• ٦ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تعيين القبلة بين أساليب العلم وآراء الفقهاء

د. يوسف مروة

تعيين القبلة بين أساليب العلم وآراء الفقهاء

 

1- مقدمة حول مفهوم القبلة وأهميتها: القبلة لغة الجهة، وقبلة المصلي، أي الجهة التي يتوجه نحوها المصلي. والمراد بها الشيء الذي يجب استقباله بحيث يصدق عرفاً أنّ الإنسان استقبله وتوجّه إليه. وقال بعض المفسرين: المراد من قوله تعالى: (اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) (يونس/ 87)، أي بعضها مقابل بعض حتى يتمكنوا من الإتصال والاجتماع بدون رقابة عين السلطة عليهم. والقبلة اصطلاحاً هي الخط الوهمي الذي يصل بين مكان المصلي (أينما كما على سطح الكرة الأرضية) وبين الكعبة أو المسجد الحرام في مكة، بحيث يتميز هذا الخط بالاستقامة والأقربية والاتجاه الصحيح. ومعرفة القبلة وتحديدها يعتبران شرطاً ضرورياً في خمسة أمور شرعية تكليفية: الصلاة والطواف وبناء المساجد ودفن الأموات وذبح الأنعام. والمعروف من الروايات والأحاديث أنّ الصلاة أصبحت فريضة تكليفية بعد الإسراء والمعراج، أي منذ 27 رجب في السنة الثانية قبل الهجرة (الموافق ليلة 19 أيار 620م). وكانت قبلة المصلين في البداية بيت المقدس في فلسطين، واستمر المسلمون بالصلاة نحو بيت المقدس سنتين وشهرين في مكة، وستة عشر شهراً في المدينة، فيكون كامل مدة الصلاة نحو بيت المقدس حوالي ثلاث سنوات ونصف. وبدأ المسلمون بالتوجّه نحو الكعبة كقبلة لهم، بعد أن أخذ يهود المدينة يضايقونهم ويتهمون الرسول (ص) بأنّه مقلّد لطقوسهم إلى درجة أنّه يصلي باتجاه قبلتهم. فاستجاب الله إلى رغبة نبيّه وأمره بأن يتخذ من المسجد الحرام في مكة قبلة له بديلاً عن بيت المقدس. ولمعرفة أهمية ضرورة معرفة القبلة ننقل عدة آيات من سورة البقرة: 1- (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة/ 142). 2- (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ...) (البقرة/ 143). 3- (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ...) (البقرة/ 144). 4- (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ...) (البقرة/ 145). 5- (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة/ 149). 6- (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ...) (البقرة/ 150). فمسألة تعيين القبلة ومعرفتها في منتهى الأهمية وواجبة وجوباً تكليفياً على كل مسلم ومسلمة في أي بلد من العالم. إذ بدون هذه المعرفة يصعب على المسلم أن يمارس قسماً هاماً من الفرائض التكليفية كالصلاة التي لا تصح إلا بأن يولي المصلي وجهه نحو القبلة حتى ولو كان المكلف في الأمصار البعيدة (مثل كندا والولايات المتحدة واليابان وسواها) فعليه أن يدقق في تحصيل معرفة القبلة، وإن كان يجوز له أن يعوّل على قبلة البلد الذي هو فيه إلا إذا علم الخطأ فيها، فعندها يرجع إلى العلم ويسأل أهل الخبرة والاختصاص والمعارف أو يعمد إلى استخدام الوسائل والمؤشرات الشرعية كالاستدلال بالنجم القطبي (الجدي)، أو يعمد إلى استخدام مجسّمات أو خرائط الكرة الأرضية الخاصة مثل خرائط الاسقاط المتساوي الاستطالة (Equirectangular) أو الاسقاط المخروطي المتعدد (Polyconic) أو خرائط المسح الجوي أو خرائط خطوط الطيران الحديثة أو البوصلة المصحّحة إلخ.. فإذا كان منقطعاً عن العمران ولم تتوفر له أي وسيلة شرعية تهديه صلّى موقتاً إلى التجاهات المحتملة صحتها في أن يعرف الاتجاه الصحيح وتكون صلاته في هذه الحالة مقبولة.   2- لمحة تاريخية عن أعمال العلماء المسلمين في تعيين القبلة: كانت مسألة تعيين القبلة ذات أهمية خاصة، وكان هناك اجماع بين العلماء والفقهاء على صحة وصدق زوايا القبلة من خلال الحسابات والأرصاد. ويلاحظ ذلك الاتفاق والاجماع من خلال دراسة المراجع الإسلامية التاريخية حول هذا الموضوع، مثال ما ألّفه الرياضيون الفلكيون: 1- رسالة في استخراج خط نصف النهار وسمت القبلة، ليعقوب الكندي (801-867م)، 2- القبلة والزوال، لأحمد أبي حنيفة الدينوري (831-895م)، 3- كتاب سمت القبلة، لأبي العباس الفضل بن حاتم النيريزي (861-923م)، 4- سمت القبلة بالحساب، للفيزيائي الحسن بن الهيثم (965-1039م)، 5- إيضاح الأدلة على كيفية سمت القبلة، لمحمد بن أحمد أبي الريحان البيروني (973-1048م)، 6- كتب تحيد القبلة، لأبي العباس ابن البنّاء المراكشي (1256-1321م)، 7- رسالة القبلة، للشيخ بهاء الدين العاملي 1546-1622م). 8- معرفة القبلة، للفقيه الميرزا عبدالرزاق خان البغايري (1790-1862م). وكان العالم الرياضي الكبير محمد بن جابر البتاني (858-929م) أول من تعمّق بدراسة المثلثات الكروية وبحث في العلاقات الرياضية بين زوايا وأقواس المثلث الكروي، وتوصل إلى وضع قوانين الجيب (Sine) وتمام الجيب (Cosine) الخاصة بالمثلثات الكروية، وتلاه الرياضي أبو الوفاء البوزجاني (940-998م) الذي وضع البراهين اللازمة للعديد من نظريات الهندسة والمثلثات الكروية واستخدام نسبة الظل (Tangent) وتمام الظل (Cotangent) لأوّل مرة. وتتوجب الأبحاث الإسلامية في هذا الموضوع بالدراسات التي وضعها العلامة الرياضي الفلكي نصير الدين الطوسي (1201-1274م). ونشير باختصار إلى أهم القوانين الرياضية التي تستخدم في حساب زاوية القبلة والمعروفة في علم المثلثات الكروية وتنسب إلى الرياضي الكبير البتاني، وهي: 1- قانون الجيب (Sine) ورمزه جا (Sin): يستخدم هذا القانون في حساب قيمة أضلاع المثلث الكروي (أي أقواس الدوائر العظمى المتقاطعة على سطح الكرة) وزواياه بالدرجات القوسية، وصيغة هذا القانون كما يلي:   جاء   = جابـ   = جاجـ جاأ جاب جاج حيث أن أ، ب، ج، ترمز إلى زوايا المثلث و ء، بـ، جـ، ترمز إلى الأقواس المقابلة للزوايا، التي هي أضلاع المثلث. 2- قانون تمام الجيب (Cosine) ورمزه جتا (Cos): ويستخدم هذا القانون في حساب قيمة أضلاع المثلث الكروي (أي أقواس الدوائر العظمى المتقاطعة وإحدى زواياه بالدرجات القوسية. وصيغ هذا القانون كما يلي: جتاء = جتابـ جتاجـ + جابـ جاجـ جتاأ جتابـ = جتاء جتاجـ + جاء جاجـ جتاب جتاجـ = جتاء جتابـ + جاء جابـ جتاج وقد ساعدت جداول الأرصاد الفكلية (الأزياج) والحسابات الأرضية المبوبة والخرائط الإسلامية (التي وضعها الخوارزمي واليعقوبي والسرخسي والجيهاني والهمداني وابن فضلان والمسعودي والمقدسي والاصطخري وابن حوقل البيروني والادريسي والمازني والهروي وابن جبير وياقوت الحموي والقزويني وابن بطوطة وابن ماجد إلخ...) في تسهيل عمليات الحساب وتطبيق القوانين المذكورة أعلاه. وفي مكتشفات العلم الحديث شواهد على مدى اهتمام المسلمين القدامى بدقة تعيين القبلة في بناء مساجدهم. فمثلاً اكتشف عالم الآثار البريطاني مارك هورتن في جزيرة صغيرة تقع غربي جنوب المحيط الهندي تسمى باتيه (Pate) أثناء التنقيب عن الآثار، بقايا مسجد مطمور يرجع تاريخ بنائه إلى عام 780م ووجد أن محراب المسجد يتجه نحو القبلة بدقة محيّرة. والمعلوم أنّ المسلمين الأوائل الذين جاؤوا كبحارة وتجار إلى مدن أميركا الشمالية منذ عام 1854م ومعظمهم كانوا من اليمنيين (البحّارة) والمغاربة (التجار) قد علموا اتجاه قبلتهم عن طريق الحساب باستخدام صيغ ومعادلات البتاني والبيروني الرياضية. وكذلك فعل المهندسون المعماريون (فيما بعد) الذين وضعوا خرائط بناء المساجد في معظم مدن أميركا الشمالية بعد أن تكاثر عدد المسلمين في المدن الأميركية والكندية. وفي كل المساجد التي بنيت في هذه المدن كانت القبلة تتجه نحو الشمال الشرقي بزوايا حادة من الشمال الجغرافي تختلف حسب موقع كل مسجد. ففي نيويورك 59 درجة، وفي واشنطن 56.9، وفي أنجلوس 24، وفي تورنتو 55، وفي مونتريال 58، وفي أوتاوا 57.7 ... إلخ ثمّ جاءت الوسائل العلمية التقنية الحديثة مثل المسح الجوي بواسطة الطائرات والأقمار الصناعية والسفن الفضائية باستخدام أشعة الرادار والليزر وتحت الحمراء... إلخ لتؤكد ما قال به الحساب.   3- تفاصيل الخلاف الحالي بين الفقهاء حول الاتجاه: إنّ الخلاف على مسألة تعيين القبلة في أميركا الشمالية محصور فقط بين المسلمين العرب. لأنّ المسلم غير العربي يتعرف إلى اتجاه القبلة بالاستعلام والاستفسار من أهل الخبرة والاختصاص في بلده. علماً أنّ موضوع تعيين القبلة يدرّس في الحوزات والمعاهد الإسلامية في (إيران، أفغانستان، باكستان، الهند، أندونيسيا وسواها) كمادة دراسية تحت عنوان: (علم الهيئة الخاص بتعيين القبلة). ولم يسجل تاريخ الجاليات الإسلامية في أميركا الشمالية (1854-1985م) أي خلاف على تعيين القبلة، بل كان الجميع يتجهون نحو الشمال الشرقي بزوايا تختلف حسب موقع كل مدينة. وفي عام 1986 حصل خلاف جانبي بين بعض الطلبة المسلمين العرب في تورنتو – كندا – حيث حاول بعض الطلبة من القادمين الجدد أن يتجه نحو الجنوب الشرقي بناء على الخارطة، فقام البعض الآخر واستخدم المجسم الكروي، وبرهن على أنّ الشمال الشرقي هو الاتجاه الصحيح، وانتهى الخلاف ضمن مجتمع الطلبة دون رسائل إلى المراجع ودون ضجة إعلامية. وأواخر عام 1989 اختلف بعضهم حول استخدام البوصلة في تعيين اتجاه القبلة في أحد مساجد نيويورك حيث أشارت إحدى البوصلات إلى الجنوب الشرقي وأخرى (رزم آرا) إلى الشمال الشرقي. وانقسم المسلمون في المسجد حول هذه المسألة إلى فريقين: الأوّل، اعتبر الاتجاه الصحيح للقبلة هو الشمال الشرقي بناء على الأساس العلمي الرياضي – الفلكي، لأنّ الخطوط السمتية (أي أقواس الدوائر العظمى التي تمرّ بمكة ومدن أميركا الشمالية) كلها تتقاطع من خط الشمال الجغرافي بزوايا حادة (أي متجهة نحو الشمال الشرقي). والثاني: اعتبر الاتجاه الصحيح للقبلة هو الجنوب الشرقي على أساس أن خارطة العالم المعروفة باسم خارطة ميكيتور (Mercator) (أي خارطة الاسقاط الاسطواني) ترينا أن مكة تقع جنوبي شرق أميركا الشمالية، وإذا رسمنا خطوطاً مستقيمة بين أي مدينة أو موقع في أميركا الشمالية ومكة المكرمة، فإنّ هذه الخطوط تنطلق بزوايا منفرجة بالنسبة لخط الشمال الجغرافي. والفرق بين الاتجاهَين يزيد في بعض المناطق عن خمسين درجة قوسية. أوائل عام 1990 حاول البعض إيجاد مخرج شرعي من هذه المشكلة، فرفعوا المسألة إلى المراجع الدينية العليا في العراق ولبنان، وأرسل البعض الآخر أسئلة إلى أساتذة الجغرافيا في بعض الجامعات يستفسرون عن زاوية الاتجاه الصحيح بين نيويورك ومكة. فأجاب سماحة الإمام أبي القاسم الخوئي من النجف بتاريخ 27 كانون ثاني و10 حزيران 1990 على الرسائل بقوله: "العبرة في القبلة إنما هي بالجهة العرفية ولا عبرة بالأقربية بحسب المسافة الخارجية، وتعرف الجهة العرفية بأن يعتبر إزالة الحواجز والمرتفعات الأرضية ويفرض خط وهمي مستقيم يمر في عمق الأرض من جهة المصلي إلى الكعبة المشرفة. وحسبما يظهر من خارطة الكرة أن هذا الخط في مورد السؤال متجه إلى الجنوب الشرقي من موقف المصلي وعليه فالاتجاه المذكور هو قبلة المنطقة. ومع ذلك فإن حصل للمكلف الاطمئنان أو الظن بخلاف ذلك مع رعاية مبنانا من كون العبرة بالوقوف تجاه الخط الوهمي المذكور لا الأقربية على سطح الكرة عمل على تطبيق ظنه أو اطمئنانه وصحت صلاته". وأجاب سماحة السيد محمد حسين فضل الله بتاريخ 17 أيلول 1991، و26 نيسان 1992 على الرسائل الموجّهة إليه بهذا الصدد بقوله: "هذه (أي تعيين القبلة) ليست من المسائل التي يرجع فيها المقلد إلى المرجع، بل هي من المسائل التي يرجع فيها المقلد إلى المرجع، بل هي من المسائل الموضوعية التي يرجع فيها إلى أهل الخبرة، فإذا تيقن الإنسان بأنّ القبلة هي شمال شرق فعليه أن يصلي إلى الشمال الشرقي، ولا يجوز له الصلاة إلى الجنوب الشرقي. وإننا من خلال دراستنا للمسألة تأكدنا أنّ القبلة في أميركا الشمالية هي شمال شرق والله العالم". وفي رسالة جوابية أخرى حول الموضوع نفسه أجاب: "بعد التدقيق في المسألة ثبت لدينا أنّ الاتجاه في كندا وأميركا هو الشمال الشرقي". لم تؤد الإجابات إلى إزالة الخلاف القائم نهائياً ولكنها جعلت الأكثرية من المصلين تثبت على الجهة التي يقول بها العلم أي الشمال الشرقي، بحيث رجحت كفة القائلين بالرأي العلمي وحل اليقين مكان الشك لدى بعض الحائرين. وذلك بعد جلسات طويلة من البحث والدراسة والنقاش في أوساط الجاليات الإسلامية في سائر مدن أميركا الشمالية، خاصة وأن رأي الإمام الخوئي لم يكن ملزماً لمن كان لديه الاطمئنان واليقين بالاتجاه نحو الشمال الشرقي عن علم ومعرفة، وأصبح مؤكداً لكل المشتغلين بمسائل الهندسة الفراغية والمستوية أنّ الخط الوهمي (الذي أشار إليه الإمام الخوئي) والقوس على سطح الكرة يقعان في نفس المستوى هندسياً، وينطلقان من نقطة واحدة (مونتريال مثلاً) ويلتقيان في نقطة واحدة (مكة) على محيط الدائرة العظمى. انتقلت حمى وعدوى الجدال من نيويورك إلى واشنطن وبوسطن، وسارات بسرعة غريبة من شرقي الولايات المتحدة إلى غربها، ثمّ انتشرت في كندا بين الجماعات الإسلامية العربية. وآخر رأي أصدره الإمام الخوئي (قدس) قبل وفاته على صفحات مجلة "النور" الصادرة في لندن، انكلترا في شهر تموز 1992، حول موضوع القبلة قوله: "إنّ العبرة في اتجاه القبلة أن يفرض كون الأرض بين المصلي والكعبة المشرّفة مسطحة، والتقوّس الموجود على سطح الأرض بين النقطتين زائلاً، بحيث تصبح هذه القطعة من الأرض بعد الإزالة المذكورة على شكل دائرة مسطحة قطرها الخط المستقيم الموصل بين المصلي والكعبة المعظمة. وبحسب تشخيصنا يكون الاتجاه من موقف المصلي في نيويورك وديترويت وسائر مناطق أميركا الشمالية إلى الجنوب الشرقي. فإن لم يحصل للمكلف اطمئنان بخلاف ذلك مع رعاية مبنانا عمل به، وإن اطمأن بالخلاف عمل على طبق اطمئنانه الشخصي". وفي هذه الفرضية أو التجربة النظرية لم يلزم الإمام الخوئي (قدس) أحداً برأيه، بل ترك للجميع حرية الاختيار حسب معارفهم وخبراتهم واطمئنانهم. وقد عنونت دراسةٍ (مناقشة علمية حول تشخيص اتجاه القبلة انطلاقاً من فرضية الإمام الخوئي) عالجت فيها فرضية الإمام الخوئي بطريقة رياضية، وبيّنت نظرياً وعملياً أنّ الاتجاه سيكون على الدائرة المسطحة أكثر إلى ناحية الشمال مما هو الآن على سطح الكرة، وأرسلت الدراسة إلى مؤسسة الخوئي في لندن ومجلة "النور" الصادرة عن تلك المؤسسة.   4- الجواب العلمي للمسألة: وكان من الذين سعوا لزيادة المعرفة والاطلاع من أجل اتخاذ موقف صحيح، واتصلوا بالمؤسسات العلمية، السيد م. جواد (مدينة جامايكا، نيويورك) الذي وجه بتاريخ 28 أيلول 1990 رسالة إلى البروفسور برايان كلنكنبرغ، أستاذ الجغرافيا في جامعة بريتش كولومبيا في فانكوفر وأخرى إلى البروفسور أ. ف. برغهاردت، أستاذ الجغرافيا في جامعة ماك ماستر في هاملتون، أونتاريو، وطلب السيد جواد في رسالتيه المساعدة في تحديد اتجاه القبلة بقوله: "نحن جماعة من المسلمين في الولايات المتحدة، والمطلوب منا أثناء الصلاة أن نواجه الكعبة، ولمعرفة الاتجاه الذي يفترض أن نواجهه فإننا نرغب باستشارتكم حول اتجاه الكعبة، وذلك بغضّ النظر عن أي عوائق قد تكون في الطريق بما في ذلك الأرض نفسها. وعلى سبيل المثال، لنفترض أنك تريد أن تحفر ثقباً مستقيماً من مدينة نيويورك إلى مكة، ففي أي اتجاه بالنسبة إلى مدينة نيويورك تبدأ بالحفر. نأمل بالحصول على مشورتكم العاجلة حول هذا الأمر، وذلك لأنّه يوجد لدينا حالياً جوابان مختلفان حول هذه المسألة". وبملاحظة سريعة لمضمون رسالة السيد جواد التي أثارت – كما يبدو – لدى الخبراء الذين تلقوها بعض الغموض وسوء الفهم والبلبلة نتيجة للتعابير التالية: 1- "بغضّ النظر عن أية عوائق قد تكون في الطريق بما في ذلك الأرض نفسها": فالكعبة كما نعلم قائمة على سطح الأرض. وإذا اعتبرنا الأرض عائقاً يحول دون الوصول إلى الكعبة مباشرة فكيف يمكن أن نغضّ النظر عنها، ونحن والكعبة متواجدون عليها ومرتبطون بها. فسواء شئنا أم أبينا نحن على الأرض والكعبة أيضاً على الأرض. وذلك واقع مادي وهندسي محسوس لا يمكن التغاضي عنه إذا أردنا أن نجد خط الاتجاه الصحيح من نقطة تواجدنا إلى نقطة الكعبة. 2- "لنفترض أنك تريد أن تحفر ثقباً مستقيماً (في باطن الأرض) من نيويورك إلى مكة": وهذا التعبير أو الافتراض، بالرغم من أنّه يمثل فكرة ممكنة ومقبولة على الصعيد الفيزيائي، فقد وصفها البروفسور برغهاردت بالسخافة. ولو قال السيد جواد مثلاً: "لنفترض أننا نريد رسم خط وهمي مستقيم في باطن الأرض بين نيويورك ومكة" لكان الوقع والصدى المفهوم لدى خبراء الجغرافيا يختلفان عن الانطباع الذي حصل لديهم، والذي نلاحظ ملامحه التي تتصف بالغموض وسوء الفهم من خلال الأجوبة والمشورة التي قدموها. فقد أجاب البروفسور برغهاردت (جامعة ماك ماستر) بتاريخ 10 تشرين أوّل 1990 قائلاً بوجود حلّين للمسألة: الأوّل: أسماه حلّ المسافة الأقصر (The Shortest distance) وهذا الحل يقوم على أساس استخدام طريقة الدائرة العظمى في المثلثات الكروية بين نيويورك ومكة، واقترح على السائل أن يستخدم مجسماً للكرة الأرضية بحيث يصل بين موقعي مكة ونيويورك بخيط مشدود، فيلاحظ أنّ الخيط يبدأ من نيويورك باتجاه الشمال الشرقي ويستمر متمايلاً نحو اليمين، فيصبح اتجاهه نحو الشرق فوق وسط المحيط الأطلسي، ثم يصير اتجاهه نحو الجنوب الشرقي فوق مصر. ويقول البروفسور برغهاردت: إنّ هذا الخط، حسب رأي العلماء هو الأكثر توجهاً والأقصر مسافة بين المكانين، ولكنه يغير اتجاهه بنسبة ثابتة (لأنّه قوس دائرة عظمى) والأسوأ من كل ذلك هو أنّ هذا الخط يبدأ باتجاه الشمال الشرقي في حين أن مكة تقع جنوب شرق نيويورك نسبياً. الثاني: أسماه حلّ الاتجاه الثابت (The Constant direction) ويقوم هذا الحل على أساس استخدام طريقة خط الميل المتساوي أو الثابت (Rhumb Line) على خارطة الاسقاط الاسطواني (خارطة ميركيتور)، وذلك برسم خط مستقيم على الخارطة المسطحة بين نيويورك ومكة. واقترح على السائل أن يستخدم خارطة العالم حسب اسقاط ميركيتور، ويصل بالمسطرة بين موقعي مكة ونيويورك، فيحصل على خط مستقيم ينحرف بمقدار حوالي عشر درجات نحو الجنوب الشرقي. وفي هذه الحل اعتبر البروفسور برغهاردت أنّ الخارطة المسطحة صحيحة ودقيقة، بخلاف الحقائق التي يلقّنها لطلابه في الجامعة نحو الجنوب الشرقي. وفي هذا الحل اعتبر البروفسور برغهاردت أنّ الخارطة المسطحة صحيحة ودقيقة، بخلاف الحقائق التي يلقّنها لطلابه في الجامعة، علماً أنّ الجمعية الجغرافية الأميركية اتحاد الجغرافيين العالمي قد اتخذ قراراً عام 1989 بعدم جدوى استخدام خرائط الاسقاط الاسطواني (ميركيتور) لأنها غير صحيحة، وذلك لأنّ المسافات والمساحات والاتجاهات (الواقعة شمال خط العرض 30 شمالاً وجنوب خط العرض 30 جنوباً) مشوّشة ومضلّلة ومشوهة للكثير من معالم البقاع العالمية. ويقول البروفسور برغهاردت مؤكداً بأن علماء الجغرافيا اختاروا الحل الأوّل لهذه المسألة (أي قوس الدائرة العظمى)، إلا أنّه نعت فكرة حفر ثقب في الأرض بين نيويورك ومكة بالسخافة كما ذكرنا. وكان من الواجب على البروفسور برغهاردت أن لا يعتبر ظاهرة "الاتجاه الثابت" كحل مستقل، فهو في هذه الحالة قد نسي أو تناسى أن قوس الدائرة العظمى (الحلّ الأوّل) يمثّل الأقربية والاستقامة والاتجاه الثابت في الوقت نفسه. و"الاتجاه الثابت" في الحل الثاني المزعوم لا وجود له إلا على الخريطة المسطحة، أما في الواقع فهو خط مُنحنٍ يصل بنا إلى جنوب أفريقيا إذا تابعناه على الخارطة الكروية. واما البروفسور كلينكنبرغ (جامعة بريتش كولومبيا) فقد أجاب بتاريخ 29 تشرين أول 1990 بجواب يؤكد فيه أن قوس الدائرة العظمى (السمت) يمثل الاتجاه الصحيح ولكنه أوهم السائل بوجود فارق في الاتجاه بين السير على سطح الأرض من نيويورك إلى مكة باتباع جهة السمت (الدائرة العظمى) وبين التوجه بخط مستقيم يمر في باطن الأرض بين الموقعين. ولكنه يعود فيؤكد بأنّ الفوارق في الاتجاه ضئيلة جدّاً وليس بها تأثير يذكر على الجواب الصحيح. إلا أنّه بعد ذلك قد عين زاوية الاتجاه من نيويورك إلى مكة على الخارطة المسطحة بمقدار 75، 104 درجات بالنسبة إلى الشمال الجغرافي لمن يريد أن يحفر ثقباً مستقيماً في باطن الأرض بين نيويورك ومكة. وهذه الزاوية تعني 14.75 درجة نحو الجنوب الشرقي، وهي تختلف عن الزاوية التي أقرّها البروفسور برغهاردت بمقدار 5 درجات قوسية. والملاحظ أن كليهما قد اعترف وأقرّ وقال بأن زاوية القبلة تكون علمياً باتجاه الشمال الشرقي من نيويورك، ولكن غموض السؤال (من ناحية حفر ثقب في باطن الأرض) جعل الأجوبة تتعرض للخريطة المسطحة وأدى إلى الاختلاف حول تعيين زاوية حفر الثقب. والمهم أنّه بعد أن انتشرت أجوبة برغهاردت وكلينكنبرغ بين أيدي المسلمين حصل توهّم لدى البعض منهم بجواز استخدام خط الانحراف الثابت (الخط الرومي Rhumb) على الخريطة المسطحة بدلاً من خط الانحناء الأرضي (الخط الجيوديسي Geodetic) على سطح الكرة في تشخيص وتعيين اتجاه القبلة. وبذلك لم تؤد استشارة علماء الجغرافيا إلى حل الخلاف نهائياً، بل زادت الطين بلة، كما يقال.   المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 40 و46 لسنة 1994م

ارسال التعليق

Top