في وقت انعقاد مؤتمر حقوق الإنسان الذي رعته منظمة الأُمم المتحدة في فيينا، نُشرت البحوث، وانطلقت التحقيقات والتعليقات، وظهرت المتعددة حول ما حققته مسيرة تطبيق شرعة حقوق الإنسان، منذ إقرارها في أول مؤتمر دولي خصّص لها سنة 1948، ومنذ أن بدأت دول العالم توقِّع عليها وتتبناها إما كلامياً فقط في دساتيرها، أو تطبّقها بشكل مشوّه أو مبتور، وصولاً إلى الحاضر الذي يكثر فيه الحديث عن حقوق الإنسان بينما تتزايد الممارسات الظالمة التي تنتهكها وخاصة من قبل من يدّعون حمايتها وصونها.
وقد أظهرت التحليلات والتحقيقات مواقف لاتجاهات ثلاث بصدد هذه القضية الحساسة: أوّلاً: الاتجاه الغربي، وهو الذي فرض منذ البداية مفاهيمه ورؤيته لحقوق الإنسان بما ينسجم مع منطلقاته الفكرية والحضارية، بما فيها من إيجابيات وسلبيات بل ومن افتئات على نظرة الآخرين.. كما اتخذ لنفسه صفة المدافع عن حقوق الإنسان في العالم حسب ما يفهمها هو، بحيث أصبحت هذه الصفة ذريعة تغلّف أحياناً كثيرة أطماعه ومصالحه المختلفة، ونزعته نحو الهيمنة التي تتناقض صراحة مع حقوق الإنسان عند الشعوب المستهدفة بتدخلاته، والأمثلة من الماضي والحاضر التي تدلل على عدم صدقية الغرب في احترام حقوق الإنسان كثيرة، وليس أدل عليها ما نلمسه من مأساة الشعب الفلسطيني المسلم.. وما يتعرض له المسلمون حالياً في البوسنة والهرسك تحت أعين وشهادة الغرب وربما رضاه! ثانياً: اتجاه غالبية الدول في العالم الثالث ومواقفها الرسمية تتأرجح بين الدفاع عن نفسها تجاه الاتهامات الداخلية والخارجية بعدم احترام حقوق الإنسان المنصوص عليها في الشرعة الدولية، وخاصة في البلدان التي تحدث فيها اضطرابات داخلية، وبين معارضتها لما تعتبره تدخلاً خارجياً غير مستحب في شؤونها الداخلية، مما ينافي سيادتها واستقلالها.. وبالتالي فإنّها لا ترى موجباً للإلتزام بكل ما لا يتفق مع أوضاعها وظروفها الخاصة التي تختلف عن مثيلاتها في الغرب، كما أنّها تنتقد وتعترض على بعض الممارسات والمواقف الغربية بهذا الخصوص. ثالثاً: مواقف المنظمات والحركات الشعبية المهتمة بحقوق الإنسان، والمشكّلة في مختلف دول العالم، وفي العالم الثالث خاصة. ومواقفها وطروحاتها بمجملها تختلف غالباً عما هو لدى الاتجاهين السابقين، فهي تطالب إضافة إلى سلامة التطبيق، بإخال تعديلات على هذا الإعلان ليشمل إلى جانب الحقوق السياسية والمدنية – التي اهتم بها الإعلان السابق – الحقوق الاقتصادية والصحية والاجتماعية. كذلك تطالب بآلية مراقبة فعّالة تستطيع فرض هذه المبادئ على الجميع وتحاسب من ينتهكها. إزاء هذا الحدث (المؤتمر) وما يرمي إليه، والذي أعطي أهمية خاصة، نظراً لما تشكّله عملية حماية حقوق الإنسان الأساسية في حدّ ذاتها من ضرورة يستدعيها وجود صنوف الاضطهادات وأشكال الحرمان المتعمدة، التي تُمارس بحق فئات كبيرة من بني البشر... وإزاء ما تمثّله التشريعات التي تنظّم وتحمي حقوق الإنسان من موقعية هامة في فكر الإسلام ومفاهيمه وفقهه، والتي سبق بها منذ زمن بعيد الإعلانات والأعراف الدولية الحديثة بهذا الخصوص. وهي ما تشير إليها بإيجاز شديد الآية الكريمة: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش/ 3-4)، كما تشير إليها الأحاديث الشريفة الكثيرة التي تؤكد على قيمة الإنسان وكرامته وعلى حقوقه الأساسية مثل الحرية المسؤولة والعدالة والمساواة.. بما يضمن عيشاً حراً كريماً للجميع، وعلاقات سليمة بين المسلمين أنفسهم وبينهم وبين أهل الأديان الأخرى... نعم، إزاء هذا كله، لم نشهد جهداً واضحاً أو أي عمل منسّق من قبل الدول والهيئات الإسلامية، لبلورة هذه التشريعات والمفاهيم الإسلامية، وتقديمها بشكل مواد قانونية واضحة يمكن أن يُعمل لتطبيقها في العالم الإسلامي بمساعدة المنظمات والهيئات القائمة أو المستحدثة، وتكون هذه في الوقت نفسه المدخل الصحيح للتعامل مع الإعلانات والاتفاقات الدولية بهذا الخصوص، كما تعدُّ اسهاماً إنسانياً حضارياً بنّاءً وليس حضوراً هامشياً ينفعل بما يقرره الآخرون كما يحصل اليوم! إنّ بلورة تشريعات حقوق الإنسان كما بيّنها الإسلام، وإعلانها في وثيقة مُلزمة للبلدان الإسلامية، أنظمة ومنظمات سياسية واجتماعية، هي من الضرورات والبديهيات التي يحتّمها الانتماء إلى هذا الدين العظيم الذي أراد لأتباعه أن يحتكموا ويرجعوا في كل أمورهم وقضاياهم إلى ساحة عدالته المتمثلة في تشريعاته والتي تتسع للجميع وتنصف الجميع. إنّ هذا الأمر هو واجب العلماء والمفكرين المسلمين، كما هو واجب الحكومات في البلاد الإسلامية، وخصوصاً تلك التي جعلت من الإسلام عنواناً لحركتها وقاعدة لنظمها وتشريعاتها، فهذه مسؤولياتها أكبر وأعظم في هذا المجال... وفضلاً عما توفّره الشرعة الإسلامية الملزمة لحقوق الإنسان من ضمانات أساسية لحياة حرّة كريمة للأفراد والجماعات، ولكل الذين ينشطون في الحقل العام في البلاد الإسلامية، فإن مراعاتها إذا ما أعلنت وأقرت تجنّب كثيراً من المشاكل والمآسي التي نراها تحدث اليوم بسبب الصراعات المؤلمة، وبسبب عدم الاهتمام بقيمة الإنسان وحقوقه التي أقرّها الإسلام قبل غيره، في كثير من الأماكن والبلاد. وبالإضافة إلى ما تقدّم فإنها تعدُّ حماية لمجتمعاتنا من فوضى السلوكات والمفاهيم الغربية المادية المتحللة التي يريدون فرضها عليها باسم حقوق الإنسان كالشذوذ والتحلل الجنسي والاستهتار والاستهزاء بالعقائد والقيم الدينية والخُلقية الراسخة، كما أنّها تقطع أصابع التدخل الأجنبي الطامع والمستغل لهذا الشعار الإنساني، حيث يفقد المبرر لذلك، عندما تقوم البلدان الإسلامية بواجباتها كاملة في هذا الصدد. وليكن لنا في السلف الصالح الواعي، وفي موقف كموقف العلامة الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء خير مثل واعتبار، عندما رفض في الخمسينات من القرن المنصرم حضور مؤتمر روّجت له الأبواق الغربية في بلدة بحمدون اللبنانية تحت شعار حماية حقوق الإنسان، وكانت الغاية الحقيقية من ورائه خدمة أغراض أخرى مبيّتة، وهو لم يكتف بعدم الحضور بل وضع كتاباً بهذا الخصوص وجّهه للمؤتمرين وكان بعنوان (المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون) – إشارة إلى المؤتمر المذكور –. لقد كانت هذه بادرة فردية مشكورة، فهل يبادر أهل الرأي وذوو الشأن من منطلق إيجابي لا سلبي إلى العمل الجاد المخلص لإيجاد وإقرار هذه الشرعة الملزمة التي تحفظ حقوق الإنسان وتراعي الخصوصيات وتؤكد أهمية الإسلام ودوره في حياة المسلمين؟ المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 39 و40 لسنة 1993ممقالات ذات صلة
ارسال التعليق