- الحاجة إلى القانون:
كانت مسألة العدالة الاجتماعية ولا تزال، من أهم المسائل التي حظيت بالاهتمام لدى المشرعين والفقهاء، والصراع التاريخي على مرّ القرون يؤكد لنا أهمية هذه المسألة في حياة الإنسان، الذي كان يسعى منذ خلقه إلى العيش بحرية وسلام، ويصارع الطواغيت وحكّام الأرض من أجل عدالة منشودة. وقد برز هذا النوع من الصراع بشكل واضح في صورة التناقض بين المبادئ التي أتى بها الأنبياء ورسل السماء، والمبادئ التي صاغها وشرعها مستبدو وحاكمو هذه الأرض، حيث انبثق صراع مرير انتهى بانتصار رسل الحق على شرع الباطل، إلا أنّ الإنسان مع انحرافه وتبديله للشرائع الإلهية وسعيه نحو الدنيا والسلطة، جعل المسألة تبرز من جديد، محاولاً صياغة مبدأ أو قانون يحكم به نفسه ومجتمعه. فنشأت ثورات ضد أنظمة اتّهمت بالاستبداد والظلم والعنصرية ونحوها، ووُجِدَت مدارس قانونية ومذاهب اجتماعية لدراسة وإنشاء قوانين عادلة وصحيحة حسب زعمها. مما يدل على الأقل أن حاجة الإنسان إلى العدالة أو النظام العادل حاجة فطرية وسليمة. - النظام الأصلح: ورغم تطور علم القانون فقد بقيت مسألة النظام الأصلح أو الأكثر عدالة، المشكلة الأعقد، حتى وقتنا الحاضر، وذلك لأنّ القانون يتغذى على طاولة الأحداث والتجارب الاجتماعية التي هي نتيجة الظروف والأوضاع المتباينة وفي مجتمعات شديدة التباين أيضاً. هذا بالإضافة إلى مسألة التعديل والتعيين وظهور الأخطاء في القوانين التي تكشف بوضوح عدم كمال عقل المشرّعين، وغيرهم، الأمر الذي يؤكد أن إنشاء نظام عام وكامل قابل للانطباق على جميع الأزمنة والعصور أمر عسير بل مستحيل، وذلك حتى على صعيد مجتمع أو بلد صغير، لأنّه لن يكون خالياً من الأخطاء بمقتضى عدم العصمة العقلية. وهذا يعني أن مسألة النظام العادل أو الأصلح للبشرية ستبقى عالقة دون حلّ أو جدوى، ويبقى التطلع نحو العدالة أمراً مثالياً دون أن يُدرَك لها أيّ معنى واقعي ملموس. وفي نظر الإسلاميين من فقهاء الشريعة الإسلامية فإنّ مشكلة الإنسان الاجتماعية بكل جوانبها بما فيها مشكلة العدالة قابلة للحلّ من خلال دستور القرآن الكريم الذي شمل كل جوانب الحياة وحلّ مشاكلها، باعتبار أنّه نُزّل وشرّع لأجل الإنسان وحياته، ومن مُشرع هو خالق له ولعقله وقدراته ومحدّد لدوره ومصيره، وهذه النظرة وإن كانت مرفوضة من قِبل مشرّعي القانون الوضعي لعدم إيمانهم بالدستور الكريم، إلا أن نظرتهم هذه تظل مرفوضة أيضاً من قِبَل الكثيرين، ومنقوضة باعترافهم بقصور العقل البشري وعجزه عن إدراك كثير من مصالح ومفاسد الأمور. - حرية الفرد في ظل القانون: تتبلور قيمة الفرد وحريته في الحقيقة التي أُعطيت له في مجال تحقيق إرادته الفردية، لا سيما في العقود منها. وقد أعقب الثورة الصناعية في أواخر القرن التاسع عشر حركة تشريعية ردّت سلباً على حرية الفرد خصوصاً في قانون وعقد العمل. وهذه الحركة جاءت بها الأحزاب الشيوعية التي قامت بتأميم المصانع الكبرى وإلغاء الملكية الخاصة كونها – بزعمهم – سبباً للاستغلال والاحتكار، فلم يبقَ للفرد أيّ مجال لإرادته الحرة حتى في العقد سوى في النطاق الضيق الذي يحدّده له القانون الاشتراكي. في مقابل ذلك كله كانت ثورات قامت في أوروبا من أجل حرية الإنسان وحرية امتلاكه لما يشاء، لهذا يؤكد القانون المدني الغربي الرأسمالي حالياً، على أنّ الملكية هي حق التمتع بالأشياء والتصرّف بها بشكل مطلق، بشرط عدم استعمالها في مجالات تحظرها القوانين والأنظمة. أمّا القانون الإسلامي فقد نظر إلى مسألة حرية الفرد وتملّكه من جانبين: أوّلاً: الجانب النفسي والإرادي في الإنسان. ثانياً: الحدود المتاحة لممارسة حق التملّك والملكية. أمّا الجانب الأوّل، فبما أنّ الإنسان كائن حرّ الإرادة والاختيار خلقاً وطبيعة، فمن حقه إذاً أن يختار ويمتلك ويعبّر عن غريزته الفطرية "حبّ التملّك"، فبدلاً من حرمان الفرد من هذا الجانب الفطري أعطاه الإسلام هذا الحق معتبراً أنّ الإستغلال والاحتكار ناشئان أساساً من طغيان المصلحة المادية الشخصية وليس من وجود الملكية نفسه، لأنّه بالإمكان أن تُوجَد وأن يمتلك الناس الأشياء، ولا يحدث أي استغلال أو احتكار، ولو من خلال وجود رقابة خارجية ممثّلة بالسلطة، أو رقابة ذاتية عند الفرد تُحرّم عليه هذا النوع من الأذى والضرر. والحاكم الشرعي بمقتضى ولايته العامة على الدولة وشؤونها، أو لوجوب حفظ النظام يستطيع منع حدوث أي خلل يمكن أن يُضر بالمصلحة العامة، إذ يحق له مسّ حقوق الفرد إذا أضرت بالخير العام أو بما فيه مصلحة الجميع. والشريعة الإسلامية تقرّ مبدأ حق الملكية عن طريق العمل "من أحيى أرضاً فهي له". والمصلحة العامة تبقى الهدف الأوّل والأخير لها. أمّا الجانب الثاني: فحدوده تخضع دائماً لنظر الحاكم بما هو حاكم شرعي له الحق في تحديد نوع الممارسة وماهية الملكية ضمن الشروط المعتبر فيها. وتدخل "الشارع المقدس" (الله تعالى) في رسم تلك الحدود مبني على إخضاع الحريات للسلطة الشرعية المفروض اتصافها بالحكمة. فلا يكفي في عقد البيع مثلاً أن يكون من الأمور العقلانية كي يترتب أثره إذا لم يُمضهِ الشارع ضمن الشروط التي يصح العقد بموجبها، كما لا يكفي مع الإمضاء وترتيب الأثر أن يمارس الفرد مطلق حريته من دون ضوابط وحدود تحفظ الحق العام وكيانه. - القانون والأخلاق: تدعو الأخلاق بشكل عام إلى رفع مستوى الإنسان عن طريق تحسين خلقِهِ الإنساني دائماً، فهي التي ترفع أو تحطّ من قيمته وشأنه. لذلك فليس بوسع أي قانون أن يتجاهلها في تشريعاته باعتبارها عنصراً ذاتياً متأصّلاً في الإنسان، وعنصراً حضارياً من عناصر وجود الأمم واستمرارها. ونحن من خلال نظرتنا العقلية إلى الطبيعة البشرية نلحظ أنّ النفس باشتمالها على نزعاتٍ طبيعية ممدوحة وأخرى مذمومة، لا يمكن لها أن تستمر أو تمارس دورها في الحياة من دون أن تحصل على دعم أو حصن "أخلاقي" يساعدها على تنمية تلك النزعات الممدوحة الخيِّرة، والتغلّب على نوازعها المذمومة. فلا يكفي أن يدرك العقل أن هذا العمل حسنٌ أو قبيح من دون أن يمتلك القدرة الداخلية على فعله أو عدم فعله. من هنا كانت الحاجة إلى صياغة "أخلاقية" تضمن عدم الانحراف الخُلُقي والاجتماعي، وتضمن التفوّق الروحي على قيم الجسد المادية. والعقلاء والفقهاء يَرَون أنّ الأخلاق تشكّل نقطة أساسية في التشريع لوجود تلك الأوامر النفسية الداخلية، التي تأمر الفرد غالباً بألا يسرق أو يقتل أو يعتدي على الآخرين بلا مبرر أو سبب. والقانون الطبيعي هو القانون الذي يراعي هذه الحقيقة، ويعتبرها أساسية في صقل النفس البشرية، إذ هي تُبرز خصائصية ومميزية الإنسان عن غيره من سائر الكائنات، دوره في بناء المجتمعات المتمدنة الراقية. فلابدّ إذاً لأي دستور أو قانون أن يأخذ بعين الاعتبار عنصر الأخلاق في تشريعاته تحقيقاً للتوازن في الجانبَين الروحي والمادي، وتكريساً لتوجّه الإنسان نحو الخير العام. والقاضي أو الحاكم الشرعي لا يدري عادة ماذا يكمن في وجدان الفرد إذا أراد تطبيق القانون عليه، ولا يدري إذا كان قد أتى ببيِّنة حق أو حَلَفَ صِدقاً، إلا أنّ الأخلاق كمبدأ وتشريع بإمكانها أن تساعده بأن تفرض أو تطلب من الوجدان الصِدق وتحمّل المسؤولية. وهي بهذا تضفي على الدستور الصفة الشرعية، لأنها تدعمه من خلال الشعور باتصال وارتباط قيم الناس "الأخلاقية" بالقانون، وفرض نفسها واقعاً ووجدانا. لهذا نلحظ أنّ الحاكم الشرعي في مقام فصل الدعاوى يعتمد على شهادة العدل الثقة الملتزم بمبادئِهِ "الأخلاقية" التي تفرض عليه قول الحق، وما اللجوء إلى حسمها من خلال ذلك وبالظاهر من الحجج والبينات إلا وسيلة من وسائل إثبات الحق الظاهري، وإلا فالحق الواقعي غير معلوم. قال رسول الله (ص): "إذا اجتهد الحاكم وأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد"، وقال (ص) أيضاً: "إنما أنا بشر وإنكم لتختصمون إليّ وعسى أن يكون بعضكم ألحن بحجّته من الآخر، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من نار فليأخذها أو يتركها". المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 57 و58 لسنة 1995ممقالات ذات صلة
ارسال التعليق