن العوامل التي تساعد على إيقاظ وبعث دافع التدين في الإنسان ما يحيط به في بعض الحالات من أخطار تهدد حياته، وتسد أمامه جميع سبل النجاة، فلا يجد منها مهرباً إلا الالتجاء إلى الله فيتجه إليه سبحانه وتعالى بدافع فطري طالباً منه المعونة والنجدة مما يحيط به من أخطار[4] قال تعالى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (يونس/ 22). (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (الأنعام/ 63). وكون الإنسان، في كل مكان، وفي جميع عصور التاريخ، منذ بدء الخليقة حتى الآن، إنما يشعر في حالات الخطر التي تحدق به، بحافز إلى الاستنجاد بقوة أسمى وأقوى وأعظم منه، إنما يدل على أنّ الدين فطري في طبيعة الإنسان[5]. الهوامش:
[1]- تفسير القرطبي: ج14، ص29؛ تفسير الجلالين: ص340، 341. [2]- تفسير ابن كثير: ج2، ص262؛ تفسير الجلالين: ص114. [3]- رواه الشيخان وأبو داود والترمذي. انظر أيضاً مناقشتنا لدافع التدين في كتابنا "الحديث النبوي وعلم النفس"، بيروت: دار الشروق، 1989، ص33. جمعاء: كاملة الخلق لجميع أعضائها، جدعاء: ناقصة. [4]- البهي الخولي: آدم (ع). فلسفة تقويم الإنسان وخلافته، ط3. القاهرة: مكتبة وهبة، 1974، ص176.

[5]- أ. كرسي موريسون: العلم يدعو إلى الإيمان. ترجمة محمود صالح الفلكي، الطبعة الخامسة، القاهرة: مكتبة النهضة المصرية سنة 1965، ص202.

المصدر: كتاب القرآن وعلم النفس

ارسال التعليق

Top