• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حقوق الإنسان بين الكونية والخصوصيات

د. رافع بن عاشور

حقوق الإنسان بين الكونية والخصوصيات

◄لا تزال إشكالية حقوق الإنسان بين الكونية أو العالمية، والخصوصيات الوطنية والدينية والعرقية، مطروحة على بساط الدرس ولم يقع الاهتداء بعد إلى الجواب المقنع الشافي، رغم بساطة هذه الإشكالية ظاهرياً. ومختلف المقاربات المعتمدة تفسر هي نفسها الفشل الدائم لإيجاد الحل النهائي الذي يرضي في الوقت نفسه المدافعين عن الكونية والمنتصرين للخصوصية.

فالموضوع يطرح عادة في صيغة تساؤل ينفي إمكانية التوفيق بين عنصري الإشكالية: هل تمتاز حقوق الإنسان بالكونية أو هل هي بالعكس تمتاز بالخصوصية؟ ومن البديهي أن طرح الإشكالية بصيغة تفرض الاختيار تؤدِّي بدون شكّ إلى التناقض، زد على ذلك، أنّ مقاربة الموضوع كثيراً ما تطرح بشكل نضالي تغلب عليه الأيديولوجيا والتحزب السياسي.

فهنالك، فريق يرفع شعار كونية حقوق الإنسان، مدعياً أنّ هذه الأخيرة لا يمكن أن تخضع لأي استثناء وأنّه لا يمكن إخضاعها للخصوصيات مهما كانت طبيعتها سواء، كانت سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو لغوية أو دينية.. فيرى هؤلاء أنّ حقوق الإنسان واحدة في كلّ مكان وفي كلّ محيط وأنّها مقدّسة. فحسب رأيهم أنّ الإنسان واحد مهما كان المكان الذي يعيش فيه، ومهما كانت الظروف التي يوجد فيها، ومهما كانت الفترة الزمنية التي ينتمي إليها. فالإنسان من هذا المنظور غاية الكون، منه تنطلق جميع الأشياء وإليه تعود.

وفي مقابل ذلك هناك مَن يقول بنظرية معاكسة تماماً، ترى أنّ الكونية المدعاة لحقوق الإنسان افتراء، وأنّها وجه من وجوه الهيمنة الثقافية الغربية وأنّها طريقة لفرض توجه معيّن، ألا وهو النظرية الغربية لحقوق الإنسان التي أفرزتها الفلسفة السياسية خلال القرن الثامن عشر في أوروبا، والتي ترجمها الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789م. وترى هذه النزعة أنّ نظرية حقوق الإنسان هذه، يجب أن تفرض فرضاً على الأُمم والشعوب المختلفة. وقد أكّدت شخصيات كبيرة أنّ هذه الكونية المفترضة لحقوق الإنسان لا تقوم على أساس علمي سليم. فمثلاً صرّح الكاتب (إدلمان برنارد) سنة 1991م قائلاً: عندما نتحدّث عن كونية حقوق الإنسان، فإنّنا ندعي إضفاء صبغة كونية على كونيتنا. فمن هذا المنطلق يكون الحديث عن الكونية وجهاً من وجوه تخليد الخطاب الاستعماري المهيمن. وقد كتبَ محمّد أركون في هذا الصدد: (في ذلك إعادة للخطاب الاستعماري الذي كان يضفي الشرعية على إخضاع الشعوب والثقافات الأُخرى بتصدير الحضارة الأوروبية). ولمواجهة هذه الكونية المدعاة يؤكّد هذا الحزب على الخصوصيات الوطنية والجبهوية، ويدافع عنها بتنوّع المحيط الثقافي والديني، ويرى أنّ لكلّ حضارة حقوق إنسان خاصّة بها تتناسب وثقافتها.

وتوجد نزعة ثالثة تحاول التوفيق بين النزعتين المذكورتين، فتؤكّد أنّ الكونية لا تنفي الخصوصيات وأنّه يمكن الجمع بينهما. وقد وجدت هذه النزعة تكريساً رسمياً لرؤياها في الإعلان النهائي الصادر عن مؤتمر فيينا حول حقوق الإنسان، الذي نصّ على ما يلي: (جميع حقوق الإنسان عالمية وغير قابلة للتجزئة ومترابطة ومتشابكة، ويجب على المجتمع الدولي أن يعامل حقوق الإنسان على نحو شامل وبطريقة منصفة ومتكافئة، وعلى قدم المساواة، وبنفس القدر من التركيز. وفي حين أنّه يجب أن توضع في الاعتبار أهميّة الخاصيات الوطنية والإقليمية ومختلف الخلفيات التاريخية والثقافية والدينية، فإنّ من واجب الدول بصرف النظر عن نُظمها السياسية والاقتصادية والثقافية، تعزيز وحماية حقوق الإنسان والحرّيات الأساسية).

وحيال هذا الجدل، يمكن أن نطرح السؤال التالي: هل كلّ تفكير حول ماهية حقوق الإنسان محكوم عليه بالفشل وبالجدل العقيم؟ وهل من المفروض أن يبقى كلّ فريق على موقفه متشبثاً باعتقاداته وأيديولوجيته؟ وهل يعني عقم هذا الجدل، أنّ المشكل مطروح من الأساس طرحاً مغلوطاً غير علمي، مآله بالضرورة الفشل والمغالطة؟

جواباً على هذه الأسئلة نقول: إنّ التفكير حول مسألة حقوق الإنسان من جميع جوانبها، واجب وضروري، بل هو مستعجل لتخليص المسألة من المغالطة ومن التلاعب، وباعتبار أنّها مسألة تبوأت الصدارة في الاهتمامات الدولية، وأصبحت طاغية على العلاقات بين الأُمم بل صارت معيار العلاقات بين الدول ومكيال مساعدة الدول الضعيفة.

سوف نحاول ـ ومحاولتنا لا تدّعي أبداً غلق باب النقاش، أو إنهاء الجدل العلمي الموضوعي ـ طرح المشكل بطريقة رصينة تتجنّب أكثر ما يمكن، المؤثرات الذاتية وتحاول أن تقترب قدر المستطاع من الموضوعية، وإن كانت هذه الأخيرة، في ميدان العلوم الاجتماعية بصفة عامّة، وفي ميدان العلاقات الدولية بصفة خاصّة، صعبة المنال. ولذلك فإنّ الطريقة الأقل خطورة لطرح المشكل بداية، وللإجابة عنه ثانياً تتمثّل في التساؤل عمّا نتكلّم عنه في الحقيقة: هل أنّ مفهوم حقوق الإنسان متفق عليه، وهل يستعمل أنصار نظرية كونية حقوق الإنسان ومعارضوهم أنصار نظرية خصوصية حقوق الإنسان المفهوم نفسه فما هي الكونية التي عنها يتحدّثون، وما هي الخصوصية التي باسمها يدافعون، على أي حقوق إنسان هم في الحقيقة يتنافسون؟

- مفهوم الكونية:

يتعيّن بادئ ذي بدأ حصر مفهوم الكونية، فهذه الأخيرة تطلق على كلّ ما هو منسوب إلى الكون، إلى العالم أي إلى البشر كلّهم بدون تمييز بين الأقطار والأجناس، أو بعبارة أُخرى كلّ ما يهم الناس جميعاً المنتشرين في جميع أنحاء المعمورة. وكونية حقوق الإنسان تعني مبدئياً أنّ جميع الناس يتمتعون بالحقوق نفسها، وأنّه لا أساس للتمييز بينهم. ويبدو أنّه يوجد اتفاق عام حول هذا النقطة بالذات ولا يشكك في حقيقتها أيّ كان. وقد كرّس القرآن العظيم هذا البُعد بجلاء في قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13)، وتبرز من خلال هذه الآية الكريمة البليغة وحدة الجنس البشري واستحقاقهم بدون تمييز لجميع الحقوق، باعتبار أنّ الدِّين واحد، وأنّ القرآن عالمي في رسالته وفي تطبيقه، وأنّ التقوى هي القاعدة التي تقوم عليها المسؤولية الفردية.

كما تسلّم جميع الدول وجميع النظريات الفلسفية والسياسية بوجوب احترام حقوق الإنسان وبتعلّقها بها. فاليوم لا توجد ولو دولة واحدة في العالم، تصرّح برفضها لحقوق الإنسان، بل كلّها تعلن عن أهميّة الصكوك الدولية المتعلّقة بحقوق الإنسان وتمسكها بما جاء فيها من أهداف نبيلة، لكنّها تنفي أن تكون لجميع حقوق الإنسان القيمة نفسها، بل إنّها تجادل حتى في استحقاق بعض الحقوق والحرّيات المنصوص عليها دولياً، الموصوفة بحقوق الإنسان.

وتأسيساً على هذا التوافق في الآراء والنظريات يمكن أن نعتبر أنّه يوجد قاسم مشترك بين الجميع، لكن هذا التوافق لا يجدي نفعاً، فهو لا يعدو أن يكون شكلياً ولفظياً، فإن كانت حقوق الإنسان تتعلّق فعلاً بالناس كافة، فإنّ الإشكال المطروح يبقى قائماً برمته، ولابدّ من التساؤل على أي حقوق للإنسان تنطبق هذه الكونية؟ وفي ما يتمثّل القاسم المشترك؟ فالجدل بين مناصري الكونية ومناصري الخصوصيات، لا يتعلّق بمعرفة هل يتمتع جميع الناس بحقوق، بل هو يدور حول النقطة التالية: هل يتمتع جميع الناس، مهما اختلفوا، وأينما وجدوا بالحقوق نفسها، وهل تطبق هذه الحقوق بطريقة متجانسة؟ لذلك فإنّ التوافق حول وجوب احترام حقوق الإنسان لا يمكن من تجاوز الإشكال الأصلي، ويرجعنا إلى نقطة الانطلاق ووجوب تحديد ماهية حقوق الإنسان.

ورغم كلّ هذا، فإنّ تعريف الكونية مهما كانت محدوديته، له بعض المزية إذ يمكننا من التمييز بين كونية حقوق الإنسان وتدويل حقوق الإنسان. وبفضل هذا التمييز يمكننا التشكيك في حقيقة وجود قاسم مشترك. فمفهوم التدويل يفترض أسلوباً قانونياً لا غير بمقتضاه تخرج حماية حقوق الإنسان من نطاق النظام القانوني الداخلي للدولة، لتصبح من مشمولات النظام القانوني الدولي، وتجد مصادرها في عدد من النصوص والاتفاقات الدولية، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامّة للأُمم المتحدة بتاريخ 10 ديسمبر 1948م والعهدين الدوليين لسنة 1966م المتعلّقين بالحقوق المدنية والسياسية من جهة، وبالحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية من جهة أُخرى، وجميع الاتفاقات القطاعية المبرمة في نطاق منظمة الأُمم المتحدة، أو في نطاق المنظمات الكونية المتخصصة (اليونسكو ـ منظمة العمل الدولية..) أو في نطاق بعض المنظمات الدولية الإقليمية مثل منظمة الوحدة الأفريقية أو جامعة الدول العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي.

ورغم أنّ أغلبية هذه الصكوك الدولية أمضتها إلى حدِّ اليوم أكثر من 150 دولة، وهو ما يقيم الحجّة التي لا يمكن دحضها حول حقيقة الكونية، فإنّه لابدّ من الإشارة أنّ هذه الدول، وإنّك ثرت، لا تمثّل جميع دول العالم، وزيادة على هذا، فإنّ الدول التي صادقت نهائياً على هذه الاتفاقيات وأصبحت قانوناً ملزماً أقل بكثير من هذا العدد. فعلى سبيل المثال لم تصادق على العهد الدولي المتعلّق بالحقوق المدنية والسياسية إلى تاريخ 7 سبتمبر 1993م سوى 125 دولة من 184 عضواً في الأُمم المتحدة في ذلك التاريخ. ويمكن أن نسوق مثالين آخرين أكثر تعبيراً. فالمعاهدة المبرمة سنة 1984م حول مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية والحاطة من الكرامة لم تصادق عليها إلّا 76 دولة فيما لم تصادق إلّا 19 دولة على البروتوكول المؤرخ في 15 ديسمبر 1989م حول إلغاء عقوبة الإعدام. ويمكن أن نواصل إبراز محدودية الكونية التي تركز على المعطيات المتعلّقة بعدد الدول الملزمة بالاتفاقيات الدولية. فكثير من هذه الدول عند مصادقتها على الاتفاقات أرفقتها بتحفظات عديدة. فمثلاً وقع تسجيل أكثر من 200 تحفظ إزاء العهد الدولي المتعلّق بالحقوق المدنية والسياسية. كما أنّ كونية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان محل جدل. فعلاوة على الجدل الذي يحوم حول طبيعته القانونية وحول مدى إلزاميته باعتباره مجرّد توصية صادرة عن الجمعية العامّة للأُمم المتحدة، فإنّ هذا الإعلان لم يعتمد بالإجماع.

لقد نظّمت معظم الصكوك الدولية التي لم نتعرّض إلّا لبعضها، نظرية معيّنة لحقوق الإنسان، تجد مصادرها في الفلسفة السياسية والقانونية الغربية المؤسّسة على نظرية الحقّ الطبيعي، والمعبّر عنها رسمياً في النصوص الأساسية الصادرة عن الثورات البريطانية والأمريكية، وخاصّة الفرنسية. وتعتبر هذه النظرية، الإنسان كائناً مجرّداً، فالإنسان حسب هذا التصوّر هو الفرد الذي يسمو على جميع الاختلافات ويتجاوزها. وقد عبّرت المادة الأُولى من الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر في 26 آب سنة 1789م عن ذلك، إذ جاء فيها (يولد جميع الناس ويبقون أحراراً ومتساوين في الحقوق). وعلى هذا الأساس فإنّ كلّ تمييز محجر بل أكثر من ذلك، لكلّ فرد الحقّ في ممارسة هذه الحقوق ودون قيود، ولكلّ مجموعة الحقّ والأهلية في المطالبة بالتمتع بحقوق الإنسان.

إلّا أنّ نظرية حقوق الإنسان هذه، واجهت انتقادات لاذعة وجهتها لها المدرسة المادية (الماركسية) فهذه الأخيرة عابت على النظرية الثورية الفرنسية تكريسها لحقوق شكلية لا غير، في حين أنّ الحريات الجديرة بالحماية أوّلاً وبالذات، هي الحقوق الحقيقية يعني تلك التي لها علاقة بالحياة اليومية مثل الحقّ في العمل وغير ذلك من الحقوق التي صارت تنعت بكونها حقوقاً اقتصادية واجتماعية.

كما أنّ النظرية الثورية عُرّضت لانتقادات المدارس الأنثروبولوجية الحديثة التي قامت بدراسات ميدانية عن الإنسان المتوحش العائش في أدغال أفريقيا وأميركا. فهذه المدارس ترى أنّ الإنسان المجرّد لا وجود له وأنّ لكلّ فرد خصائصه، ولذلك فلا مجال للحديث عن حقوق جنس الإنسان.

إنّ الانتقادات الموجهة لنظرية حقوق الإنسان لا تؤدِّي إلى نفي كونية حقوق الإنسان، بل بالعكس فإنّها تساهم في بلورتها وفي إضفاء واقعية أكثر عليها. فانتقادات المدرسة المادية مكّنت من إثراء نظرية حقوق الإنسان بما عبّر عنه بالجيل الثاني من حقوق الإنسان، أي الحقوق ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي. أمّا النقد الأنثروبولوجي، فقد ساعد على فرض فكرة النسبية وضرورة تأقلم حقوق الإنسان مع المحيط الاجتماعي. ووجدت هذه الفكرة تكريساً لها في المواثيق الإقليمية مثل الميثاق الأوروبي للدفاع عن حقوق الإنسان أو الميثاق الأمريكي أو الميثاق الأفريقي.. وأخيراً الميثاق العربي.

علاوة على هذه الاعتبارت، فإنّ ما يعاب على النظرية الغربية من كونها متأثرة بظروف ظهورها ومن كونها لا تعكس إلّا الثقافة الغربية، ولا تعبّر إلّا عن مفاهيم غربية غير جدي. فظروف ظهور نظرية أو فكرة، لا تمثّل حاجزاً أمام انتشار هذه النظرية وأمام كونيتها. فبروز نظرية حقوق الإنسان بالغرب، لا يعني أنّ هذه الحقوق هي حقوق الإنسان الغربي. فمثل هذا الادعاء يؤدِّي إلى الحكم بعدم انتشار كلّ نظرية علمية، ويحكم على حقوق الإنسان بأن تبقى غريبة عن المجتمعات غير الغربية.

إنّ تقرير كونية حقوق الإنسان أو عدم كونيتها، لا يحل الإشكال الذي انطلقنا منه إلّا جزئياً، فلا يمكن أن نقدّم الجواب الشافي إلّا إذا استطعنا تحديد حقوق الإنسان ومحتواها.

- أي حقوق إنسان؟

يخضع تحديد محتوى حقوق الإنسان، إلى جدل كبير وإلى تعدّد التصوّرات واختلافها. فكلّ تحديد دقيق لحقوق الإنسان يكون محل إجماع غير ممكن اليوم، وهذا من شأنه نفي كونية حقوق إنسان والتمسّك بالخصوصيات الوطنية والتاريخية والحضارية والاقتصادية. على أنّ هذا الاختلاف يجب أن لا يؤدِّي إلى الاعتقاد بأنّ اعتبار الخصوصيات ينفي فكرة الكونية من الأساس، بل إنّ هذه النتيجة تفرض علينا تصحيح المقاربة وطرح الإشكالية بطريقة سليمة. فعوض طرح الإشكالية في صيغة خيارين متناقضين لا سبيل إلى التوفيق بينهما (كونية أو خصوصيات)، لابدّ من الاعتراف بأنّ الكونية والخصوصيات لا يتنافيان وتواجدهما ممكن في الآن نفسه، فنتحدّث عندئذ عن الكونية والخصوصيات.

وانطلاقاً من هذا التصحيح المنهجي، يمكننا أن نعدّ الإنسان في وحدته وفي اختلافاته، والاعتراف مع الأستاذ محمّد البجاوي (رئيس محكمة العدل الدولية) بأن تصوّر حقوق الإنسان والتمتع بها وممارستها لا يمكن أن تكون على الوتيرة نفسها في جميع أنحاء العالم. فحقوق الإنسان متأثرة بعوامل عديدة خصوصية ذات طابع تاريخي وسياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي. على هذا الأساس، فإنّ التمشي الواقعي يدعونا لا إلى نفي كونية حقوق الإنسان نفياً مبدئياً، بل إلى التفكير الجدي حول أقوم السُّبُل وأنجعها لنشر حقوق الإنسان واحترامها في جميع المجتمعات، وفي جميع الطبقات الاجتماعية دون أن يؤدِّي ذلك إلى نوع جديد من الاستعمار أو إلى ادّعاء حقّ أو واجب التدخل باسم حقوق الإنسان.

إنّ نهج الواقعية يفرض علينا التسليم بمبدأ نسبية حقوق الإنسان، وإلى الاعتراف بأنّ كلّ مجتمع في زمن معيّن من تاريخه، ليس له في ميدان حقوق الإنسان نفس تطلّعات ونفس تصوّرات المجتمعات الأُخرى. فبعض الممارسات التي تعتبر من حقوق الإنسان في بعض المجتمعات، لا يمكن لها أن تدّعي هذه الصفة في بعض المجتمعات الأُخرى. فالمسألة هنا مرتبطة بالمعتقدات الدينية وبالعادات الاجتماعية وبالنضج الفكري وإطلاق الحرّيات ـ كما بيّن ذلك منذ القدم الفلاسفة الإغريق ـ يؤدِّي إلى الفوضى وإلى العنف اللذين يهددان بقاء نوع الإنسان، ولذلك يتعيّن تحديد وتنظيم ممارسة الحرّية للانتقال من الحرّية الحيوانية البهيمية إلى الحرّية الحقيقية المدنية، التي يحقّق بها الإنسان إنسانيته ككائن اجتماعي.

إنّ كلّ صنف من البشر وكلّ أُمّة من الأُمم، لها أولويات خاصّة بها، هي نتاج تطوّرها الحضاري وتاريخها، وتمثّل حالتها الراهنة. لذلك، فإنّ أساليب تطبيق حقوق الإنسان واحترامها لا يمكن أن تكون إلّا متغيرة. فالحقّ في تقرير المصير مثلاً ـ وهو حقّ كلّ شعب من الشعوب في تقرير نظامه السياسي وحقّ كلّ فرد في المشاركة في هذا التقرير، رغم الإجماع الذي يميّزه ـ لا يمكن أن يطبّق بطريقة متجانسة في دولة اكتمل بناؤها السياسي وتركيبتها الاجتماعية ومجتمع بدائي ما زال خاضعاً للحمية القبلية، وما زال يسوده الجهل والفقر.

إنّ الاعتراف بوجود مثل هذه الأولويات وإقرار هذه النسبية، لا يعني أن نقرّ بوجود تقسيم للعالم في ميدان حقوق الإنسان يفرد المجتمعات العربية المتقدّمة بنوع من حقوق الإنسان (الحقوق المدنية والسياسية) والمجتمعات النامية بنوع أدنى من حقوق الإنسان (الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية) ويحكم عليها بعدم الأهلية للحقوق المدنية والسياسية.

كما إنّ الإقرار بوجد هذه الأوليات، لا يمثّل حاجزاً، والاعتراف بوجود مستوى أدنى، أو نواة صلبة ثابتة من الحقوق لا يمكن أن يشملها أي استثناء واجبة الاحترام على الصعيد الكوني، ولا سبيل لمعارضتها باسم الخصوصيات الثقافية أو الأولويات الأُخرى. فلو شئنا تبيان طبيعة هذه النواة، لأمكن أن نقول إنّه من بين القواعد الدولية المتعلّقة بحقوق الإنسان توجد بعض القواعد الآمرة  تعلو على الأُخرى، ولا يمكن عدم احترامها أو تأويلها. فهذه القواعد تمثّل النظام العام الدولي. ففيم يتمثّل هذا النظام العامّ؟

إنّ الحقوق التي يمكن أن تكوّن النواة الصلبة الثابتة لحقوق الإنسان، تسعى كلّها إلى هدف نهائي سام، ألا وهو تحقيق وضع أخلاقي أساسي لكلّ فرد، لا يمكن تصوّر الإنسانية بدونه. وعلى هذا الأساس، لابدّ من استنتاج هذه الحقوق الأساسية من بين جملة حقوق الإنسان، وهي حقوق تكاد تكون مطلقة، وقد أجمعت عليها الشرائع السماوية وكرّستها القوانين الوضعية.

إنّ هذا الإجماع حول وجود حقوق أساسية غير قابلة للاستثناء أو للتكيّف بحسب الظروف، يفرض علينا الاعتماد على معيار دقيق، يمكننا من تحديدها بدقة ومن وضع قائمة لها.

وهذا المعيار لا يمكن أن يكون إلّا العقل. فالحقوق التي تكون النواة الصلبة هي حقوق قد يؤدِّي تجاهلها أو عدم احترامها إلى إهدار كرامة الإنسان وإنسانيته التي فضّله الله بها على جميع المخلوقات في قوله سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء/ 70)، إنّ انتهاك حقوق الإنسان الأساسية يؤدِّي إلى نكران التفضيل الإلهيّ للإنسان على سائر المخلوقات. ومن هذه الحقوق نذكر أوّلاً وبالذات الحقّ في الحياة وفي احترام الذات الإنسانية. فهذه حقوق أساسية لا يمكن إخضاعها لأي استثناء ولا لأي خصوصية. فهي أُولى الأولويات ولا تتحقّق إنسانية الفرد إلّا باحترامها. كما يمكن أن نعتبر من بين الحقوق الأساسية التي تشكّل النواة الصلبة، حقّ الإنسان في الأمان على نفسه وعلى ذويه وعلى ممتلكاته. ولا يمكن لجاحد أن ينكر كونية هذه الحقوق وما يترتب عليها من نتائج مثل تحريم القتل الجماعي أو التعذيب. فهذه الممارسات تنكرها جميع الشرائع ولا يمكن تسويغها بدعوى الخصوصيات أو بدعوى الهُويّة. أمّا بخصوص حقوق الإنسان الأُخرى الخارجة عن النواة الصلبة، فإنّ الحوار يبقى مفتوحاً.

إنّ تأكيد وجود حقوق أساسية للإنسان غير قابل للاستثناء، يعني الاتفاق على قاسم مشترك مفروض على الجميع، ويعلو على جميع الخصوصيات. على أنّ هذا التمييز بين الحقوق الأساسية وغيرها، يجب أن لا يؤدِّي إلى الاعتقاد بأنّ الحقوق الأساسية وحدها واجبة التطبيق، في حين أنّ الحقوق الأُخرى التي أقرتها مختلف الصكوك الدولية اختيارية. فوجود الحقوق الأساسية يعني فقط أنّ هذا النوع من الحقوق لا يمكن أن يشمله أي استثناء. أمّا الحقوق الأُخرى فإنّ طابعها الإجباري ليس محل جدل، ولكن طرق تطبيقها يمكن أن تكون موضوع ترتيبات خاصّة، حسب أولويات كلّ أُمّة دون أن يؤدِّي ذلك إلى نفي القواعد الدولية المقررة، وعلى شرط أن تخضع هذه الترتيبات إلى مراقبة دولية.

وفي الختام، لابدّ من توضيح: إن وجدت اليوم كونية لحقوق الإنسان، وإن ارتقت هذه الأخيرة إلى ميدان العلاقات بين الدول، فإنّه من الضروري أن تكون هذه الكونية كونية حقيقية تأخذ بعين الاعتبار تنوّع واختلاف الحضارات والثقافات. فالكونية يجب أن تكون إيجابية أي أن تكون نتيجة لإثراء متبادل بين الحضارات، ففي كثير من الأحيان، تلخصت الكونية في محاولة للهيمنة، أي في كلمة حقّ أُريد بها باطل►.

ارسال التعليق

Top