عندما يصبح متاع الدنيا أكبر همنا ومبلغ علمنا فلا يوزن الناس إلا بميزانه ولا ينالون تكريماً إلا على أساسه عندها يمكن أن تبكي على الموازين التي اختلت والقيم التي ضاعت وتعطلت، والأخلاق التي انسحبت من ميادين المفاضلة بين الناس..
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم *** فأقم عليهم مأتماً وعويلاً
أعرف أنّ في مجتمعنا اليوم صحوة أخلاقية طيبة نحسها في سلوكيات رجالنا ونسائنا والعديد من شبابنا وهؤلاء هم أهل اليقظة في الدنيا وهم في الآخرة إن شاء الله من أهل الكرامة (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى) (الضحى/ 4)، ولكن نعرف كذلك أنّ في مجتمعنا بقيةً من رجال ونساء يطلبون من الإسلام أن يصانع أهواءهم وإلا دعوا إلى حبسه في المساجد فلا يخرج منها إلى حياة الناس وهؤلاء هم أهل الغفلة عن الله وعن سننه الماضية في هذا الوجود. لا تسمع في حديثهم رعشة الخوف من الله، ولا لهفة الطمع في نعيم الجنة، ونعوذ بالله من غفلة القلب عن ذكر الله وعن لقاء الله (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يونس/ 7-8). والمبتلى بهذه الغفلة لا يجاور ولا يُهتدى برأيه وفكره (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف/ 28). ويحدثنا أبو بكر بن عياش في القرن الثالث الهجري عن نوع من الغفلة أصاب الناس في زحام الحياة فيقول: "إنّ أحدهم لو سقط منه درهم لظل يومه يصرخ ويقول: إنا لله ضاع درهمي ولا يقول ضاع يومي ولم أعمل فيه شيئاً"، فالرجل يرى أننا نفقد أيامنا وساعات عمرنا من غير مقابل ولا نحزن عليها فإن ضاع منا مال أو فقدناه، بكينا واشتكينا وألمت بنا الحسرات وكأن قليل المال أو كثيره أهم عندنا من أيام عمرنا وسنوات الأجل المحدود، فالفرق واضح في هذا بين منطق الغفلة ومنطق اليقظة أو بين الاغترار بالعاجل والنظر إلى الآجل وأحياناً يغازلنا الأمل في مطمع أو منصب أو مال على بعد أعوام قادمة فنعيش في لهفة الانتظار ونشعر بأنّ الساعات والأيام والشهور تمضي بطيئة نستعجل أعمارنا من أجل أهوائنا ومطامعنا فإن ضاعت الأعوام في الجري وراء السراب فعندها تسمع صرخة المتحسر على ما ضاع من متاع الدنيا وليست صرخة النادم على سنوات ضاعت من غير عمل صالح يلقاه أمامه ويفرح به (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) (النبأ/ 40)، وأسوأ مظاهر الغفلة في عصرنا أن ترى إنساناً وصل إلى مرحلة الضعف والشيبة وهي المرحلة الأخيرة في رحلة الإنسان، وفيها يتفرغ المؤمن لأمر الآخرة أو يجعل للآخرة في أعماله نصيباً كبيراً، ولكنك ترى صاحبنا منافساً في متاع الدنيا منافسة لن تبق في حياته مكاناً لأعمال الآخرة، فمتى نفيق من غفلتنا فنسأل أنفسنا اليوم قبل أن نُسأل غداً عن عمرنا فيم أفنيناه؟ فلا تقل ذهب درهمي ولكن قل ذهب يومي ولم أصنع فيه شيئاً. فإن ضيعت بعض يومك فقد ضيعت بعض عمرك.
من مظاهر اليقظة في تاريخنا العامر بالأمجاد أنهم كان يحافظون على الحياء العام، ولا يسمحون لمنتهك أو منتهكة أن يجرحا حياء الناس لا بالأقوال ولا بالأفعال، فحرمات العباد منطقة محرمة لا ينبغي أن تنتهك ولا أن يقترب منها ماجن أو ماجنة بكلمات تخدش الحياء أو تجرح المشاعر، كان الفرزدق شاعراً يحب الحديث عن النساء، وخصوصاً المتزوجات فلقيه الصحابي الجليل أبو هريرة وأراد أن يصرفه عن هذا التهتك فقال له: "أنت الذي تقذف المحصنات، إني أرى عظمك رقيقاً وعرقك دقيقاً ولا طاقة لك بنار جهنم فتب فإنّ التوبة مقبولة من ابن آدم حتى يطير غرابه"، فأبو هريرة لم يعجبه أن يردد هذا الشاعر ذكر النساء في شعر يتداوله الناس ويتغنون به، ونعرف كذلك أنّ هذا الشاعر قد تعرض للتهديد بالعقوبة من بعض الأمراء، فمن باب الغفلة عن الله وعذابه وعن قيم المجتمع المسلم وآدابه أن يسمح لرجل أو امرأة بحديث طويل يجرح الحياء في البيوت وفي الشوارع والميادين، من أراد أن يتكلم فليقل خيراً أو ليصمت، فملاحقة مصادر الفتنة سلوك مطلوب حتى لا تنطلق الألسنة بكلام يجرح حياء الناس ومشاعرهم (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النور/ 24)، لكن يبدو أنا ألفنا الغفلة عن الأدب العام والحياء العام خلال ثلاثين عاماً حتى صار سوء الأدب من أشهر أنواع الأدب وصار الخروج عن الحياء لوناً مشهوراً من الإبداع والفن (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) (يونس/ 92).
المصدر: كتاب القرآن وقضايا العصر
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق